الاحدثدولي

زيارَةُ الرموزِ الثقيلة: ترامب الثاني في السعودية | بقلم د. بيار الخوري

زيارة دونالد ترامب الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية لم تمرّ كحدثٍ بروتوكولي عابر، بل جاءت في لحظةٍ مشحونةٍ بالتحوّلات، ومعانٍ تتجاوز المجاملة السياسية. ترامب، وقد عاد إلى البيت الأبيض رئيسًا منذ كانون الثاني (يناير) 2025، لم ينتظر طويلًا ليؤكد أنَّ سياسته تجاه دول الخليج العربي هذه المرة ستكون مختلفة في النبرة والأسلوب، وأشدّ ارتباطًا بالحاجة الاستراتيجية.

في ولايته الأولى، تعاملَ ترامب مع دول الخليج بمنطقٍ استعلائي أحيانًا، وبلغةٍ طلبت الكثير وقدّمَت القليل. لكن هذه المرة، بدا المشهد مقلوبًا: رئيس أميركي يعودُ إلى الرياض مُمتَنًّا، لا مُتماديًا، حريصًا على توثيق العلاقة لا اختبار صبرها. والسبب لا يَكمُنُ فقط في النفط أو الاستثمارات، بل في حاجة واشنطن المُتزايدة إلى سيولةٍ تمويلية عاجلة لمشاريعها الداخلية، وسط أزمةٍ تضخُّمية وضغوط فوائد لا تحتمل الترف السياسي.

الاقتصاد الأميركي، رُغمَ صلابته الظاهرية، يُعاني من فجواتٍ تمويلية تُعمِّقها كلفة خدمة الدين الفيدرالي، والتباطؤ المُحتَمَل في النمو. في هذا السياق، لا تملك إسرائيل ولا تركيا ما يكفي من القدرة التحويلية لدعم الاقتصاد الأميركي، بل هما، وبمعايير الربح والخسارة، مستفيدتان صافيتان منه أكثر مما تساهمان فيه. أما دول الخليج، فهي من القوى القليلة القادرة على ضخِّ استثماراتٍ سيادية وتحقيق توازنٍ نقدي في علاقات شراكة لا تزال واشنطن بحاجة إليها أكثر من أيِّ وقتٍ مضى.

من جهةٍ أخرى، تُعامِلُ السعودية ترامب بأنها لم تَعُد في موقع التابع أو المُستَرضى. ولي العهد الأمير محمد بن سلمان يستقبل ترامب من موقعِ الواثق. فهو لا يُقدِّمُ أوراقَ اعتماد، بل يَعرُضُ رؤيةً لدورٍ سعودي مستقل، يبحث عن تنويع تحالفاته من واشنطن إلى بكين، ومن موسكو إلى نيودلهي. السياسة السعودية لم تَعُد تكتفي بإدارة التوازنات؛ هي تحاول صنع دورها المستقل من خلالها.

لكن هذا الطموح محفوفٌ بالمخاطر. فالسعودية تتحرّكُ في إقليمٍ مُضطرب، حيث مصر غارقة في أزماتها، وتركيا تُمارِسُ سياسة الحبال المتعددة، وإيران تتمدّد كلّما سنحت لها فرصة الفراغ، وإسرائيل تتمنّى تخريبَ كلِّ ما حولها. أما النظام الإقليمي، فيعيشُ لحظةَ انتقالٍ مُلتبسة، لا هي مرحلة استقرار، ولا هي مرحلة فوضى شاملة، بل شيءٌ بينهما، حيث تبدو كلُّ الخيارات مفتوحة، وكل التحالفات مؤقتة.

ترامب من جهته يعلم أن السعودية لم تَعُد ورقةً بيد واشنطن، بل طرفًا يصعب تجاوزه. زيارته، رُغمَ ما حفلت به من عبارات مجاملة ومصافحات أمام الكاميرات، تعكُسُ تحوّلًا جوهريًا في ميزان العلاقة. أميركا لم تعد الصديق الوحيد، والخليج لم يعد مجرّد منتج للنفط. الكل يبحث عن شريك لا عن حليف مشروط.

إنها لحظة مركّبة، تتقاطع فيها الطموحات بالحسابات، والمصالح بالهواجس. ترامب يعود، لكن اللعبة لم تعد كما كانت. والسعودية، وإن كانت تُرحّب، تفعل ذلك من موقعٍ مختلف، موقع مَن يعرف أنَّ التقدّمَ لا يلغي الخطر، وأنَّ القوة تزيد ضرورة الحذر.

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى