ألمانيا تتخلىَ عن حِصة في أهم موانئها إلى الصين.
يُعتبر الإقتصاد الإهتمام الأول والأخير لألمانيا؛ حيثُ وضعت الحكومة الألمانية مبدأ الإقتصاد في المقام الأول في السنوات العشرين الماضية بغض النظر عن أي تبعات سياسية قد تُؤثر عليها بعد ذلك
وقد نَتج عن إتباع هذا الأسلوب زيادة إعتماد ألمانيا مثلًا على روسيا في إمداداتها من الغاز الطبيعي؛ وهو ما تستَخدِمه روسيا الآن في حربها على أوكرانيا لتذليل وتركيع أوروبا وألمانيا نفسها.
وفي هذا السياق يأتي تصريح الرئيس الألماني فالتر شتاينماير أنه يجب على ألمانيا التعلُّم من هذا الدرس القاسي.
لكن ما يحدث حاليًّا يُؤكد العكس؛ فقد وافقت الحكومة الألمانية على بيع خمسة وعشرين في المائة تقريبًا من إحدى محطات ميناء هامبورغ إلى شركة مملوكة للحكومة الصينية، وهذه النسبة ليست قليلة؛ وبالتالي سيقع في أيدي الصين أكبر ميناء في ألمانيا وثالث أكبر ميناء في أوروبا، وقد أصبحت ألمانيا مُجبرة على ذلك.
والمفاجأة أن هذا ليس الميناء الوحيد الذي سَقط في قبضة الصينيين؛ بل هُناك عدد من الموانئ في أوروبا ستقع كذلك تحت سيطرة الصين.
هذه المستجدات تدفعنا إلى الكشف عن الآليات التي تمت من خلالها هذه التطورات ؟
ولماذا حدثت ؟
وما هي تَبعاتها على ألمانيا وأوروبا ؟
وما هو سبب إهتمام الصين بهذا الميناء؟
بدأ الأمر العام الماضي؛ حين إتفقت شركة كوسكو الصينية COSCO وميناء هامبورغ على شِراء الشركة لحصة تُقدَّر بخمسة وثلاثين في المائة من إحدى محطاتها الأربعة في الميناء، وقُدِّرَت هذه الصفقة بمائة وستة عشر مليون دولار، ومن المُفترض البدء بالتنفيذ في السنة الحالية.
وقد أثار هذا الإتفاق جدلٌ في الداخل الألماني ولقيّ مُعارضةً كبيرة ، نظرًا لأن شركة كوسكو هي شركة مَملوكة للحكومة الصينية، وميناء هامبورغ هو أكبر ميناء في ألمانيا وثالث أكبر ميناء في أوروبا، كما يحتل المركز الثامن عشر على مستوى العالم، ويُمثل إمتلاك الصين لجزء من ميناء حيوي في دولة مثل ألمانيا والتي تُعتبر زعيمة الإتحاد الأوروبي خطورةً كبيرة، خاصةً أن الإتحاد الأوروبي مُتوجس حاليًّا من العلاقات الصينية، ويراها مُنافسًا إقتصاديًا أكثر من كونها شريكا.
مع إستمرار الجدل الواقع هناك، نشبت الحرب الروسية الأوكرانية في بداية هذا العام؛ وإنشغلت ألمانيا في مشاكل أكبر ناتجة عن تلك الحرب، إلَّا أن موعد إتمام الصفقة لم يتغير؛ فإشتعل الجدل مَرةً أخرى، وخصوصًا بعد موقف الصين من روسيا، وشعار [صداقةٌ بلا حدود …صداقةٌ بلا محاذير ]، وهو الشعار الذي بثَّ القلق في أوروبا إتجاه الصين.
ولم تكن أوروبا الوحيدة التي إعترضت على هذه الصفقة؛ بل إعترضت عليها ست وزارات منها: وزارة الدفاع والإقتصاد والشؤون الخارجية؛ فقد كانت رؤيتهم لما يَحدث أنه سيُوقعهم في مشاكل أكبر في المستقبل، وأن ألمانيا سَتعتمد بشكل غير مُتناسب على الصين.
كما أجرى رئيس وكالة الإستخبارات الداخلية الألمانية أثناء جلسة إستماع مع المُشَّرعينِّ مقارنةً بين تأثير كل من روسيا والصين على ألمانيا، وقال: “لو تعتقدون بأن ما فعلته روسيا في ألمانيا حاليًّا وقَطعها للغاز يُعتبر عاصفة؛ فما سَتفعله الصين سيكون التَغير المناخي بالكامل”.
لكن وبالرغم من هذه التحذيرات، فهذه الصفقة تحديدًا سَتمر دون مُشكلات.
وهنا يبرز السؤال لماذا سيحدث ذلك من دون مَشاكل ؟
لأن المُستشار الألماني أولاف شولتس هو من يقف وراء هذه الصفقة ويدعمها، فهو كان العُمدة السابق لمدينة هامبورغ ومن المؤيدين جدًّا للتعاون الصيني، وقد زار الصين فى الرابع من تشرين الثاني الحالي برفقة وفدٍ تجاري كبير.
وبعد الجدل بينه وبين أعضاء حكومته توصلوا لحلٍ وسطي، وهو تعديل نسبة ٣٥ % في المائة والإكتفاء بنسبة ٢٤،٩ % في المائة؛ وبالتالي سوف تصل قيمة هذه الصفقة إلى خمسة وستين مليون دولار، وهذا رقم ضعيف جدًّا ليس له قيمة؛ وبالرغم من هذا، فإن ألمانيا مُتمسكة جدّا بهذه الصفقة ذات العائد القليل.
لكن لماذا تَعديل النسبة وخَفضِها إلى نسبة ٢٤،٩ % في المائة ؟
لأنَّ هذه النسبة تُعد من وجهة نظر الحكومة نسبةٌ آمنة، ولن يكون للصين سيطرة كبيرة تُمكِّنها من التدخل في القرارات المهمة أو فى تعيين الموظفين أو في عرقلة أية إجراءات يُقرُّها الميناء فيما بعد.
وقد حُظر على شركة كوسكو محاولة زيادة الحصة الخاصة بها في الملكية دون مراجعة الحكومة الألمانية.
وبالرغم من هذه القيود، فما زال الكثير من الألمان قلقين من هذه النسبة، خاصةً مع تكرار الموقف نفسه في دولة مجاورة، وما آلت إليه الأمور.
ويبقى التساؤل هنا :
هل سَتقبل الصين بهذه النسبة الصغيرة وتتنازل عن نسبة ٣٥ % في المائة؟
حتى الآن لم تصدر أي تصريحات رسمية صينية ولكن من الواضح أنه في النهاية قد تقبل الصين بهذه النسبة لتأمين موضع قدم في أهم موانئ ألمانيا.
وقد يَطرأ لدينا تساؤل آخر: ما السبب الذي يُجبر ألمانيا على الموافقة على هذا الاتفاق؟
في الحقيقة هُما سببان:
السبب الأول: لأن ألمانيا لن تستطيع الإبتعاد عن الصين؛ فالصين تُعَد الشريك الأول للإقتصاد الألماني؛ حيث وصل حجم التجارة بين البلدين إلى مائتين وستة وأربعين مليار دولار في العام الماضي، وفي طريقهِ للزيادة عاما تلو الآخر.
ناهيك عن صناعة السيارات، التي تُعد أهم الصناعات في ألمانيا، وعلى سبيل المثال شركة فولكس فاغن (Volkswagen) وهي أكبر شركة سيارات في ألمانيا وفي أوروبا تبيع أكثر من أربعين في المائة من مبيعاتها للصين، ويزداد هذا سنويًا.
وإذا قررت ألمانيا أن تحذو نهج الإتحاد الأوروبي الجديد لتجنب الصين؛ فستكون خسارتها أكبر من أي دولة أوروبية أخرى؛ لأنَّ حجم التجارة بين أوروبا والصين تقريبًا ثمانمائة وثمانية وعشرون مليار دولار، ونصيب ألمانيا منفردة مائتان وستة وأربعون مليار دولار؛ وهي نسبة تُمثِّل الثلث تقريبًا.
وطِبقًا لدراسة أجراها معهد إيفو الألماني للأبحاث الإقتصادية ، فإن ” تأثير فصل أوروبا عن الصين سيكون أسوأ بكثير من الفوضى الإقتصادية الناتجة عن خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي” وحينئذٍ سينخفض الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا بنسبة نصف في المائة تقريبًا، وسيصل إلى ٠،٨ % في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا بعد أن تتخذ الصين إجراءاتها المضادة؛ وسيتوقف النمو في ألمانيا تمامًا؛ مما سيجعل ألمانيا تُعاني أربعة أضعاف ما عانته بريطانيا أثناء خُروجَها من الإتحاد الأوروبي.
والألمان يُدركون جيدًا هذه النتيجة؛ لذلك فالتهديدات والضغوط الصينية هي السبب الأول لكون ألمانيا مُجبرة لتنفيذ هذا الاتفاق.
أمَّا السبب الثاني –والذي يخص الميناء نفسه-: هو أن شركة كوسكو هي واحدة من أكبر شركات النقل والخدمات اللوجستية في العالم كله، وتستطيع جعل ميناء هامبورغ أكثر الموانئ جاذبية لشحن البضائع ونقلها؛ مما سيزيد من رواج حركة الميناء، وبالتالي ستؤمن المزيد من الوظائف للألمان، وهذه النتيجة هي ما تطمح لها الحكومة الألمانية.
كذلك سيكون هناك تدفق لرأس المال بشكل كبير وسيتم إستثماره في تحسين البُنية التحتية للميناء وتطويرها.
هذا بالإضافة للوعد الذي قطعته الصين بأن يكون هذا الميناء هو الوجهة والإختيار الأول لها ولعملها في أوروبا؛ مما سيزيد من رواج الميناء أكثر فأكثر.
وهذا ما جعل الألمان أنفسهم متمسكين بإستكمال الصفقة مُتجاهلين المخاطر المتوقعة.
وبهذا يتضح الغموض وراء بيع الألمان حصة في ميناء مثل هامبورغ بهذا المقابل الذي يُقارب خمسة وستين مليون دولار فقط!
لكن في الوقت نفسه يرى البعض أن هذه المزايا هي إبتزازٌّ من الصين، التي تُهدِّد أنه في حال فشلت الصفقة أنها سوف تقوم بإنهاء أعمالها ونقل إستثماراتها إلى موانئ أوروبية منافسة؛ وحينئذ سينهار ميناء هامبورغ الذي يُعاني حقيقةً من عدة مشاكل بيئية، ومشاكل في البنية التحتية، ويحتاج للكثير من الإستثمارات المُستمرة.
والجدير بالذكر أن ثلاثين في المائة من بضائع الحاويات التي يتم تداوُلها في ميناء هامبورغ هي بضائع واردة من الصين أو صادرة إليها.
وهذا كله يُمكن نقله إلى موانئ أُخرى مثل: ميناء روتردام في هولندا أو أنتويرب في بلجيكا التي تمتلك فيها الصين حُصصًا وإستثمارات ليست بالقليلة أيضًا.
هل تمتلك شركة كوسكو الصينية حُصصًا في أي ميناء أوروبي آخر؟
لا تمتلك ميناءً واحدًا، بل عدة موانئ ويعود ذلك لإنتشار الصينيين وفرض سيطرتهم في السنوات الأخيرة حتى يحققوا خُطتهم وهدفهم الكبير.
فما هو هذا الهدف ؟
تَضَع الصين حاليّا يَدها على أكثر من مائة ميناء على مُستوى العالم: إمَّا إمتلاكًا كاملًا، أو مُلكية حُصص، أو إستثمارات عامة في موانئ ومناطق إقتصادية.
وطبقًا لوزير الدفاع البريطاني الأسبق ليام فوكس، فإنه قد أعلن في تصريح قبل ذلك أن الصين تمتلك ستة وتسعين ميناء حول العالم، بعضها في مواقع رئيسية للتجارة البحرية، مما يَمنح بِكين مُستقبلًا هيمنةً إستراتيجية دون الحاجة إلى نشر جنود أو سفن أو حتى سلاح.
وفي عام ٢٠١٨ كانت الصين بالفعل تُسيطر على عشرة في المائة من قُدرة الموانئ الأوروبية بإجمالي أربعة عشر ميناء في أوروبا، إمَّا بشكل كليٍّ أو جزئيٍّ.
وتمتلك شركة كوسكو بالفعل حُصصًا في أكبر مينائين في أوروبا، وهما ميناء روتردام وأنتويرب، بالإضافة لحصص في:
محطات في موانئ في مالطا.
أربع نقاط إعادة شحن في فرنسا وفي إيطاليا وفي إسبانيا.
وأخيرًا تمتلك شركة كوسكو حاليّا مع شركة صينية ثانية أكبر ميناء في اليونان ميناء بيرايوس الذي يُعتبر من أهم موانئ أوروبا؛ فهذا الميناء هو نقطة الإلتقاء بين آسيا وأوروبا وإفريقيا، وتمتلك الصين الأغلبية فيه بأكثر من الثلثين تقريبًا، مما يعني أنه واقع تحت السيطرة الكاملة للصين.
ومن أسباب قلق الألمان أيضا الخوف من تكرار سيناريو الصين واليونان، ففي البداية دخلت شركة كوسكو في اليونان في عام ٢٠١٦ وقامت بشراء حصة من الميناء، إلى أن أصدرت محكمة يونانية قرارها بتمكين الشركة من زيادة حصتها لسبعة وستين في المائة.
وشيئًا فشيئًا بدأت اليونان تخدم مصالح الصين وتُدافع عنها، وبدأ ذلك:
في ألفين وستة عشر عندما إعترضت اليونان على بعض البيانات الصادرة عن الإتحاد الأوروبي وكانت تنتقد فيها الصين.
إستخدمت اليونان أيضًا حق النقض ضد إنتقاد الإتحاد الأوروبي لسَجل حقوق الإنسان في الصين في الأمم المتحدة في ألفين وسبعة عشر.
كما عارضت اليونان آلية فحص الإستثمار الداخلي للإتحاد الأوروبي في ألفين وسبعة عشر.
كل هذا يزيد المخاوف الألمانية من التأثير السياسي للصين.
ثم حصلت بعد ذلك الصين خلال الخمسة عشر عامًا الماضِية على حُصص في البنية التحتية المركزية في كل قارة تقريبًا، وتقوم الآن ببناء شبكة تجارية عبر الطرق البرية والبحرية.
وفي الختام يمكن القول إن الصين تُعيد وضع قواعد الخدمات اللوجستية عالميّا على أُسس جديدة، ويصب هذا كله في خطتها الكبرى وهي مشروع الحزام والطريق والتي تشمل :
إنشاء مجموعة من الطرق البرية المُتمثلة في طرق وسكك حديدية.
تأسيس بنية تحتية في عدة دول لربط العديد من الدول الأوروبية في قارة آسيا بالصين.
ومجموعة أخرى من الطرق البحرية والموانئ عبر البحار والمحيطات.
وهذا للعلم جزء صغير من الصورة الكبيرة لطموحات الصين التي لم تتضح بشكل كامل، لكنَّها تتكشف شيئًا فشيئًا وتكشف عن الطموحات في التوسع.
فهل طُموحات الصين التوسعية هي تجارية وإقتصادية ؟أم أنها سِياسية وإستراتيجية بغطاء تجاري ؟
وهل سيُبصر مشروع الحزام والطريق النور في المستقبل القريب ويغير معه مفهوم القطب الأوحد للعالم ويُصبح متعدد الأقطاب؟
كل هذا رِهان الصراع بين القوى الكبرى والتغيرات والتحالفات الإقليمية التي يشهدها العالم من الإنقسام مرورًا بالحروب وصولًا لإعادة التموضع.