العلاقات التركية الأفريقية علاقات قديمة، ترسخت في حقبة الحكم العثماني الذي امتد من شمال أفريقيا إلى شرقها، وظل يؤسس لعلاقات تمزج بين تحقيق مصالح مشتركة للدولة العثمانية والدول الواقعة تحت سلطانها، لكنه في ذات الوقت بدأ في تعزيز دوره وترسيخ مكانته في الوجدان الشعبي من خلال أُطروحة أيديولوجية أسهمت في تشكيل وصياغة العقل الشعبي في كثير من الدول التي بلغها السلطان العثماني وأسس فيها دولة حديثة ناهضة كما فعل محمد علي باشا في مصر.
وفقاً لخطة الانفتاح على أفريقيا التي اعتمدتها الحكومة التركية في العام 1998، تقول تركيا أنها دولة أفروآسيوية، وتهدف هذه الخطة إلى الانفتاح على أفريقيا من أجل تحقيق نقلة نوعية على صعيد العلاقات السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية بين تركيا والدول الأفريقية لتحقق مقولة “تركيا دولة أفروآسيوية”. وفي هذا السياق، أعدت مستشارية التجارة الخارجية في الجمهورية التركية في بداية عام 2003 “استراتيجية تطوير العلاقات الاقتصادية مع الدول الأفريقية” وأعلنت حكومة الجمهورية التركية عام 2005 “عاماً لأفريقيا”.
تنفيذاً للتوجه الاستراتيجي التركي تجاه أفريقيا، عملت تركيا على العودة إلى القارة السمراء من مداخل سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية، واعتمدت لذلك أبواباً ثلاث؛ باب العلاقات الثنائية مع الدول، وباب دبلوماسية القمة، وباب المنظمات الاقليمية الأفريقية.
وفي العلاقات الثنائية توسعت علاقات تركيا الأفريقية مع الدول الأفريقية، وذلك بتأسيس علاقات جديدة مع دول لم تكن تربطها بها علاقات دبلوماسية، ومن خلال تعزيز علاقاتها التي كانت قائمة قبل اعتماد خطة الانفتاح على أفريقيا، وقد نتج عن ذلك إرتفاع عدد الدول الأفريقية التي إرتبطت بعلاقات دبلوماسية مع تركيا إلى 49 دولة من أصل 54 دولة.
ومن مدخل الدبلوماسية الرئاسية، أو دبلوماسية القمة، حدثت زيارت متبادلة بين الرؤساء الأتراك والأفارقة، تطورت إلى مؤتمر قمة دوري يجمع الرؤساء الأفارقة مع الرئيس التركي بمشاركة قادة المنظمات الاقليمية الأفريقية التي وثقت تركيا علاقاتها بها إلى درجة اكتساب عضوية مراقب في عدد من تلك المنظمات من بينها الاتحاد الأفريقي، الذي اتخذ قراراً في القمة الأفريقية العاشرة عام 2008 إعتبر فيه أن تركيا شريكاً استراتيجياً له.
اعتمدت القمة التركية الأفريقية التي انعقدت في اسطنبول في آب/أغسطس 2008 بمشاركة 49 دولة و11 منظمة اقليمية أفريقية بالإجماع “إعلان إسطنبول للتعاون التركي الأفريقي”، و”وثيقة التعاون والتضامن من أجل مستقبل مشترك”، و”إطار التعاون للشراكة التركية الأفريقية”.
في جانب المنظمات الاقليمية، لم تحصر تركيا علاقاتاتها بالاتحاد الأفريقي فقط، إنما انفتحت على عدد آخر من المنظمات الأفريقية فنالت عضوية مراقب بالمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ECOWAS) اعتبارا من شهر أيار 2005، ثم انضمت إلى منتدى الشركاء الدولي التابع للهيئة الحكومية الدولية للتنمية (IGAD) في شهر حزيران 2008، ثم نالت عضوية مراقب بمجموعة دول شرق أفريقيا (EAC)، ثم نالت في عام 2008 عضوية بنك التنمية الأفريقي وصندوق التنمية الأفريقي.
أثمرت خطة الانفتاح التركي على أفريقيا عن انتشار دبلوماسي واسع في القارة الأفريقية، وعن توسع في العلاقات الثقافية من خلال انتشار المراكز الثقافية التركية والمؤسسات التعليمية، وعبر فتح مؤسسات التعليم العالي للآلاف من الطلاب الأفارقة، كما أثمرت تلك الخطة عن تدفق استثمارات القطاع الخاص التركي في الدول الأفريقية بحجم بلغ نحو 50 مليار دولار عام 2019، وتخطط تركيا إلى زيادة حجم التبادل التجاري مع سائر الدول الأفريقية، مع تركيز خاص على الدول الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء، حيث خططت تركيا لزيادة حجم التبادل التجاري معها ليصبح 50 مليار دولار بحلول العام الماضي،لكن لم تتوفر بيانات عنه بعد.
لقد أولت تركيا الصومال أهتماماً خاصاً في اطار انفتاحها على أفريقيا، خاصة وأن العلاقات بينهما قديمة تعود إلى عهد الدولة العثمانية التي استمرت لمدة 381 عاماً، تراجعت بالضرورة حين تراجعت مكانة تركيا الدولية في ظل الحقبة الأتاتوركية، لكن البلدين قررا استئناف علاقاتهما التي علقتها الحرب الأهلية الصومالية حين أغلقت سفارة أنقرا في مقديشو عام 1991، وأعيد فتحها عام 2011 الأمر الذي دفع بالعلاقات الثنائية إلى الأمام وطورها في المجالات كافة.
قدمت تركيا مساعدات للصومال منذ إعادة فتح سفارتها بمقديشو وحتى الآن، وبلغت جملة تلك المساعدات نحو مليار دولار، وزاد حجم التبادل التجاري بينهما حتى بلغ نحو 300 مليون دولار، وسيزداد بعد التوقيع على الاتفاقيات الجديدة. ومع تلك المساعدات توسع العمل الخيري التركي في أنحاء الصومال المختلفة، حيث أُقيمت المستشفيات والمدارس، وأسهمت تركيا بقدر كبير في بناء المطارات والموانئ والطرق، كما قامت ببناء مبان حكومية كثيرة، ومع كل ذلك فتحت جامعاتها لآلاف الطلاب الصوماليين وتكفلت بمصروفاتهم الدراسية، الأمر الذي عزز من مكانة تركيا عند الصوماليين.
تحت ظلال التدافع اليمني الصهيوغربي في البحرين الأحمر والعربي، وفي إطار التنافس الاقليمي والدولي على المياه الدافئة من جهة، وعلى الموانئ والسواحل ذات الموقع الاستراتيجي من جهة ثانية، وبعد توقيع أثيوبيا وأرض الصومال على مذكرة تفاهم تمنح بموجبها الأخيرة أثيوبيا ميناءً على الساحل الصومالي ذو الحساسية الاستراتيجية؛ وقعت الصومال وتركيا على اتفاقية للتعاون الدفاعي والاقتصادي مدتها 10 سنوات، بُنيت على محورين متجاورين، محور عسكري ومحور اقتصادي، ونصت الاتفاقية على:-
- بناء وإدارة منشآت أمنية ساحلية.
- إنشاء منشآت أحادية ومشتركة وإقامة مناطق أمنية.
- تطوير وتحديث القوة البحرية للصومال.
- اتخاذ تدابير أحادية ومشتركة لمكافحة كل التهديدات في المناطق البحرية الخاضعة للسيادة، مثل “الإرهاب” والقرصنة والنهب والصيد غير القانوني والتهريب وغيرها من المهددات.
- تقديم الدعم التدريبي والتقني والوجستي للجيش الصومالي بما في ذلك المعدات العسكرية.
- تعزيز مساهمة الموارد البحرية في الاقتصاد الصومالي.
- تخطيط وتنفيذ العمليات الجوية والبرية والبحرية المشتركة، في حال الحاجة للدفاع فيما يتعلق باستخدام هذه الموارد.
- إنشاء الموانئ والمرافق وتشغيلها، وبناء السفن، واتخاذ التدابير القانونية اللازمة لذلك، والعمل على توحيد قوانين الملاحة البحرية بين البلدين.
- المساهمة في صون البيئة ومنع التلوّث البحري.
بموجب هذه الاتفاقية، ستتمدد تركيا على كل الساحل الصومالي البالغ طوله نحو 3 ألف كلم يمتد من كينيا جنوبا إلى جيبوتي شمالاً، وستضطلع بحمايتة عبر قواتها البحرية بسفنها الحربية وبجنودها، وستعزز من دورها في إدارة الموانئ البحرية الصومالية التي بدأتها بإدارة ميناء مقديشو في العام 2014.
وسيوطد الاتفاق كذلك، الوجود العسكري التركي في الصومال والمنطقة، والذي تمثله قاعدة عسكرية أنشأتها تركيا في عام 2017، ظلت تقدم من خلالها دعماً عسكرياً للجيش الصومالي يتمثل في عمليات التدريب والتسليح، وتمكنت هذه القاعدة من تدريب وتأهيل 10 ألف من أفراد الجيش الصومالي، كما تمكنت من فتح أسواق أفريقية لمنتجاتها العسكرية المختلفة.
سبق افتتاح القاعدة العسكرية التركية في الصومال، افتتاح تركيا أكاديمية عسكرية في شهر أيلول/سبتمبر 2017 لتأهيل الضباط الصوماليين، وسبق ذلك توقيعها اتفاقية مع الصومال تتضمن إعادة تطوير جهاز الشرطة الصومالي الذي تكلفت بدفع رواتب العاملين فيه.
إنّ الاتفاقية الصومالية التركية التي أُبرمت يوم 8 شباط/فبراير الماضي تفتح باباً لمبادلة المزايا الاستراتيجية بين الدولتين؛ فمن جهة تمكن الصومال من الاستقواء بالقوة التركية في مواجهة التحديات الداخلية والمهددات الخارجية التي تحيط بالصومال، وسيعود الاتفاق على الصومال بفوائد من بينها تعزيز قدراته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وسينعكس ذلك على دوره ومكانته الاقليمية، لكنه بكل تأكيد سيؤثر على خياراته الوطنية وعلى قراره الوطني وبالتالي على سيادته، كما يُمكن تركيا من الحضور “الشرعي” في منطقة القرن الأفريقي التي تمر بأزمات ومهددات خطيرة جراء التنافس الاقليمي والدولي عليها، كما سيمكنها من لعب أدوار كبيرة في ظل ذلك التنافس، وفي ذات الوقت سيدخل تركيا في حالة من الاضطراب في إدارة علاقاتها بالمنطقة لا سيما مع أثيوبيا التي تعمل على اقتطاع جزء من الساحل الصومالي لاقامة قاعدة عسكرية فيه، وفقاً للاتفاق الذي أبرمته مع إدارة أرض الصومال ورفضته الحكومة الصومالية، وفي ظل علاقات قوية تربط بين تركيا وأثيوبيا، وسيزاد اضطراب تركيا حين يدخل الاتفاق الأثيوبي مع أرض الصومال حيز التنفيذ، وحينها سيصبح أمام تركيا خيارات دقيقة وعسيرة.