في ضوء التحولات والمتغيرات المطلوب مراجعة شاملة | بقلم معن بشور
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
لا يستطيع حتى أكثر المكابرين انكارًا للواقع ان يتجاهل جملة متغيرات وتحولات شهدها العالم عمومًا، والاقليم خصوصًا، وسيكون لها تداعياتها وتأثيراتها على مستقبل المنطقة والعلاقات الدولية، بما يؤكد أننا أمام عالم جديد مختلف عن عالم العقدين الماضيين، حيث كانت الهيمنة الأميركية هي الهيمنة الأوحد في العالم.
أول المتغيرات طبعًا هي الانسحاب المذّلْ للقوات الأميركية من أفغانستان والتي، مهما قيل عن طبيعتها وأهدافها، شكلّت هزيمة مدويّة للسياسة الأميركية التي أفتتحت بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 عصرًا جديدًا في العالم.
وثاني المتغيرات هو اقتراب موعد احياء الاتفاق النووي الإيراني الامريكي بما يضمن حقوق ايران على عدّة مستويات وبما يعكس صمود الجمهورية الإسلامية الإيرانية من جهة، وارتباك السياسة الأميركية واضطرابها من عهد أوباما الى عهد ترامب الى عهد بايدن من جهة أخرى .
وثالث المتغيرات هو بروز جبهة مقاومة وممانعة في الشرق العربي والإسلامي تتضمن دولًا وجيوشًا ، كما مقاومة شعبية صاعدة في فلسطين ولبنان، بل بروز جبهة نجحت في الصمود أمام كل الأعاصير التي عصفت بها من فلسطين الى لبنان الى سورية الى اليمن الجمهورية الإسلامية بما في ذلك العراق، الذي نجحت مقاومة شعبه منذ احتلاله عام 2003 أن تفتتح بالمقابل عصرًا من الانهاك المتصاعد للسياسة الأميركية في المنطقة .
رابع هذه المتغيرات بروز ملامح تمرّد في أكثر من عاصمة عربية وإسلامية على املاءات اميركية، بما فيها عواصم مشهود لها بحرصها على تحويل رغبات واشنطن الى أوامر، وهذا ما شهدناه من خلال أمتناع بعض دول الإقليم عن زيادة انتاجها من النفط رغم ” توسّل” الإدارة الأميركية لها، والذي لم يكتف بالدول “الصديقة” فحسب، بل توجه الى الدول التي كانت تعتبرها واشنطن في رأس لائحة الأعداء كإيران وفنزويلا، مستجدية زيادة في انتاج نفطها وغازها للتعويض عن النقص في الامداد الروسي للغرب .
خامس المتغيرات الحرب الأوكرانية التي شهدت للمرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ، عودة قوية لموسكو مع بكين وحلفائهما الى مسرح السياسة الدولية في صياغة نظام عالمي جديد يقوم على تعدديّة الأقطاب، لا على أحادية القطب الواحد بل ليبدأ تاريخ جديد في العالم لا نهايته كما توقّع فوكوياما قبل عقود.
سادس المتغيرات تحولات ملحوظة في الرأي العام الدولي عامة، والغربي خاصة، والأميركي على الأخص، لصالح الحق الفلسطيني لا سيّما من خلال التحركات الضخمة التي شهدها العالم خلال “هبّة رمضان ” المقدسية في عموم فلسطين، وعملية ” سيف القدس” البطولية المنطلقة من غزة، والتي تشهد عليها هذه الأيام إعلانات بالغة الأهمية عن عنصرية الكيان الصهيوني وأخرها بيان منظمة هيومان رايتس ووتش وكلية القانون في جامعة هارفارد، جامعة النخب الأميركية، ذات الباع الطويل في احتضان كبار الأساتذة والسياسيين الموالين للكيان الغاصب وفي مقدمهم هنري كسينجر .
بالطبع، وبعيدًا عن كل أدعاء ، لا بدّ من الإقرار بأن الفضل في جذور هذه التحولات يعود إلى أبناء أمتنا العربية والإسلامية الذين كانوا أول من تصدّى للنظام العالمي الجديد ومولوده الإقليمي “مشروع الشرق الأوسط الكبير” ، عبر المقاومة في العراق (عام 2003)”، وفشل عدوان تموز على لبنان (عام 2006)، وصمود سورية واليمن الأسطوري بعد (عام 2011)، وانتفاضات فلسطين التي لم تتوقف منذ بداية القرن، وثبات طهران على مواقفها رغم الحصار والضغوط والتهديدات.
إن ادراك دور أمتنا العربية والإسلامية في صياغة المشهد الجديد الذي نراه اليوم على المستوى الإقليمي والدولي، أمر ضروري لا لمجرد أن نستعيد الثقة بأنفسنا وقد انصبّت كل محاولات ألاعداء على ضرب هذه الثقة وشيطنة القوى والرموز، القادة الذين تسببوا بها، وبشتى الوسائل ، والسعي لاشعال حروب وفتن بين اقطارها وداخل كل قطر فقط، بل أيضًا لكي نستعد للتعامل مع الواقع الجديد بفهم عميق لتحولاته وبجرأة لحجز مكان يتقدّم فيه العرب والمسلمين لكي يحققّوا مشروعهم النهضوي القائم على تكامل بين دولهم،وتكتل بين قواهم الشعبية، وتقدم في مجتمعاتهم ، وتحرر في أوطانهم، وحرية وعدالة لمواطنيهم، وتخلّص من الفساد والاستبداد والتبعية، وتجدّد لعطائهم الحضاري الذي ملأ العالم في وقت من الأوقات .
ان سعي المناضلين من أجل نهوض الأمة، والمفكرين والمثقفين والمسكونين بنهضة الأمة وتحررها، من أجل صياغة رؤية مستقبلية، يجب ان يتقدّم اليوم على أي جهد آخر، لأن هناك موضوعيًا فرصة على المستوى العربي والإقليمي والدولي متاحة من أجل الاستفادة من التحولات الجارية ، وهي فرصة يجب ان تقترن بتحرك ذاتي على المستويين الرسمي والشعبي .
إن العنوان الرئيسي للتحرك الذاتي لأمتنا يجب أن يبدأ بالمراجعة ، مراجعتنا جميعًا للمرحلة السابقة، من أجل التطوير في ايجابياتها، وتحديدًا بقدراتها على مقاومة أعدائها والصمود في وجه مخططاتهم، وأن يعاد النظر في كل السياسات والممارسات.
في ضوء هذه المراجعة التي تبدأ بالتلاقي حول نقاط مشتركة ندخل من خلالها الى نقاط الاختلاف لنعالجها.
وإذا كان المجال لا يتسع في هذا المقال لتناول القضايا التي تشملها هذه الرؤية المستقبلية ، فان النقاش حولها يجب ان يتسع ليشمل الجميع.