“الشعب الأميركي شبع من حروب أمريكا الخارجية غير المبررة والمكلفة، ولكن بعض القيادات لا تأبه لذلك ما أحدث شرخاً بين رغبات الأمريكيين، ورغبة القادة الداعين إلى الحروب”. “ان أمريكا حالياً تحتاج إلى دبلوماسية فاعلة بدلاً من الخطابات الشعبوية الرنانة لكي تستعيد دورها الرئيسي، وأن هذا ما حاول فعله الرئيس السابق باراك أوباما في إشرافه على المفاوضات النووية مع إيران عبر القنوات المباشرة والخلفية وعن طريق التعاون مع أوروبا الموحدة (بدلاً من تقسيمها) ومع روسيا والصين”. (ويليام بيرنز: المدير الجديد “للسي آي أي”).
من المفارقات الإيجابية التي حملتها تطورات المشهد الأميركي بعد هزيمة الرئيس دونالد ترامب وفوز الرئيس المنتخب جو بايدن، هو فريق العمل الذي يسعى لتشكيله قبل تسلمه مقاليد الرئاسة في الوقت المحدد (20 يناير/ كانون الثاني الحالي). والملاحظ في هذا الفريق أن معظم الشخصيات المختارة لقيادة العمل السياسي والدبلوماسي والأمني كان لها دور أساسي في العقود المنصرمة على مدى أكثر من 20 عاماً، وخاصة فيما يخص ملفات المفاوضات في الشرق الأوسط، وبالأخص الملف النووي الإيراني.
فقد اختار جو بايدن لغاية الآن، الجنرال لويد أوستين لوزارة الدفاع. (أول وزير للدفاع من أصول أفريقية). أنتوني بلينكون وزيرا للخارجية. (20 عاماً قضاها في العمل مع بايدن). جيك سوليفان مستشارا للأمن القومي. (مساعدا لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون وكان له دورا بارزا في المفاوضات مع إيران).
ومن جملة من اختار لفريق عمله كان الدبلوماسي المخضرم وليام بيرنز، الذي شغل مراكز عدة حول العالم، لتولي إدارة وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي إيه” . وقال بايدن إن “وليام بيرنز دبلوماسي نموذجي يتمتع بخبرة عقود على الساحة العالمية”، “إن بيرنز يتفق معي على أن عمل الاستخبارات لابد أن يتجرد من السياسة، وأن محترفي الاستخبارات الذين يكرسون حياتهم لخدمة أمتنا يستحقون منا التقدير والاحترام”.
وليام بيرنز من أوائل الشخصيات السياسية والدبلوماسية التي تنبأت بما سيكون عليه حال دونالد ترامب فيما لو خسر الانتخابات لذا كتب في صحيفة أتلانتيك: “إذا انهزم، فإنني أشك أنه سينخرط تلقائيا في الالتزام بعملية نقل سلس للسلطة. ففي أحسن الأحوال سيعمل جاهدا على تبرير الهزيمة ووصم الانتخابات بالتزوير. وفي الأسوأ، فإنه سيسعى إلى الاحتجاج على النتيجة أو رفضها”.
شغل بيرنز منصب نائب وزير الخارجية في فترة الرئيس أوباما، و كان سفيرا لدى روسيا والأردن، ثم مساعدا لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى. ويعتبر بيرنز شاهداً على انهيار جدار برلين، وانتهاء الحرب الباردة، وإطلاق عملية السلام، حيث كان ضمن وفد وزير الخارجية جيمس بيكر للتمهيد لانعقاد مؤتمر مدريد للسلام في 1991. وعُيّن سفيراً لبلاده في موسكو في 2005، بعدما عمل في السفارة الأميركية بالعاصمة الروسية بداية التسعينيات. كما كان شاهداً على غزو العراق في 2003، إضافة إلى دوره الرئيسي في المفاوضات السرية حول الاتفاق النووي الإيراني.
بعض وسائل الإعلام العبرية اعتبرت بيرنز كابوساً مزعجاً، بل ذهب بعضها الى اعتباره معرقلاً لسياسات الكيان الصهيوني ومخططاته الخبيثة. في كتابه “القناة الخلفية” 2019، يكتب بيرنز ويقول، “ان المعرقل الأساسي لمؤتمر مدريد وغيره من مفاوضات القضية الفلسطينية أو في قضية التعامل المفاعل مع سوريا وإيران (وخصوصا في الاتفاق النووي) كانت إسرائيل تحت قيادة الأحزاب المتطرفة (اسحق شامير وبنيامين نتنياهو وأمثالهما) التي لا ترغب بالفعل في التخلي عن الأراضي الفلسطينية المحتلة في حرب عام 1967 حسب قرارات الأمم المتحدة، ولا بنشوء دولة فلسطينية. كما تخشى أي تقارب وتعاون بين قيادة الولايات المتحدة من جهة، وإيران من جهة أخرى”.
ويروي في أحد فصول الكتاب عن دوره في المفاوضات بين أمريكا وإيران “التي بدأت سرية عام 2012 في سلطنة عُمان واستمرت حتى عام 2015 عندما وقّعت اتفاقية (P5+1) في جنيف سويسرا قبل ان يتراجع عنها ترامب بعد انتخابه رئيساً، علماً ان محادثات بين الاتحاد الأوروبي وإيران كانت قد بدأت علناً في جنيف منذ عام 2008”.
عندما ألغى الرئيس دونالد ترامب الاتفاق النووي الإيراني من جانب الولايات المتحدة، نُسب الى بيرنز قوله :”لقد أهدى ترامب آية الله الخامنئي القنبلة النووية”. وهذا ما ظهر إلى العلن بعدما عاد الملف النووي الإيراني للواجهة عندما قررت طهران زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم قبيل دخول جو بايدن للبيت الأبيض. الإعلام الألماني تابع باهتمام الملف، متسائلا عن المسافة التي باتت تفصل الجمهورية الإسلامية عن القنبلة الذرية، إذ أعلنت إيران أنها بدأت في إنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة عشرين بالمئة، في أبرز إجراء تصعيدي لها منذ بدء تراجعها التدريجي عام 2019 عن تنفيذ غالبية التزاماتها الأساسية، بموجب الاتفاق النووي الدولي المبرم عام 2015. وكانت القيود التي فرضها الاتفاق النووي تتركز بشكل خاص على تقييد أنشطة إيران النووية بشكل يمدد الفترة اللازمة لإنتاج قنبلة نووية، إذا ما قررت طهران ذلك إلى عام على أبعد تقدير بدلا من شهرين أو ثلاثة أشهر، وإن كانت الجمهورية الإسلامية تصر على أنها لم تسع قط للحصول على السلاح النووي.
ولعل بيرنز من المسؤولين الأمريكيين السابقين الواضحين والصريحين في مواقفهم إزاء إسرائيل وتطرفها، حيث يقول: إن إسرائيل “كانت الدولة الأكثر قلقاً إزاء مبادرات الرئيس أوباما نحو إيران وخصوصا بنيامين نتنياهو الذي كان يردد بأن العقوبات الاقتصادية والتعامل الدبلوماسي الأمريكي مع إيران غير كافٍ لضبط ولإيقاف طموحات إيران بالنسبة إلى التسلح النووي، والمطلوب عمل عسكري أمريكي ضد مواقع التخصيب الإيرانية”. ويضيف: “أن أوباما لم يكن مقتنعاً باستخدام العمل العسكري ضد إيران وانتقد مواقف نتنياهو الفظة ومحاولات رئيس الحكومة الإسرائيلية التأثير سلباً على حظوظ أوباما في الفوز بولاية رئاسية ثانية عام 2012. ورأى أوباما آنذاك ان العمل العسكري سيعيد الأمور أكثر من ثلاث سنوات إلى الوراء في العلاقة مع إيران”.
قد يكون من السابق لأوانه الحديث عن مستقبل السياسة الأميركية المرتقبة في عهد جو بايدن إلا أن هذا الفريق يعتبر من الأشخاص الذين ساهموا بشكل أو بآخر في إدارة المفاوضات المعقدة في ملفات الشرق الأوسط وبالتالي هم أقرب إلى النهج السياسي لعقلية جو بايدن الذي صرح وأعلن مراراً عن عودته الى الاتفاق النووي الإيراني، ولا شك أن وليام بيرنز يعتبر من أهم المساهمين في صياغة هذا الاتفاق من قبل الفريق الأميركي إن لم يكن الفاعل الأساسي في هذا الفريق، وبالتالي يعتبر من أشد المتمسكين بالعودة إلى هذا الاتفاق.
اعتقد أن الأمور تتجه الى التهدئة في منطقة الشرق الأوسط، إذا ما استطاع بايدن الغاء القرارات المثيرة للجدل ان كان على المستوى الداخل الأميركي أو على المستوى الخارجي، والملف الأكثرحساسية في منطقتنا أي الملف النووي الإيراني، يبدو أنه سلك طريقه نحو التهدئة، من خلال هذه التعيينات والتي تعتبر من ركائز الاتفاق النووي 5+1 وبالتالي قد نشهد انفراجاً في هذا الملف الشائك.