شرعية القيادة.. ومحاذير الانتقال من المنافسة إلى الصراع نظرة على أوراق حزب المحافظين | كتب مجدي منصور
في هدوء وكعادته أقام حزب المحافظين البريطاني مؤتمراً لمراجعة سياسات الحزب، وعنون الورقة الختامية الصادرة عنه ب:
“حركة أكثر؛ كلمات أقل”(more movement; Fewer words).
وقد سهرت بالأمس على قراء الورقة التنفيذية الصادرة عن مؤتمر سياسات المحافظين البريطاني.
إن حزب المحافظين هو الذي قاد بريطانيا في مواجهة تحالف النازية بقيادة الفوهرر”أدلوف هتلر”، والفاشية بقيادة الدوتشى “بينتو موسوليني” في الحرب العالمية الثانية وكان على رأس الحزب والحكومة وقتها “ونستون تشرشل”.
أمسكت بالتقرير وسرحت ببصرى وقلت إن لحزب المحافظين مع مصر الناصرية حكايات وحكايات، منها أن “أنتوني إيدن” الرجل الذي خلف زعيم بريطانيا الأسطوري “ونستون تشرشل” (في الحزب والحكومة) كان هو الذي قاد الحلف غير المقدس مع فرنسا (جي موليه) وإسرائيل (ديفيد بن جوريون) ضد مصر بعد تأميم الزعيم جمال عبد الناصر لشركة قناة السويس، ودارت معركة السويس 1956التى انهزم فيها قوى العدوان وانتصرت إرادة الشعب المصري وقيادتها.
وكان تعليق “تشرشل” على نهاية الإمبراطورية البريطانية على يد تلميذه وخليفته في الحزب والحكومة “أنتوني إيدن” هو قوله:
«لقد كنت واثقاً أن أنتوني سوف يقودنا إلى كارثة، ولكنى لم أتصورها بهذا الحجم، لو كنت مكانه لما واتتنى الشجاعة للإقدام على هذا الجنون، ولما واتتني جرأة الهرب منه بهذه الطريقة المهينة».
وفى عام 1961، كانت بريطانيا ورئيس وزراءها “هارولد ماكيلان” الذى خلف أنتوني إيدن في الوزارة والحزب(المحافظين) يريد فتح صفحة جديدة مع مصر الناصرية عقب فشل عدوان السويس(1956) وأثناء حضور الزعيم جمال عبد الناصر جلسات الأمم المتحدة (على وقع الصدام وقتها بين الولايات المتحدة بقيادة الرئيس “أيك أيزنهاور” والزعيم السوفيتي “نيكيتا خروتشوف” بسبب قيام أمريكا بالتجسس على الإتحاد السوفيتي واكتشاف السوفييت لهذا الأمر، والتهديد بقيام حرب نووية وقتها).
ذهب وزير خارجية بريطانيا اللورد “دوجلاس هيوم” إلى وزير الخارجية المصري وقتها الدكتور “محمود فوزي” وقال له:
«إن رئيسي (يقصد ما كميلان) يفكر أن يتقدم لمصافحة الرئيس ناصر في فترة الاستراحة في أثناء جلسة الغد، فهل تظن أن الرئيس ناصر سوف يمد له يده، ومن ثم يلتقيان أثناء هذه الدورة»؟
ورد عليه د. فوزي بطريقته قائلاً:
«إنه واثق أن رئيسنا جنتلمان، وهو لا يترك في الهواء يداً معلقة تمتد إليه بالتحية».
وكان أعضاء الوفد المصري المتواجدين في جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذين عرفوا بما دار بين اللورد “هيوم” والدكتور “فوزى”، في حالة من الفضول الشديد ينتظرون كيف سيتصرف رئيس وزراء بريطانيا “هارولد ما كميلان” وكيف يفعلها مع الزعيم المصري “جمال عبد الناصر”.
وعندما جاءت الاستراحة، رأى الكل “ما كميلان” يناور حتى تستطيع خطواته خارجاً من مقعده إلى الممر الواسع في القاعة أن تضعه وجهاً لوجه أمام “جمال عبد الناصر”، ثم إذ هو يمد إليه يده قائلاً بتواضع شديد قائلاً له:
«إنني هارولد ما كميلان ويشرفني أن أتعرف عليك»!
ورد عليه الزعيم جمال عبد الناصر باسما وقال:
«إنني جمال عبد الناصر، ويسعدني أن ألقاك»!
لكن حزب المحافظين في عهد ما كميلان سقط سقطة مدوية في منتصف الستينات بسبب فضائح عن علاقة قامت بين الليدي (دوروثى) زوجة رئيس الوزراء (هارولد ما كميلان) واللورد (بوثبي) وهو نجم اجتماعي وعاطل وقتها، وقد اضطُر (ما كميلان) إلى تعينه وزيراً في حكومته تحت ضغط زوجته الليدي (دوروثى) أي ( أن الزوج أضطُر تحت ضغط زوجته لتعيين عشيقها وزيراً في حكومته ومن أجل إرضاء رئيسة حكومة منزله زوجته الليدي دوروثى!!) وكل ذلك على مرأى من العيون الناقدة والساخرة لمجلس وزرائه!
وكانت خاتمة فضائح عهد المحافظين انكشاف علاقة (كريستين كيلر) وهي بائعة هوى بوزير الحربية البريطاني (جون بروفيومو) والمأزق أنها كانت على علاقة في نفس الوقت مع المُلحق العسكري السوفيتي في لندن الكولونيل (يفجينى إيفانوف)!!
ولم تقُم لحزب المحافظين قائمة بعد ذلك إلا عند ما ظهرت سيدة بريطانيا الحديدية «مارجريت تاتشر»؛ والتي كانت تحب أن يُقال عنها «انها الطبعة النسائية من زعيم الحزب الأسطوري “ونستون تشرشل”» ، كما كان يُقال «أن وزراءها يبللون بنطالاتهم خوفاً منها»!
و”مارجريت تاتشر” هي من قال عنها الرئيس الفرنسي “فرنسوا ميتران” أنه يشعر بنوع من الجاذبية المكبوتة تجاه رئيسة الوزراء البريطانية (مارجريت تاتشر) ويضيف “ميتران”: إن هذه المرأة فيها شيء مُغرٍ يصعُب تجاهُله حتى وهى تصرُخ بأعلى صوتها في أي مناقشة سياسية» ثم يستطرد “متران”:
«شفتا مارجريت مثل شفتا مارلين مونرو معبأتان بالإثارة، ولكن عينيها مثل عيني الإمبراطور الروماني كاليجولا يطُق منهما الشرر»!!.
كانت مارجريت تاتشر النجم الرئيسي التي قاد حزب المحافظين إلى النصر وهي التي استطاعت أن تفهم روح عصر يعود إلى المبادرة الفردية وتؤمن بقدرة رأس المال الخاص على التغيير.
عُدت من جديد وأمسكت بالتقرير ولفت نظري عدة ملاحظات:
الأولى – أنه في «المؤسسات» الحزبية الحقيقية وليس في «الدكاكين» السياسية التي تبتغى الحصول على «المنافع الشخصية» عن طريق تلك «الدكانة» لهذا أو «لشركة» المقاولات لذاك، يكون هناك مؤتمراً لسياسات الحزب يجمع أفضل وأهم العقول في كافة المجالات(سياسية – اجتماعية -اقتصادية- ثقافية)، وتكون مهمتهم وضع الخطوط العريضة لسياسات الحزب وفق أرقام «الواقع الحقيقي» للبلاد ، وليس وضع رؤى «محلقة في سماء الأوهام» من أجل دغدغة مشاعر وأحلام وتطلعات الجماهير وفق المنهج الشعبوي ، لأن حتى المعارضة هناك قائمة على «الشعور بالمسئولية» تجاه بلدهم أولاً – وتجاه ناخبهم ثانياً – وتجاه مصداقياتهم ثالثاً.
أي أن خطط المعارضة تُبنى على «العلم بالواقع»، و(محاولة تغيره) تتم وفق سياسة «تطوير الواقع» كخطوة أولى يليها خطوات حتى نصل لمرحلة «التغيير» ، أي أنهم هناك يسيرون على مبدأ «ضرب المستحيل بالممكن» وفق منهج وتوجهات الحزب.
الثانية – وبعد أن ينتهي المؤتمر من توصياته تُرفع تلك التوصيات «للمكتب المركزي» والمكون غالبية أعضاءه من الأعضاء المنتخبين في كافة التقسيمات الإدارية البريطانية حتى نصل لمجلس العموم ، أي أن من يراجع رؤى و خطط وتوجهات الخبراء هناك هُم القيادات والكوادر الموجودة بالفعل على «أرض الواقع» و وسط الجماهير والعارفين بالمشاكل والمعوقات والأزمات ، وليس الأعضاء المنسحبين والمنغلقين داخل غرف أحزابهم.
الثالثة – ثم بعد ذلك ترفع الملاحظات من القيادات التنفيذية على خطط السياسات للمكتب التنفيذي للحزب لينقحها ويطورها ويجهزها للعرض على المؤتمر العام للحزب لمناقشتها وإقرارها بعد تعديلها بالحذف أو بالإضافة.
الرابعة – أن الورقة الختامية لمؤتمر سياسات الحزب عُنونت ب ” حركة أكثر؛ كلمات أقل”(more movement، Fewer words). وهذا يشى بأن خبراء السياسات في الحزب يرون أن صوت التصريحات أصبح أعلى منذ فترة من وقع الإنجازات سواء داخل الحزب أو في الحكومة.
الخامسة – أن خبراء الحزب هذه المرة رفعوا شعار «في أوقات الأزمات، يجب أن يجلس الخيال في المقعد الخلفي» ، أي أنهم في ذلك الوقت العصيب الذى يمر به العالم من حروب وأزمات اقتصادية قاسية تعصف بالعالم ، يرى خبراء المحافظين أن يلعبوا في المضمون ، دون ابتكار أفكار قد تزيد المشكلة تفاقماً والأزمة حدة ،أي العمل بالمثل المصري(إلي تعرفه أفضل من الي متعرفوش).
السادسة – لفت نظري أيضاً في ورقة مؤتمر سياسات حزب المحافظين أنهم ركزوا بشكل خاص على ظروف سقوط رئيس الحزب ورئيس الوزراء الأسبق “بوريس جونسون” ووضعوا عدداً من الضمانات كى لا تتكرر واقعة استقالة جونسون من الحكومة والحزب مما أثر على الصورة الذهنية لحزب المحافظين في عقول الناخب البريطاني.
أي أنهم هناك يراجعون تجاربهم وأداءهم وفق النتائج العملية ويقومون بعملية نقد ذاتي لأداء قيادتهم وفق مخرجاتهم!، لأنهم هناك يعلمون بأن «وظيفة» الفكر «ترشيد» و«تصحيح» قصور الفعل.
السابعة – كما لفت نظري في تقرير مؤتمر سياسات حزب المحافظين قولهم أن الحزب بحاجة «لحوار» داخلي واسع «لاستيعاب» الشعور بالاستياء والغضب من جانب كوادر الحزب من الشباب، لأن هؤلاء الشباب يرون أن الحزب لم يقدم المرجو منه رغم مكوثه في الحكم فترة طويلة على رأس الحكومة. كما أن هؤلاء الأعضاء حريصين على ممارسة دور أكبر في مستقبل حزبهم.
أي أنهم هناك طالبوا «بالحوار» مع الناقدين وليس «بتشويههم» او «بتأجير بلطجية للاعتداء عليهم»، أو ب «قطع رؤوسهم» على مذهب الحجاج بن يوسف الثقافي!، كما يحدث في الدكاكين الحزبية لدينا!
الثامنة – إن ورقة مؤتمر سياسات الحزب رفعت توصية ضرورية وعاجلة بضرورة ضخ دماء جديدة للهيكل القيادي لحزب المحافظين لأن الحزب قد «شاخ» و«وهنت إرادته» و«خفتت عزيمته»، والأجيال الجديدة وحدها هي القادرة على «تجديد» شباب الحزب و«استعادة روحه» من جديد، كما أن الشباب وحده القادر على التعامل مع المشكلات والأزمات والتحديات بروح عصر ما بعد العولمة.
ولعل خبراء المحافظين في ذلك ينفذون نصيحة لينين التي قالها لتلاميذه (بوخارين وتروتسكى) حينما أوصاهم قبل موته بقوله لهم:
«هزوا شجرة الحزب بين الفينة والأخرى، حتى تسقط الوريقات الصفراء الذابلة لتحل محلها وريقات خضراء يانعة».
التاسعة – وكانت المفاجأة الكبرى لي أن المؤتمر وضع خطة «لفك قبضة القيادات التاريخية للحزب على عصب الحزب» والمتمثل فى “المكتب المركزي” و على “آلة الحزب الإعلامية”، كما وضع المؤتمر قائمة مطالب عندما قرأتها وجدتني ابتسم ملأ فاهي مثل: ضرورة وجود رئيس منتخب انتخاباً لا تأثير فيه على إرادة المجمع الانتخابي للحزب، و وجود ضمانة لحرية اختيار المرشحين ، وإضفاء الطابع الديمقراطي على أنظمة الحكم الاستبدادية للحزب أو استئصالها!!
كما قرع التقرير أجراس الخطر في أذان قيادة الحزب بقوله:
«إن شرعية القيادة داخل حزب المحافظين أصبحت على المحك، كما نبه التقرير لأن الأوضاع في الحزب على وشك أن تتحول و تنتقل من المنافسة إلى الصراع ، كما حدث في أواخر عهد مارجريت تاتشر ، وذلك محظور يجب عدم الوقوع فيه أو الانجرار إليه».
قلت لنفسي أنهم هناك قادرين على النظر لأخطائهم وسلبياتهم الشخصية والتنظيمية في مرآة الحقيقة، دون تخوين أحد والمشاجرة مع أحد، لأن مصلحة التنظيم السياسي هناك أهم من المصالح الشخصية للبعض، ولأن هناك مؤسسات سياسية يحكمها نظم وقوانين ولوائح، وليست كما عندنا عزب شخصية تورث من (أب لابن)، ومن (أخ لأخ)، ومن (زوج لزوجته) حتى ولو طلقها قبل عملية التوريث!
تركت ورقة توصيات مؤتمر سياسات حزب المحافظين الرائعة وتذكرت واقعة طريفة لسيدة بريطانيا الحديدية “مارجريت تاتشر”.
فقد حدث أثناء المؤتمر العام لحزب المحافظين بعد انتخابات سنة ١٩٨٤ التي قادت فيها «مارجريت تاتشر» حزبها إلى النصر للمرة لثانية، تفجرت فضيحة مدوية تخص واحدا من أكبر وزرائها ـ وهو بين القلائل المشهود لهم بالإخلاص لها – «سيسيل باركنسون» وكان رئيس الحزب فى ذلك الوقت.
وكان مجمل الفضيحة أن إحدى سكرتيرات «باركنسون» واسمها «ساره كيز» أعلنت أنها حامل من «باركنسون» (الذي وعدها أن يتزوجها بعد أن يطلق زوجته الحالية ثم أنكر عهده) وأنها سوق تلد ابنة منه فى ظرف أسابيع.
وعندما وصل الخبر إلى «مارجريت تاتشر» وفى وسط دوامة المؤتمر العام للحزب بدت مندهشة إلى حد مبالغ فيه، وتصور المحيطين بها أن داعيها إلى هذا القدر من الدهشة هو تخوفها من تأثير الفضيحة على مؤتمر الحزب إلى حد أن تغطى عليه، ثم رأوها مستغرقة تعد على أصابعها وتحسب ثم تصيح:
«ابن الـكلب… هذا معناه أنه فعلها ونحن في وسط المعركة الانتخابية التي كان مفروضا أن يديرها باعتباره رئيس الحزب؟ كيف وجد الوقت ليفعلها؟»!
تركت القلم وأنا أردد نصيحة لينين لتلاميذه:
«هزوا شجرة الحزب بين الفينة والأخرى، حتى تسقط الوريقات الصفراء الذابلة لتحل محلها وريقات خضراء يانعة».
لكن المشكلة أن شجرة الحزب لدينا ذبلت وكادت أن تجتث من فوق الأرض، لتلقى مصيرها وتنتهى حطباً بفعل نيران التشرذم والتقوقع والعداءات والاقصاءات لكل الكفاءات، لقد ذبلت الشجرة بتقدم السن حتى صح قول الشاعر فيها «إن الثمانين التي شارفتها قد أحوجت سمعي لترجمان»، وذبلت بشُح الأفكار، وذبلت بسيطرة الانتهازيين ومعدومي الكفاءات وعديمي المعرفة على المشهد، و ذبلت بتواجد العناصر الغير أيدلوجية المتسلقين كاللبلاب.
ولعلني أثق أنهم في الخارج سيسمعون بل ويلبون نداءات وطلبات خبراء السياسات لديهم، ولكنى أشك أن من هم في الداخل لدينا يناقشون أو حتى سيسمعون ، لأنهم «صُم ُبكم عُمى»، وفى قول أخر: «كتع كسح كسل»!!