تُعاني الولايات المتحدة من أزمةٍ مُزدَوِجة. ركّزت العناوين الرئيسة في الأشهر الأخيرة بشكلٍ أساس على أزمة الديموقراطية في أميركا، لكن أزمة نفوذها الدولي وقوّتها العالمية قد تكون أكثر أهمية في المدى الطويل.
تجسّدت أزمة الديموقراطية في أميركا في شخصية دونالد ترامب، “الرئيس الإنعزالي والمُقَسِّم” المهزوم الذي لا يزال يقود الحزب الجمهوري. شرع خليفته، جو بايدن، في مشروع سياسي لإعادة توحيد البلاد، وأعاد بالفعل إحياء العديد من المؤسسات التي هاجمها ترامب خلال توليه منصبه. مع ذلك، فإن عَكسَ الإستقطاب المُتعمّق في البلاد وتغيير عدم المساواة المُتصاعد لن يكونا سَهلَين في بيئةٍ سياسية مدفوعة بالتغيّر الديموغرافي، وانقسام وسائل الإعلام، والتلاعب بالدوائر الإنتخابية.
على الرغم من صعوبة إصلاح المؤسسات الديموقراطية الأميركية، إلّا أنه سيكون من الأصعب تجديد صورة أميركا العالمية وتلميعها. بعد الحرب الباردة، تمتعت الولايات المتحدة بقوّةٍ مُميّزة ونفوذٍ استثنائي. ونظراً إلى أن الأصدقاء والأعداء على السواء بالغوا في تقدير المصالح الأميركية بشكل روتيني، فقد تمتّعت واشنطن بنفوذٍ كبير في غالبية البلدان والمناطق حول العالم.
لكن بسبب حرب العراق، والأزمة المالية في العام 2008، ورئاسة ترامب، لم يعد العالم يُولي أهمية مُميّزة كالسابق لقوّة الولايات المتحدة. إذا كان هناك أي شيء، فهي في انخفاض. فبدلاً من الحفاظ على مصلحة واهتمام في أزمات الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وأفريقيا ومناطق أخرى، تراجعت الولايات المتحدة، وملأت قوى أخرى الفراغ.
في أميركا اللاتينية، لا يزال بإمكان أميركا أن تنفجر ضد حكومة فنزويلا، ولكن من دون التأثير السابق. في كثيرٍ من دول إفريقيا جنوب الصحراء، أصبحت الصين اللاعب الأكثر أهمية. في سوريا وليبيا ومنطقة ناغورنو كاراباخ المتنازع عليها في جنوب القوقاز، تُشكّل روسيا وتركيا المُستقبل. لكن الأكثر إثارة للصدمة هي التطورات في أقدم وأقوى حليف لأميركا: أوروبا.
مع تسبّب جائحة كوفيد -19 في مقتل الملايين في جميع أنحاء العالم، كان من السهل عدم ملاحظة اختتام المفاوضات بين الاتحاد الأوروبي والصين بشأن “الإتفاقية الشاملة للإستثمار” في أواخر العام 2020. بعد سبع سنوات من المفاوضات، تم توقيع هذه الإتفاقية قبل أسابيع فقط من تنصيب بايدن، حيث رفض الأوروبيون المناشدات العلنية من مستشار الأمن القومي الأميركي الجديد، جايك سوليفان، للتشاور مع الإدارة الجديدة أولاً.
من خلال المضي قدماً، قام الاتحاد الأوروبي علناً بتقويض أولوية السياسة الخارجية العليا لإدارة بايدن المُتمثّلة في إعادة التواصل مع الحلفاء لإدارة ومواجهة التحدّي الصيني معاً. وبالتالي فقد أهدر الاتحاد الأوروبي ثقة الإدارة الأميركية الجديدة (وكذلك ثقة اليابان والهند وأوستراليا)، وشجّع الصين على اتباع استراتيجية فرِّق تسد في مواجهة العالم الديموقراطي. إن الإشارة التي يُرسلها تجاهل أوروبا الفاضح للمصالح الأميركية من شأنها أن تُثير استياء صانعي السياسة الأميركيين.
ليس أقل إثارة للدهشة أن المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل هي التي أدارت عملية التفاوض حول الإتفاقية الشاملة للإستثمار. ميركل هي أطلسية مُلتَزمة ولم تعارض الولايات المتحدة حتى عندما قررت غزو العراق في العام 2003. كان العديد من الأوروبيين في ذلك الوقت غير راضين عن إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، وكانوا قلقين من أن أميركا تتمتّع بالكثير من القوة. واليوم، إنقلبت المشكلة: الأوروبيون سعداء ببايدن وأجندته الخاصة بالصين، لكنهم يخشون أن تكون أميركا أضعف من أن تنجح في تنفيذها.
في هذا الصدد، يتصرّف القادة الأوروبيون ببساطة بناءً على ما يعتقده مواطنوهم. وجدت دراسة استقصائية لعموم أوروبا أجراها المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أن غالبية الأوروبيين كانت سعيدة بانتخاب بايدن، لكن لديها شكوكاً عميقة حول قدرة أميركا على العودة كزعيمة للعالم كما في السابق. وبالمثل، تخشى الغالبية من أن النظام السياسي الأميركي قد اهنزّ وتضعضع، وأن الأميركيين لم يعد من الممكن الوثوق بهم بعد انتخاب ترامب في العام 2016. علاوة على ذلك، أفاد الإستطلاع الذي شمل 11 دولة، أن ستة من كل عشرة مشاركين يعتقدون أن الصين ستصبح أقوى من الولايات المتحدة في غضون السنين العشر المُقبلة، وقال 60 في المئة على الأقل من المستطلعين في كل بلد إنه لم يعد بإمكانهم الاعتماد على أميركا للدفاع عنهم.
الواقع أن الآثار المترتبة بالنسبة إلى صنع السياسة الأوروبية جذرية. يعتقد معظم الأوروبيين أنه ينبغي عليهم الإستثمار في الدفاع عن أنفسهم، بدلاً من الاعتماد على الولايات المتحدة؛ ويرى الكثيرون الآن أن برلين، بدلاً من واشنطن، هي عاصمة “الإنتقال” للقيادة. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن معظم الأوروبيين غير مُهتمّين بهدف فريق بايدن بتطوير نهج مشترك عبر الأطلسي تجاه الصين. تريد الغالبية في كل دولة البقاء على الحياد في أي صراع مستقبلي بين الولايات المتحدة والصين. وكانت هذه النتيجة المُروّعة ظهرت لأول مرة في استطلاعات الرأي التي أُجريت قبل عام، عندما استبعدها الكثيرون على أنها انعكاسٌ لاشمئزاز الأوروبيين من ترامب. هذا التفسير لم يعد صالحاً الآن.
من المؤكد أن استطلاعات الرأي لا تُقدّم سوى لمحة سريعة عن وجهات النظر في لحظة مُعيَّنة، ومن الممكن أن تتطوّر المواقف الأوروبية فيما يُعيد بايدن وفريقه أميركا إلى الساحة العالمية. لدى الرئيس الأميركي الجديد مستشارون لامعون مثل سوليفان، وكيرت كامبل “قيصر المُحيطَين الهندي والهادئ”، والعديد من الآخرين، وتقوم إدارته بصياغة استراتيجية صارمة بشأن الصين تكون أكثر إلهاماً لحلفاء الولايات المتحدة مما كان عليه الأمر في أي وقت مضى. كما أوضح كامبل وسوليفان في مقال نُشِرَ في مجلة “فورين أفّيرز” في العام 2019، فإنهما يتصوّران “منافسة بدون كارثة”، والتعايش بدون المساومة على القيم الأساسية. هذه عقيدة استراتيجية يجب على جميع الأوروبيين تبنّيها.
لكن التحدّي الأكبر بالنسبة إلى واشنطن لإقناع حلفائها باستراتيجيتها تجاه الصين سيكون باستعادة ثقتهم في قدرة أميركا الهائلة وبقائها قوية. مع نمو الإقتصاد الصيني، وازدياد أهمية روابطه مع بقية العالم، ستعتمد آفاق الولايات المتحدة الخاصة بشكل متزايد على تحالفاتها الدولية. إن تأمين توازن قوى يُفضّل المجتمعات المفتوحة في كل جزء من العالم سيكون على الأقل بالأهمية عينها كما الحفاظ على مجتمع مفتوح في أميركا نفسها.
رابط المقال: اضغط هنا