زلزال اقتصادي واجتماعي، لم يعرف بعد حجم تداعياته، أصاب دول العالم قاطبة إثر تفشي فيروس كورونا. وبدأت ملامح عالم جديد بالتشكل، مع استمرار توسع هذه الجائحة. فليس تفصيلا أبدا أن يلجأ مواطنو إيطاليا الى استبدال علم الاتحاد الأوروبي بعلم الاتحاد الروسي أو علم جمهورية الصين الشعبية، ولا أن تعمد دول الاتحاد الأوروبي الى إغلاق حدودها ومستشفياتها بوجه مواطني الدول الأخرى التي يتشكل منها هذا الاتحاد أو أن تحتفظ بالمواد والمستلزمات الطبية المخصصة لمكافحة هذا الفيروس لمواطنيها ومنعها عن سائر مواطني الاتحاد ودوله! وأن تندفع إسبانيا وإيطاليا وفرنسا الىى التوجه نحو تأميم مستشفياتها الخاصة، وأن ينعي الر ئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش التضامن العالمي وأن يقول أن التضامن الأوروبي “غير موجود” وأنه كان قصة خرافية على الورق وأن يطلب المساعدة من جمهورية الصين الشعبية ويصف أخلاقها بالعالية، وأن يصب جام غضبه على الاتحاد الأوروبي وسياساته الاقتصادية التي كانت تمنع على بلاده شراء البضائع من الصين وتعديل شروط مناقصاتها الخارجية بحيث لا يكون السعر المنخفض هو الأولوية، لتشتري بضائع الاتحاد ذات الجودة الأعلى، وتمنع عن بلاده حاليا شراء المستلزمات الطبية بحجة انها لا تكفي دول الاتحاد، مضيفا انهم عندما كانوا يريدون المال الصربي فرضوا عليه شروط مناقصاتهم، لتأخذ الشركات الأوروبية المال الصربي، واليوم وسط الألم والخطر، لم يعد المال الصربي ضروريا ورفضوا بيع بلاده المعدات، وان ينهي كلامه بتوجيه الشكر لدول الاتحاد الأوروبي ل “اللاشيء” ، فمعنى ذلك كله أن منظومة الاقتصاد المعولم بدأت بالترنح وستؤول الى الانهيار الحتمي والمدوي.
عالم جديد
لا أحد يدرك حتى الآن تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي، إذ أننا لا نزال في مرحلة مبكرة ومربكة من تفشي الوباء وانتشاره السريع، غير أنه من المحتم أن العالم لن يكون كما كان قبله، وان تداعياته لن تقل عن تداعيات الحرب العالمية الثانية أو أزمة الكساد الكبير أو أحداث الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١.
تجمع نخبة من المفكرين المهتمين بالسياسة والعلاقات الدولية والسياسيين على أن العلاقات الدولية ستتأثر وتتغير بعد هذا الوباء، ويرى هؤلاء أن ما حصل لغاية الآن قد أثبت فشل الولايات المتحدة والغرب بشكل عام في قيادة العالم، وتحول الدفة الى الصين وروسيا ودول جنوب شرق آسيا، وسيعجل فيروس كورونا من تحول بدأ بالفعل من عولمة تتمحور حول أمريكا الى عولمة تتمحور حول الصين. وهذا ما سيؤدي الى تغيير النظام العالمي وتوازن القوى فيه بشكل كبير.
وسيكون من تداعيات هذا الفيروس أيضا انتهاء نظام العولمة الاقتصادية والاعتماد المتبادل والبحث عن سلاسل توريد محلية، ونسف القواعد الحالية لعمليات التصنيع والإنتاج العالمية. ويتوقع أن تنكفىء معظم الحكومات الى الداخل، لعدة سنوات، والبحث عن الاكتفاء الذاتي وربما معارضة الهجرة بأعداد كبيرة، وعدم رغبة في مناقشة القضايا الخارجية، بما فيها مسألة التغير المناخي، وتفضيل تخصيص الموارد للتعافي من الأزمة. وستؤدي الأزمة لمزيدمن الأضرار في العلاقات الأمريكية الصينية وتضعف التكامل الأوروبي ، وسيتأثر مفهوم العولمة كثيرا بشكل عام ، بحيث أن العالم لن يعود لفكرة الاعتماد العولمي المتبادل الذي ساد في بداية القرن الحادي والعشرين.
فشل المعالجات وتفكك أوروبا
لقد أثبت تفشي وباء كورونا فشل المؤسسات الدولية، لا سيما منظمة الصحة العالمية، في القيام بدورها ،الذي كان متوقعا منها، في التحذير والتنسيق للحد من الأزمة . ويمكن ان نلحظ تقوية متواضعة لحوكمة الصحة العامة في العالم.سيقوي الفيروس مفهوم الدولة ويعزز القومية وقبضة الحكومات التي فرضت إجراءات استثنائية للسيطرة على الفيروس ، وسيكون من الصعب ان تتخلى عن سلطاتها الجديدة بعد الأزمة، الأمر الذي سيؤثر سلبا على حركة التنقل والانتقال السريع بين دول العالم ، والعودة الى أنظمة الحجر الصحي على المسافرين أسوة بما كان معمولا به في مطلع القرن الماضي. لقد دفع الفيروس الحكومات والشركات والمجتمعات لتقوية قدرتها لمواجهة الفترات الطويلة من الانعزال والاعتماد على الذات.
لعل من اهم تداعيات فيروس كورونا سيكون تفكك الاتحاد الأوروبي ، كما يتوقع العديد من المفكرين والمحللين، بعد فشله في مواجهة الأزمة على مستوى أعضائه وتضامنهم في ما بينهم، والاتجاه الى مزيد من الانكفاء على الداخل، وتراجع القضايا الدولية ذات الاهتمام المشترك، وتقوية مفهوم الحكومة المركزية وتعزيز قبضة الحكومات دون معارضة. ان فشل الاتحاد الأوروبي في حماية مواطنيه الخمسمئة مليون سيدفع الحكومات الوطنية الى استرداد المزيد من السلطات التي تخلت عنها لبروكسيل، وعلى المدى القصير ستعطي الأزمة دفعا للقوميين ومناهضي الاتحاد والعولمة على حد سواء، وكذلك أعداءالصين في العالم الغربي، جراء الانهيار الاجتماعي والضرر الاقتصادي الذي يتكشف يوما بعد يوم، ربما بشكل سيشبه مرحلة ما بعد الأزمة المالية في ثلاثينات القرن الماضي، وبناء نظام عالمي جديد يحمل ضمانات لحماية الدولة. وفي افضل السيناريوهات ستخرج الديمقراطيات الغربية من قوقعتها وتحاول البحث عن نماذج أكثر أمانا للتعاون المشترك.
الشرق سينتصر؟
أظهرت جائحة كورونا قوة الروح الإنسانية ونجاحها في مواجهة الخطر، كما أظهرت في المقابل الوجه القمين لبعض الشركات والدول التي تحتكر الموارد الطبية وتعمل على الاستثمار في وجع شعوب العالم وأرواحها، وتفضيل الذات على الغير. لقد فشل أتباع البروفسور ميلتون فريدمان ، تلامذة مدرسة شيكاغو الاقتصادية، ممتهنو عقيدة الصدمة والاستثمار في رأسمالية الكوارث، في التصدي لهذه الكارثة البشرية، وخانت الولايات المتحدة الاميركية الوعدالاميركي الذي قامت على اساسه، اذ يبدو ان هؤلاء، ومعهم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لا ينجحون الا في الاستثمار المريب مع الحكومات الفاسدة، عن طريق اغراق الدول بالديون غير القابلة للايفاء، في الوقت الذي تتصدر فيه الصين وروسيا المشهد الإنساني من خلال مد يد العون والمساعدة الى الدول والشعوب التي هي بأمس الحاجة للدعم في هذه الأوقات العصيبة.
سيعجل فيروس كورونا بانتقال القوة والتأثير عالميا من الغرب الى الشرق، بعد نجاحات كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان وروسيا وتجاوب الصين مع اخطائها الأولى، في حين أن أوروبا والولايات المتحدة الأميركية ما تزال تتخبط في معالجة الأزمة، مما أدى الى تلطيخ سمعة النموذج الغربي في العالم. إن المنتصر في الحرب ضد كورونا هو الذي سيكتب التاريخ ويحدد المستقبل بشكل كبير.
ومهما ستؤول اليه نتائج وتداعيات هذا الوباء، فإن العالم لن يكون كما كان قبله، بل سيصبح حتما أقل انفتاحا، وأقل حرية، وأكثر فقرا. ومن يعش يرَ.
للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
?