اجتماع

عن اللبناني الذي غاب ليصبح نقيضه | دلال قنديل ياغي

للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

عن صورة بين المُثل والمثال نبحث عن اللبناني هذه الايام الذي غاب ليصبح نقيضه..تمضي المجتمعات قُدما في بنيانها قد تتعثر لحين وتنهض.
قد ينخفض نموها ليستعيد زخمه بعد تحفيز وهكذا تستمر دورة التجدد والعصرنة ولكل دولة دورها وقدرها وفق موقعها ونقاط قوتها وضعفها..اما نحن فقدرنا منذ وقف الحرب الذي لم يُرس سلاما اجتماعيا رغم توقف المدفع.. قدرنا هو القلق ..بمظاهره المتعددة. انتقالنا من الحرب الى السلم لم يكن سلسا كان مشوبا بالمطبات التي كنا نسميها وفق تسميات الحكومات ووعودها في منتصف التسعينات النفق المظلم وكنا نسأل على مدار ما تلاها من سنين اليس لهذا النفق من نهاية او بصيص ضوء..
قلق اللبنانيين يتجاوز يومهم فالصورة قاتمة الى حد يزعزع كيانهم وصورتهم النموذج المثل وبلدهم المثال الذي كان عليه بكافة تجلياته رغم الأزمات حتى نهوضه من كبواته بعد الحرب وبعد كل تدمير من العدو الاسرائيلي كان مدهشا ومضرب مثال للعالم ..فهل كنا واهمون ام ان سحرا وادهاش خروجنا من الحرب سالمين اعمى بصيرتنا عن كل الإرتكابات التي حصلت وكلنا شهود عليها.
اللبناني كالأم الثكلى يعاني صدمة الفقدان يبحث عن ذاته بين هذا الركام. فهو الذكي الطليعي بين اقرانه المميز بهندامه في محيطه وثقافته الديناميكي المتعدد اللغات يتدرج في المؤسسات العالمية في الدول المحيطة برتب ورواتب عالية لحذاقته وفن القيادة لديه..الصورة المثال والقدوة هذه تتهاوى مع ما آل اليه الوطن من انهيارات تحمل الينا صورا لم نشهدها حتى في عز الأزمات..
المشاهد المصورة لمواطنين يقتاتون من حاويات النفايات التي على فظاعتها باتت مشهدا يوميا واحداها لسيدة حامل لم يظهر من جسدها النحيل سوى بطنها المتكور كأنها تقف على عكازين فقط لتقي جنينها السقوط المبكر ..ينحني الزوج على حاوية النفايات يبحث ويعود اليها حاملا بعض الفتات يلقمها لقمة وقد ترفض اخرى ربما لم تساعدها الرائحة على التهامها رغم الجوع الذي قادهما الى وليمة على حافة حاوية النفايات..
لمراحل السقوط مشهديتها هذا احداها بالتأكيد لمن يلتقط الاشارات وامام ما يتسرب من شروط صندوق النقد الدولي لمزيد من الاقتراض استعيد مشهدية اخرى كانت علامة فارقة في تحول البحبوحة التي اتسمت بها مسيرة اعادة البناء لحكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري كنا في إحدى جلسات الحكومة في القصر الجمهوري طُرح خلالها نقاشُ فرض ضريبة على القيمة المضافة وهي تعبير لم يعتده اللبنانيون آن ذاك وحصلت بلبلة اضطرت الحكومة للتراجع الى فكرة فرض ضريبة على الكماليات وبينها لائحة تشمل العطور والمشروبات والتبغ وبعض المأكولات والحاجيات التي بدت بإعتقادهم مظهرا من مظاهر الرفاهية لكنها كانت تشكل جزءا من استهلاك عامة المواطنين فخرج الرئيس الشهيد رفيق الحريري من الجلسة شخصيا ليدلي بالمقررات وكان كعادته يترك للصحافيين مدى التعبير عن ارائهم ويصغي اليهم ثم يجيب فبادرته بالسؤال عن المقاييس التي اعتُمدت في لائحة الكماليات وقلت له ان العطور والكريمات ليست رفاهية بالنسبة لنا هي جزء من شخصيتنا وتميزنا فأورد شرحا بإسهاب لإظهار تعاطفه مع الطبقات الفقيرة وقال انا كنت مدرسا في صيدا وكنت عندما يفسد كعب حذائي اركب له نصف نعل لعجزي عن شراء حذاء جديد ودعا اللبنانيين للتأقلم وفق مواردهم وليس وفق احتياجاتهم قائلا انا قبل سفري الى السعودية كنت واحدا من الطبقات المحتاجة واعلم ان قراراتنا ليست شعبوية..لكن لا خيار لنا وسنمضي بها
وكنا على الهواء مباشرة وصدرت الصحف في اليوم التالي مركزة على عبارة النصف نعل لتوصيف الاجراءات الحكومية التقشفية
دون ان تتوقف كثيرا عند تفاصيل شرح فذلكة. وهكذا كان أن دفع الفقير الضريبة مرة تلو الأخرى وتهرب الغني من ضرائبه وتوالت الحكومات ولم تتبدل السياسات بقيت القرارات غير الشعبية سيدة الساحة الى ان كاد بعض الفقراء
يفقدون امكانية حتى رقع الحذاء بنصف نعل او امكانية ارسال اولادهم الى المدارس لا بل توفير الحليب وابسط المأكولات لهم فماذا قدم الاغنياء في مسيرة الشوك هذه ؟
وامام انهيار البنيان هل يبقى المَثَل ويتسلل المثال الى ادراج النسيان فتتغنى الدول بذكرنا كمجد بائد كشعب كان مزهوا بذاته أدخلته لوائح الفساد في صدارتها وبات نموذجه في مهب الجوع والعوز والفقر المدقع إلا لقلة قليلة تتصدر لوائح اغنى اغنياء العالم ولم تلتفت الى تصدع الأرض التي تقف عليها ..ولعل احياء المدن في العاصمة او في المدن الكبرى ولا سيما طرابلس تشكل نموذجا صارخا لهذا التصدع وهذه المفارقة البائسة لمجتمعنا لا طبقات وسطى فيه .
وهل يجوز امام هذا السؤال لماذا يطرق الفقراء ابواب الاغنياء ولم يتبق لهم سوى حناجرهم التي بحت من الصراخ..فهل يخترق الصدى الابواب الموصدة؟ وأين ستذهب أموال القروض اذا ما مُنحت؟ ومن سيتحمل تبعاتِها بين الطبقتين؟

للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

دلال قنديل ياغي، اعلامية وكاتبة في الادب السياسي والاجتماعي

رئيسة تحرير في تلفزيون لبنان؛ اعلامية مخضرمة ومذيعة ؛ في رصيدها عشرات المقالات في صحف ومجلات ومواقع الكترونية اخبارية محلية وعربية كما عملت في الوكالة الوطنية للاعلام والوكالة الصحفية. اعدت وقدمت عددا من البرامج في السياسة والقانون والثقافة والاعلام والعمل الاجتماعي كما وعملت كمندوبة لتلفزيون لبنان في رئاسة الجمهورية في التسعينات وقامت بتغطية قمم عربية واعتداءات اسرائيلية منها عدوان نيسان ٩٦ وعدوان تموز ٩٣ وعدوان ٢٠٠٦. كما غطت بجرأة استثنائية تحركات الجيش اللبناني والمواجهات مع المنظمات الارهابية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى