اجتماعالاحدث

عيسى مخلوف في ضفافه الأُخرى: سيرة الذات والآخر | كتبت دلال قنديل ياغي

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

من يقرأ “ضفاف أخرى” يلمسُ سرّ عُمق المَدارك وابتعاد الكاتب عن المألوفِ من مبالغاتِ لغتنا والانبهار بالسائد. الشاعر والكاتب عيسى مخلوف يطلّ علينا بكتابه الجديد، مجيبًا على أسئلة الشاعر العراقي علي محمود خضيّر، كمن يجمع حصادَ أيامٍ ويواصل الزرع.

الكتاب يتجاوز السيرة الذاتيّة ليصبح سيرة الآخر والعالم معًا، وليقدّم فصولًا من سيرة حياتنا والواقع الذي نعيش فيه. لذلك لا تأتي هذه السيرة لتستخلص مسارًا وتجربة وإنما لتصبّ في خضمّ نتاج متواصل: مقالات ودراسات ومداخلات وكتب وترجمات وقراءات. نبعٌ معرفيٌ متنوّع ومتعدّد. وهو في ذلك ينحاز إلى الموضوعيّة والحسّ النقدي بلغة نلمس أناقتها وشفافيتها، وبحِرَفيّة العارف، بعيدًا عن أيّ ادّعاء.

يكتمل النص بين سطور المراحل المنسابة زمنيًا منذ الطفولة. أمّا المراهقة فحفلت بتجربة إنتاج مجلة ثقافية وتنظيم ندوات أدبية وترجمة قصائد منها قصيدة لبابلو نيرودا. كان بإمكان مخلوف ألاّ يعتمد على التسلسل الزمني في هذا النتاج طالما أنّ كلّ فصل من فصوله يؤلّف كتلة قائمة بذاتها تكشف عن غنى التجارب وموسوعيّتها وبعدِها الثقافي ذيّ الطابع الفكري والفلسفي.

يؤكّد هذا الكتاب على خصوصيةِ الكاتب من خلال إجاباته على أسئلة محفّزة جاءت مطوّلة في بعض مقاطعها. إجابات تزاوج، في مواضع كثيرة، بين النثر والشعر، مع التركيز على تحديات الواقع والمكاشفة التي تنطلق من الشكّ وإعادة النظر في المسلّمات والأفكار المسبقة.

يقول: “حتى الآن لا تزال القوة هي التي تتحكّم في المصير، ولا نزال نشهد على عنف يأتي من عصور سحيقة على الرّغم من التقدّم الذي أحرزته البشريّة عبر الزّمن. كأن الحياة، لكي تبقى، لا بدّ من تآكل مستمرّ بين عناصرها ومكوّناتها. كأنها تأمرنا كلّ لحظة: ”فليأكل بعضُكم بعضًا”. ويضيف: “إنّ إستغلال الإنسان للإنسان واستغلاله للطبيعة لا حدود لهما”.

في الفصل الأول يصف علاقته الأولى بالطبيعة: “المنحوتة الأولى التي رأيتها في حياتي ذلك الجبل في بلدة إهدن. لم يكن جدارًا مغلقًا أمام عينَي الطّفل الذي كنتُ. كان مرآة ضخمة تعكس ألوان الشّروق والغروب. تتلوّن من الصباح الى المساء، ومن أول الليل حتى طلوع الفجر، بألوان فائقة الدّقّة في تدرّجاتها. يرتفع الجبل كموجة زرقاء عالية تحجب موجة أخرى زُرقتها أكثر تماهيًا مع السّماء”. ثمّ يتوقّف الكاتب عند لحظة مهمّة تركت أثرها في حياته تمثّلت في موت شقيقه وانعكاس هذا الموت على والدته التي تتفقد أنفاس أبنائها ليلًا لتتاكّد ممّا إذا كانوا لا يزالون أحياء، وكانت بذلك تخرّب، بدون دراية منها، نوم ابنها الذي كان لا يزال يومها في التاسعة من العمر.

من لبنان إلى فنزويلا، كانت الهجرة الأولى بسبب الحرب الأهلية، ومن كراكاس إلى باريس لمتابعة التحصيل العلمي. تجربة نلحظ أثرها في عمل مسرحيّ بعنوان “قدام باب السفارة”، وهو ينظر إلى الهجرة كونها “ملحمة يختلط فيها الواقع بالمتخيل، المأساة بالنزعة العبثية، وهي تعمّق السؤال حول قدرة الإنسان على مواجهة مصيره”.

قراءة “ضفاف أخرى” رحلة في الزمان والمكان وفي الثقافات المختلفة. تجرّنا بشغف الى مراحل ثقافية متعدّدة المشارب، إلى شخصيات وقامات أدبية تابعنا نتاجها، ومنها الشاعر أنسي الحاج الذي فقد والدته وهو طفل ما ترك عميق الأثر في نفسه، وحتى في علاقته بالمرأة والحبّ. في أحد الملاحق الثلاثة المثبتة في نهاية الكتاب، نسمع أنسي الحاج يقول: “أحيانًا يخيّل إليّ أنّ الحب الذّي أكرّر وأعيد الكلام عليه هو غير الحبّ. هو ناتج سؤ تفاهم، بحث غامض في خضمّ أوقيانوس لا يعبأ. أي حب هذا الذي لا يتفق اثنان على تعريفه؟ هذا الذي يؤلم حتى الموت إذا تبودل ويؤلم حتى الموت إن لم يُتبادل؟”. ومن لقاءات مخلوف في باريس، يستوقفنا لقاؤه مع محمود درويش الذي راح يقرأ في منزله قصيدته “الكمنجات”، ثمّ قصيدة “في الرحيل الأخير أحبك أكثر والكمنجات”. تستوقفنا أيضًا العلاقة السجاليّة مع أدونيس، وحضور أسماء عدّة عربيّة وأجنبيّة من بينها محمّد أركون وعبد الرحمن الباشا وعبد اللطيف اللعبي وجورج شحادة وصلاح ستيتيّة وأسادور وبسّام حجّار وأمجد ناصر ونبيل الأظن، وأخيرًا الشاعرة والفنانة التشكيلية إيتل عدنان: “المولودة في العام ١٩٢٥، المتربّعة على السنوات، لا تحصي الوقت، ولا تتذمّر من الأيام التي تمضي لأنها مأخوذة بشيء آخر: البحث عن جوهر الأشياء وعن سرّ الذات والكون. لكن هذا البحث الفلسفيّ والبحث الشّعريّ معًا لا يلهيانها، ولم يلهياها يومًا، عن أحوال العالم الراهن وقضاياه، وفي مقدّمها القضية الفلسطينية ووضع المرأة في العالم أجمع، وفي العالم العربي خصوصًا. مشغولة هذه النحلة برحيق الأزهار…”.

بهذه العين الشفافة يمرّ عيسى مخلوف على صداقات ربطته بمبدعين. يستوقفنا أيضًا صقل الألوان بصمت وسط الصخب. يقول عن الفنان التشكيلي اسادور: “يعلو الصخب في مقهى”الفْلُور” في حي ”سان جرمان”. تتردد أصداء الضحك في فضائه الدّافىء. رنين الكؤوس الحمر. دنوّها من شفاه النّساء المبتهجات أوّل السهرة، الشّفاه المنفرجة عن أسنان تزيدها الإضاءة لمعانًا. النُّدل، في وَزراتهم البِيضِ الطويلة، يروحون ويجيئون. في أيديهم الصواني المليئة والفارغة تتحرّك فوق الرّؤوس. رؤوس المقيمين في المدينة والغرباء الوافدين اليها بحثًا عن ذكريات، أو عن الطاولة التي جلس اليها، يومًا، إرنست همنغواي. أسادور القابع، كعادته، في إحدى الزوايا، لا دخل له بما يحصل حوله، بل إنه يبدو منزاحًا عن مكانه الذي لا وجود له خارج خطوط لوحته وألوانها. يأخذ قلمًا من جيب سترته ويرسم خطًّا أوّل، يليه خطّ ثانٍ، على فوطة ورق أمامه على الطاولة. يرفع نظره عنها قليلًا، وسرعان ما يعود إليها كأنه يستنطقها. فهو لا يحتمل العيش بعيدًا عن الأشكال التي ترتسم أمام عينيه، كالعنكبوت الذي لا بيت له خارج لُعابه. أسادور من قلّة من البشر الذين يمكننا، أثناء الالتقاء بهم، أن نتكلّم ونتحاور أو أن نبقى صامتين كأننا مع أنفسنا”.

في موضع آخر من الملاحق، يعنون رسالته إلى صديقه عبّاس بيضون متحدّثًا عن الشعر، “الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين الكائنات”. وممّا ورد في الرسالة: “كلّما إلتقينا كان بسّام (الشاعر الراحل بسام حجار) حاضرًا بيننا”. ويتابع مخلوف مستعيدًا حادثتين جمعتهما، هو وبيضون، في مناسبتين مختلفتين: “نظرتَ الى الجموع نظرتك المعهودة حين تبدأ الكلام كأنك تقرأ على لوح أسود. تتكلّم وتستطرد. تتدافع الكلمات أمامك كأمواج متلاحقة، تذوب الواحدة منها في الأخرى. كان نظركَ يذهب أحيانًا أبعد من الحاضرين، نحو حديقة “لوكسمبور” الماثلة وراء مربّعات الزجاج. وكنت كأنك تروي للشجر والبشر على السواء ما حلَّ بالشِّعر”. وعن بسّام حجّار يقول مخلوف: “إنه الغريب الذي تراءى له الشَّجَن في كل شيء حوله: الغيمة والشجرة، الأواني المنزلية والستائر، الشرفات التي لا تفضي الى شيء، وضؤ النهار، تلك العتمة الأخرى”.

أما عن لقائه بالكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس: “خرجتُ من الغرفة، وفي عينيّ عيناه المفتوحتان وتلك النظرة التي تذهب إلى الأمكنة التي لا تطاولها الأعين. ترافقني وأنا أسير في محاذاة “معهد الفنون” في اتجاه مقهى “بونابرت” تساؤلاته وعباراته التي لطالما ردّدها، قولًا وكتابة: “ماذا يمكن أن يحدث لنا أفضل من الزّوال والنسيان؟ ما همّني ما سيصير اليه إسمي طالما أنّ كتابًا في مستوى”ألف ليلة وليلة” لا يُعرف من يكون كاتبه”.

لا يتوقّف الكتاب فقط عند أوجه الثقافات المختلفة، بل يتناول أيضًا واقع العالم الراهن وتحدياته وما آلت إليه البيئة والهندسة والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وأثر كلّ ذلك على الإنسان وعلى الإبداع. وهكذا يلازمنا الشعور بأنّ كل فصل من فصول الكتاب يصلح لأن يكون كتابًا.

لا يمكن لمن عَرفَ عيسى مخلوف الإنسان أن يفصلَ نتاجَه عن تلك الصورة المنحوتة بمعيار النقد الذاتي والتجرّوء على المحظورات. بعد متابعة عن بُعد لمقالاته الصحافية وبرنامجه الإذاعي الثقافي، وبعض نتاجه، التقيته في بيروت أثناء صدور الطبعة الثانية من كتابه “عين السراب” وأهداني نسخة منه، وتحسّرت على الزمن الذي فاتني قبل التواصل مع نتاج هذا الموسوعي الملهم ومساره الأدبي والإنساني الذي يقفز فوق الخلافات والأحقاد ليصوغ حياة تلامس زهد الفلاسفة وتغور في أسئلة التجربة المجدِّدة بلا قيود.

دلال قنديل ياغي، اعلامية وكاتبة في الادب السياسي والاجتماعي

رئيسة تحرير في تلفزيون لبنان؛ اعلامية مخضرمة ومذيعة ؛ في رصيدها عشرات المقالات في صحف ومجلات ومواقع الكترونية اخبارية محلية وعربية كما عملت في الوكالة الوطنية للاعلام والوكالة الصحفية. اعدت وقدمت عددا من البرامج في السياسة والقانون والثقافة والاعلام والعمل الاجتماعي كما وعملت كمندوبة لتلفزيون لبنان في رئاسة الجمهورية في التسعينات وقامت بتغطية قمم عربية واعتداءات اسرائيلية منها عدوان نيسان ٩٦ وعدوان تموز ٩٣ وعدوان ٢٠٠٦. كما غطت بجرأة استثنائية تحركات الجيش اللبناني والمواجهات مع المنظمات الارهابية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى