ازمة لبنانالاحدث

لبنان: الفَوضى بَديلُ الإصلاحات | بقلم د. بيار الخوري

يَشهَدُ لبنان أزمةً سياسيّة عميقة تترافَقُ مع انهيارٍ اقتصاديٍّ شاملٍ وتَفَكُّكٍ مُجتَمَعِيٍّ مُتزايد، في ظلِّ العَجزِ المُستَمِرِّ عن تشكيلِ حكومةٍ قادرةٍ على تنفيذِ الإصلاحات المطلوبة.

بعدَ تكليفِ القاضي نوّاف سلام بتشكيل حكومة جديدة، برزت عوائق سياسية جوهرية تُعيقُ ولادةَ أيِّ حكومةٍ إصلاحية فعلية، حيث تصرّ القوى التقليدية على التمسُّكِ بمصالحها، ما يجعلُ تشكيل حكومةٍ مستقلّة أمرًا صعبًا من دون تقديمِ تنازُلاتٍ كبيرة تُعرقلُ أيَّ تغييرٍ جذري. في الوقت نفسه، فإنَّ الأزمة الاقتصادية باتت أكثر خطورة من أيِّ وقتٍ مضى، حيث ارتفعَ التضخُّمُ  ليبتلع نصف الأجور المُدَولرة منذ منتصف العام 2023، وارتفعت معدّلات الفقر والجريمة والهجرة، هذا ناهيك عن الأثار الهائلة للعدوان الإسرائيلي الأخير، ما زاد من الشعور باليأس لدى اللبنانيين، لكنه في الوقت نفسه خلقَ بيئةً مُتفجِّرة قد تؤدّي إلى تحرّكاتٍ غير مُتَوَقَّعة في الشارع.

إذا تمكَّنَ القاضي نوّاف سلام من تشكيلِ حكومةٍ توافُقية، فإنَّ تنفيذَ الإصلاحات سيظل تحدّيًا بالغ الصعوبة، إذ أنَّ أيَّ تغييرٍ حقيقي سيتعارضُ بالضرورة مع مصالح الأحزاب التي تُهَيمِنُ على النظام السياسي والاقتصادي. هذه القوى تستفيدُ من الوضعِ القائم، وأيّ محاولة لإجراءِ إصلاحاتٍ جدّية في القطاعات المصرفية أو القضائية أو الإدارية ستؤدّي إلى مقاومةٍ عنيفة من داخل مؤسّسات الدولة نفسها. حتى إذا حاولَ فرضَ حكومة أمر واقع تُصرّفُ الأعمال، فإنَّ البرلمان سيُعرقل عملها، وستجد نفسها مُكَبَّلة دستوريًا وغير قادرة على تنفيذِ أيِّ إصلاحاتٍ فعلية، ما يجعلها لا أكثر من إدارة مؤقتة للأزمة بدلًا من أن تكونَ أداةً للتغيير.

في ظلِّ هذا المشهد، يبدو وكأنَّ البلادَ دخلت في استعصاءٍ سياسي لا حلَّ له، حيث لا يُمكِنُ تشكيل حكومة فاعلة، ولا يمكن ترك الوضع كما هو بدون أن يؤدّي إلى تفاقُم الأزمة. هذا الانسدادُ السياسي، إلى جانب الانهيار الاقتصادي والتوتّرات الاجتماعية، يطرحُ تساؤلات حول احتمالية انفجارٍ شعبي جديد يُعيدُ إنتاج احتجاجات 2019، لكن هذه المرة في ظروفٍ أشد قسوة. الواقع اليوم يشير إلى أنَّ الشارع اللبناني يختزنُ طاقةَ غضبٍ هائلة، حيث يُعاني المواطنون من الفقر المُدقع وفقدان الأمل، بينما تتزايد الجريمة والفوضى الأمنية نتيجة غياب أيّ حلولٍ فعلية. ومع ذلك، لم ينفجر الشارع بعد كما كانَ مُتوَقَّعًا، بسبب عوامل عدة، أبرزها اليأس من إمكانية التغيير، وغياب القيادة ذات الوزن الوطني.

رُغمَ أنَّ الاحتقان الشعبي يزداد يومًا بعد يوم، فإنَّ النظامَ السياسي يراهن على أنَّ الأزمة الاقتصادية أنهكت المواطنين، مما يجعلهم غير قادرين على تنظيم احتجاجات واسعة النطاق. لكن إذا استمرَّ التدهور الحالي بدون أي بارقة أمل، فإنَّ احتمالات الانفجار الشعبي ستظل قائمة، وقد تكون هذه المرة أكثر عنفًا وأقل سلمية. السيناريو الأخطر هو أن تتحوّلَ هذه الانتفاضة المُحتَملة إلى حالةٍ من الفوضى الأمنية الكاملة، حيث يصبح الشارع خارج السيطرة، وتدخل البلاد في مرحلة انهيار اجتماعي شامل، بدلًا من أن يكون الحراكُ وسيلةَ ضغطٍ سياسية لإحداث تغيير مُنظّم. في كلِّ الأحوال، فإنَّ بقاءَ الوضع على حاله من دون أيِّ تغييرٍ حقيقي يعني أنَّ لبنان يتجه نحو مستقبلٍ غامض، حيث يصبحُ أيُّ احتمال، مهما كان مُستَبعَدًا اليوم، مُمكنًا غدًا.

في ظلِّ هذا الوضع الهش، تَكمُن المخاطر الأكبر في خروج الأوضاع عن السيطرة، حيث لا تبقى الاحتجاجات مجرّد تعبير عن الغضب، بل تتحوّلُ إلى اضطراباتٍ غير منظّمة قد تطيح بما تبقى من الاستقرار النسبي. مع تآكل ثقة الناس بمؤسّسات الدولة وعجز السلطة عن تقديمِ أيِّ حلول، يصبح احتمال انتشار العنف والتفكّك الداخلي أكثر واقعية، خصوصًا في ظلِّ الفراغ السياسي والتدهور الاقتصادي المُتسارِع.

التاريخ أظهر أنَّ المجتمعات التي تصل إلى هذا المستوى من الانهيار تُصبحُ عرضةً لتحوّلاتٍ غير مُتوَقَّعة، سواء عبر تصاعد نفوذ قوى غير رسمية، أو من خلال تفكك الدولة إلى مراكز قوى متنافسة تفرض واقعها على الأرض. في ظلِّ غيابِ رؤيةٍ واضحة للخروج من الأزمة، فإنَّ لبنان يقتربُ من نقطة اللاعودة، حيث تُصبحُ الفوضى الحتمية أكثر تهديدًا من الأزمة نفسها إنَّ .تجاهُلَ هذه المخاطر لن يؤدّي إلّا إلى تعقيد الحلول المستقبلية، وربما إلى فقدان القدرة على استعادة الاستقرار قبل فوات الأوان.

لبنان بحاجة إلى مشروعٍ وطنيٍّ جامع، يتجاوز الانقسامات الطائفية والمصالح الضيِّقة، ويُركّزُ على بناءِ دولةٍ حديثة قائمة على العدالة والشفافية والكفاءة. التغيير يبدأ من الداخل، من الوعي، من رفض التطبيع مع الفساد والمحسوبية، من دعم البدائل الحقيقية بدلًا من الوقوع في دوّامة الإحباط والاستسلام.

الأزماتُ الكبرى قد تكون فرصةً للتحوُّلات العميقة، لكن ذلك يتطلّبُ إرادةً شعبية صلبة وإيمانًا بأنَّ لبنان يُمكِنُ أن ينهضَ من جديد، لا عبر حلولٍ ترقيعية، بل عبر إعادة بناء الدولة على أُسُسٍ جديدة، يكون فيها المواطن هو الأولوية، وليس الانانيات الضيّقة.

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى