هذه الآلةُ القاتلةُ في قبضة اليد | بقلم هنري زغيب
كثيرة هي الآلات والأَدوات التي تمسكها كفُّ اليد وتُسبِّب القتْل المتعمَّد: منها قبضةُ المسدَّسِ والإِصبعُ على الزناد، قبضةُ السكّينِ المتحفِّزةِ للانقضاض على الضحية أَو الفريسة، قبضةُ القنبلةِ التي تنتظر انفلات الفتيل أَو الصاعق، قبضةُ السُوط الذي ينهال به الجلَّاد على المحكوم، قبضةُ السُبحةِ أَو مسبحةِ الطقطقة التي تَقتُل الوقت بغباءٍ مجاني…، وسواها بعدُ لا يحصُرُها تعداد، أُضيف إِليها اليومَ مَقْتلةَ الهاتفِ الخَلَوي في كفِّ اليد…
ماذا؟ جهازُ الخلوي… قاتل؟ نعم… ولا أَقولها بِزَلَّة لسان بل أَتعمَّد كتابتَها. فهذا الجهاز الكثيرُ الفوائدِ التكنولوجية والتسهيلاتِ الإِلكترونية، هو أَيضًا كثيرُ الإِساءة الأَخلاقية والقتْلِ المعنوي حين يُطلِق من منصَّاتٍ فيه إِلكترونيةٍ جحافلَ السَبِّ والشتائم والتُهم والشائعات من دون ضوابط على صفحات الفايسبوك Facebook أَو الإِكْس X أَو اللينكْدِن Linkedin أَو الإِنسْتاغرام Instagram أَو الواتْسْآب WhatsApp أَو البنترست Pinterest أَو الإِيميل email أَو البُوكِتPocket أَو التلِغرامTelegram وسواها، فتسبِّبُ شائعةٌ كاذبةٌ أَو تُهمةٌ مختَلَقَة أَو دسيسةٌ حقيرةٌ أَذًى عميقًا أَو مقْتلًا صادمًا أَو أَيَّ نوع من الاغتيال المعنوي الذي قد يتطوَّر إِلى التسبُّب بالقتل الجسدي بشكلٍ أَو بآخَر.
بلى… بهذا الأَعلاه يكون الجهازُ الخَلَويُّ في قبضة اليد قاتلًا، تمامًا كالمسدَّسِ والسكّينِ والقنبلةِ اليدوية. وكما اللسانُ في فم الإِنسان حصان يَصونُه أَو يَخونُه، هكذا الخَلَوي في قبضة اليد لا رادعَ للمُمْسكِ به في كفِّه يُعيقُه عن توجيهِ تُهمةٍ أَو اختلاقِ نقيصة.
وفيما للجريدة أَو المجلة أَو المحطة الإِذاعية أَو التلفزيونية رادعٌ وازعٌ هو المسؤُولُ أَو المديرُ أَو رئيسُ التحرير، إِجمالًا أَو أَخلاقيًّا مهنيًّا يُصفِّي الخبر أَو يُعدِّل فيه أَو يُحرِّم نشْره أَو يُلغيه من النشْر، نَجدُ ما يَصدر من الخَلَوي في قبضة اليد مفْلِتًا من أَيِّ معيار أَخلاقي أَو مقياسٍ مهنيٍّ أَو مسؤُوليةٍ شخصيةٍ أَو وطنية. وهنا مَقْتَلةُ هذا الجهاز حين يكون في قبْضة شخصٍ غيرِ مسؤُول أَو حَقودٍ أَو تافهٍ أَو مُؤْذٍ حتى القتْلِ المعنوي، من دون أَيِّ رادع أَخلاقي أَو رقابة إِنسانية أَو وطنية أَو مهنية. ويَحدُث أَنَّ مواقعَ إِلكترونيةً أَو منصَّاتٍ أَو وسائلَ أَو وسائطَ تُقْفل اشتراك مُزاولين يسبِّبون الأَذى أَو يُغالون بوقاحتهم في نشْر ما لا يجوز نشْرُه لِمَا يوقِع نَشْرُهُ من أَذًى شخصيٍّ أَو عامّ.
لا أَقول هذا لأَنتقصَ من إِيجابياتِ الجهاز الخَلَوي في قبضة اليد حين يكونُ لتسهيلِ اتصالٍ أَو إِرسال بريدٍ إِلكتروني أَو نشْر مقال أَو خبَرٍ سليمٍ صالحٍ غيرِ مُؤْذٍ وغيرِ شتَّام. فأَنا منذ فترةٍ غيرِ قصيرةٍ بدأْتُ أَقرأُ الصُحُفَ على شاشة جهازي في قبضة كفِّي، وأُتابع عليها بريدي وأَطَّلع على جديدٍ في العالم يُنشَر على مواقعَ رصينةٍ مسؤُولة. وأَكثر بعد: أَطلُب من أَصدقائي المؤَلِّفين أَن يُرسلوا لي جديدهم لا بالنسخة الورقية بل بالنسخة الرقمية، لاكتظاظ مكتبتي بالكتُب حتى تُخمة رفوفها، ولأَنني اعتدتُ القراءَة على شاشة هاتفي أَو اللوح الذكي أَو شاشة الكومبيوتر على مكتبي. فهل لأُلغي أَهمية الكتاب الورقي؟ طبعًا لا. فلَهُ أَيضًا مكانُه ومكانَتُه للحفْظ في مكتباتٍ عامةٍ أَو جامعية أَو حتى مكتبات خاصة تُغربل ما يأْتيها فتحتفظ بالقيِّم المفيد.
خلاصةً: أُكرر أَنّ الجهاز الخَلَوي في قبضة الكف مَقْتلَةٌ رهيبةٌ خطيرةٌ حين يستخدمُهُ شخصٌ حقيرٌ يعرف سلَفًا أَنْ لن يُعيقَهُ وازعٌ عن نشْر شُرُوره. ومتى غَفَلَ الضمير عن أَن يكونَ الوازع، تَقَعُ المجتمعات في هوَّةٍ قاتلةٍ كالتي نحنُ فيها بين أَشرارٍ قَتَلَة.
فَلْنحذَرْ هؤُلاء، ولْنُلْغِ سلَفًا، قبْل القراءة، نشراتِهم التحريضيةَ وأَخبارَهُم الكاذبةَ التي تتغلغلُ في مجتمعِنا وتَغتالُ صباحاتِ الأَجيال.