الاحدثالصورة الكبيرةقراءات معمقة

المثقفون والسلطة في مصر من عصر الثورة لعصر الردة : الكاتب السياسي مجدي منصور يكتب عن علاقة السياسة بالثقافة

تحذير قبل القراءة: أي تشابه قد يراه القارئ في الأحداث بين ما وقع وبين ما يقع يتحمله القارئ وليس الكاتب!

إن علاقة المثقف بالأمير علاقة ملتبسة ومتشعبة، فالأمير يريد من المثقف أن يكون بوقاً له ومسوقاً لرغباته قبل أفكاره وخططه (هذا إذا كان الأمير يفكر من الأصل أو يمتلك خطط من الأساس)!

وفى الماضي كان (الشاعر) هو بمثابة المثقف الناشر لأفكار الأمير والمتحدث عن شجاعته وكرمه، ببساطة كان هو جهازه الإعلامي، وأحد أبرز هؤلاء هو شاعر العرب الأكبر “أبا طيب المتنبي” الرجل الذي بدأ في خدمة “سيف الدولة الحمداني”، وتحول بعدها لخدمة “كافور الاخشيد”! والمتنبي هو من كتب لسيف الدولة البيت الشهير القائل:

«يا أعـدَل الناسِ إلا في معاملتي فِيكَ الخِصَامُ وأَنْتَ الخَصْمُ والحَكَمُ»

ولكن (الأمير) سُرعان ما «ينقلب» على (المثقف)، أو فلنقل، إن المثقف هو الذي «يتغير» على الأمير، فيذهب المثقف (المتنبي) إلى أمير أخر (كافور الاخشيد) ليستعمله ويكتب فيه المتنبي قصائد المديح، ويعود لينقلب عليه من جديد ليكتب فيه أيضاً ولكن بدل من قصائد المديح يكون شعر الهجاء!

وكان الأديب الروسي الكبير “مكسيم غوركي” غير متحمس لبعض الأساليب القهرية المستخدمة من قبل السلطة الثورية البلشفية وعلى رأسها مفكرها وقائدها “فلاديمير لينين”.

في حين أن لينين كان يردد على مسامع جوركي: [بأن تلك الأساليب هي من باب «التكتيك» اللازم لنجاح الثورة].

وفي أحد النقاشات بينهم تلقى «الأديب الحالم» جوركي نصيحة من «السياسي الواقعي» لينين، عندما قال له:

[إن «الزهور» لا تُنجح الثورات، ولكنه «الرصاص»، اذهب إلى أحد المدن البعيدة واسترح هناك، واعلم أن الواقع الثوري يختلف تماما عن أحداث رواياتك، إن الحقيقة دائما صادمة، ولكن لا مناص من التعامل معها].

 وربما أن ذلك التناقض بين نظرة (المثقف) للأمور وبين نظرة (الأمير) حتى ولو كان «ثوري»!، تعود إلى أن المثقف ينشد (الواقع المثالي للأمور)، بينما السياسي هدفه المحافظة على مكاسبه السياسية في الواقع الحي أمامه (بصرف النظر عن الوسيلة المستخدمة للحفاظ على ذلك الواقع).

إنه الفرق بين «عُذرية» أحلام المثقف و «انتهازية» أفعال السياسي!!

وهناك كتابان مصريان يلمسان بجرأة وحرفية ذلك الموضوع الأول «المثقفون والسلطة في مصر» للدكتور غالى شكري، والثاني «معركة بين الدولة والمثقفين» للصحفي والروائي فتحي غانم، والاثنين أبناء المشروع الناصري، فغالى كان أحد أعمدة المشروع الثقافي الناصري وكذا غانم الذي تولى رئاسة تحرير جريدة (الجمهورية) وهي المعبرة عن وجهة نظر الثورة وتنظيمها السياسي الوحيد وقتها الاتحاد الاشتراكي.

يُلقى شكري في بداية كتابه المثقفون والسلطة في مصر بقنبلته التي يضعها في سؤال:

هل يمارس المثقفون صناعة الحلم أم شرعية الهدم؟

ثم يطرح شكري في كتابه عدد من النقاط والاسئلة:

عن علاقة النهضة بالثقافة؟ وتعريف المثقف؟ وعن ماهية الإطار المرجعي للمثقف والسلطة؟

ويضرب شكري أمثلة منها: “رفاعة الطهطاوي” المثقف الذي اختلف مع الدولة ولكنه لم يخرج أبداً على السلطة.

كما يتحدث عن محمد عبده المثقف الأقرب (للدولة) والأعيان وجمال الدين الأفغاني المثقف الأقرب (للثورة) والفلاحين.

ويرصد شكري بعبقرية عن لحظة (انتقال) مركز الثقل والثورة والتأثير والنفوذ فيما بعد في مصر من المؤسسة الشرعية «الأزهر» إلى المؤسسة العسكرية «الجيش» بعد خروج عرابي ورفاقه من الثكنات العسكرية للقصور الخديوية أمام توفيق.

إن شكري في كتابه الرائع يربط بحرفية عالية تاريخ مصر في العلاقة بين المثقف والحاكم بين الفكرة والسلطة بين الحرية الطليقة والزنزانة السحيقة بين قلم المثقف وإسار السجان بين الكلمة والرصاصة بين القوة و المعرفة. بين (رفاعة الطهطاوي و زكى مبارك و عبدالله النديم و محمد عبده و جمال الدين الأفغاني، على عبد الرازق وأحمد لطفى السيد و قاسم أمين و طه حسين و عباس محمود العقاد و توفيق الحكيم و محمد حسنين هيكل) وبين (محمد على باشا و الخديوي إسماعيل و الخديوي توفيق و الخديوي عباس حلمي والسلطان حسين كامل و السلطان فؤاد والملك فاروق وسعد زغلول ومصطفى النحاس وجمال عبد الناصر وأنور السادات).

ويصف شكري نتيجة جهد كلاً من المثقف الإصلاحي من داخل السلطة والمثقف الثوري من خارجها فيقول:

«إن المثقفون من داخل السلطة يحاولون الاصلاح، ومن خارجها يحاولون الثورة. وفى الحالتين تنتهى محاولاتهم عند حائط الاعدام أو المنفى أو السجن».

وهو بعد ذلك يُجري حوارات مع عدد من الشخصيات في مطبخ السلطة ورجال الشارع السياسي مثل: فتحي رضوان، خالد محيى الدين، على صبري ، توفيق الحكيم ، لويس عوض ، زكى نجيب محمود.

وهو بعد الحوار يُحلل موقف كُلاً منهم على ضوء الحوار، فيقول بعد حواره مع أحد أعمدة النظام الناصري السيد على صبري (رئيس الوزراء الأسبق).

«إن على صبري أراد أن يخرج من صيغة العسكري البرجماتى لينتسب لصيغة المثقف الداعية».

ويضيف د. غالى شكري تعليقاً ووصفاً له دلالة ومعنى حينما يضيف:

«هكذا يصبح المثقف الثوري في هذا الهيكل قناعاً لرجل الأمن، وظيفته ليست ابداع الثورة، بل إكساب سلطة الدولة شرعية الأيديولوجية الواحدة والتنظيم الواحد. ولا سبيل لذلك بغير القمع».

وهو يصف د. لويس عوض بعد حواره معه:

«بأنه من الصعب أن نجد عند لويس صياغة متسقة لأفكاره السياسية والاجتماعية». ويعلل شكري ذلك بقوله: « ربما لأنه فنان أراد ارتداء قناع المفكر». 

ثم يتحدث شكري عن الفرق بين المصطلحات في عهد عبد الناصر وعهد خلفه أنور السادات فيقول:

«إن شعار الوطنية المصرية» قد انتقل في ظل أنور السادات من أيدي أطراف الحركة الوطنية المصرية إلى أيدى أعداءها، وشعار (مصر للمصريين) الذى كان يرفعه المناضلون ضد الاحتلال الأجنبي ، وكان مقصدهم من (المصرية) نفى الهيمنة الاستعمارية العسكرية كانت أو سياسية أو اقتصادية.

أما في ظل أنور السادات فإن الشعار القديم يُطل على استيحاء مرفوعاً ضد الانتماء المصري للوطن العربي. هو نفسه يرتفع بأيدي من يفتحون الأبواب للهيمنة الأجنبية الاستعمارية على مصر.

لقد اختلف السياق فانعكس مضمون الشعار، وبعدما كان مقصوده نفى التبعية للاستعمار صار مقصوده نفى الانتماء العربي عن مصر».

أما الكتاب الثاني معركة بين الدولة والمثقفين لفتحي غانم، يتحدث فيه فتحي غانم بأسلوب الروائي عن مجموعة مشاهدات له عن المناخ الثقافي والسياسي في عصر عبد الناصر والسادات.

فيبدأ كتابه بنكتة يقول إن مطلقتها هي كوكب الشرق أم كلثوم في أوائل ثورة يوليو1952:

«كانت النكتة المشهورة التي أطلقتها أم كلثوم: أنها تنصح أي أب حريص على مستقبل ابنه أن يسعى لإدخاله الكلية الحربية، وسيتخرج بعدها الطالب ويعمل في أي عمل يشاء طبيباً جراحاً، أو مهندساً، أو مدير بنك، أو كاتباً أو رئيس تحرير، أو قاضياً يصدر الأحكام على الناس»!!

ويضيف أما مجلة روزا اليوسف بعد قيام الثورة كانت لها أسلوبها في التهكم على فكرة قيام العسكريين بكل مهام البناء ، فعندما كان يرُد العسكريين بأن هناك مدنيين ومثقفين داخل السلطة والحكم من غير ضباط الجيش مثل الشيخ أحمد حسن الباقوري. كانت روزا اليوسف تقول أن اسمه أ.ح الباقوري، أي (أركان حرب الباقوري)!! ولهذا شارك معهم في الوزارة.

ثم يستشهد فتحي غانم بمقولة ابن خلدون «إن قيام الدولة يبدا بالسيف فاذا قامت الدولة انطلق البناء بالقلم وتراجع السيف».

ثم يتحدث عن مشاهداته للرقابة في العهد الناصري فيصف الرقيب «بالرجل الخائف»، ويتكلم عن النكات التي سمعها الصحفيين (أمثال مصطفى امين ومحمد حسنين هيكل) من الرئيس عبد الناصر كدلالة على اهتمام الرئيس عبد الناصر بمعرفة كل كبيرة وصغيرة في البلد.

وهو يصول ويجول في كُتيبه عن مشاهداته للوسط الصحفي في النظام الناصري خلاصته أن الأمن كان طاغياً في ذلك الوقت، وتحديداً في الفصل الخامس بعنوان (تاهت الحرية بين اليسار واليمين والإخوان).

ثم يشرح غانم بأسلوبه الأدبي رؤى الاشتراكية عند الصحفيين الكبار وقتها وعند التيارات الموجودة فيقول:

«الاشتراكية عند أحمد بهاء الدين هي علمية، وعند احسان عبد القدوس موقف من السلطة وتأييدها كصاحب خبره في السياسة، و عند مصطفى وعلى أمين خطر داهم، وعند محمد حسنين هيكل طريق جديد مفتوح سوف يكون اول من يحمل اخباره إلى القارئ بتفسيراته وشروحه الصحيحة، و الاشتراكية عند أغلب الشيوعيين بونابرتية تعبر عن طموح وجموح فردى لعبد الناصر وهي عند أخرين رأس مالية دولة ، وهي عند الاخوان المسلمين انحراف عن الصراط المستقيم».

قصة خارج السياق بين الكاتب السياسي والأديب

يروى الصحفي رشاد كامل في كتابه (الصحافة والثورة – ذكريات ومذكرات) أنه ذهب يوم الكاتب والروائي القدير “فتحي غانم” – صاحب الروايات الرائعة فى الأدب المصري والعربي: مثل (زينب والعرش) (تلك الأيام) و(الرجل الذي فقد ظله) وسأله:

” أنت صحفي ورئيس تحرير ورئيس مجلس إدارة وكاتب”!

– نعم. كنت كذلك.

سكت رشاد كامل، ثم قال:

” أستاذ فتحي.. ماذا يهمك من كل هذه الألقاب”؟

رد غانم قائلاً:

” أنا لا يهمني على الإطلاق لقب رئيس تحرير أو رئيس مجلس إدارة ولكن ما يهمني في البداية والنهاية أن تتم محاسبتي وتقييمي على أساس ما كتبت من روايات وقصص، وأضاف غانم:

“قبل ثورة 1952 عينت في إدارة التحقيقات بوزارة المعارف – وزارة التربية والتعليم فيما بعد – وكان معي عبد الرحمن الشرقاوي وأحمد بهاء الدين وكان محمد حسنين هيكل وقتها محرراً شاباً فى بداية طريقه

– أين كان يعمل؟

– في مجلة (آخر ساعة) ويأتي للحصول على أخبار تحقيقات الإدارة لينشرها وفى هذه اللقاءات تعرفت عليه – وبعد قيام الثورة بفترة قصيرة قال لى فى إطار حديث عام بيني وبينه – عن قناعة تامة ومطلقة – (شوف يا غانم):

” الحاكم محتاج لصحفي يعبر عنه.

– وبعدين!

-وبعدين إيه يا غانم:” سأكون أنا هذا الصحفي”

ابتسم رشاد كامل وسأله:

وماذا قلت له؟

رد فتحي غانم قلت:

“إن الأدب أفضل من السياسة”!

رد شاد كامل: وبماذا علق الأستاذ هيكل على قولك؟

ضحك فتحي غانم طويلاً وهو يقول:

” قال لي.. يا غانم. خلاص أنت بتاع الصفحة الأخيرة وأنا بتاع الصفحة الأولى”!

(انتهت القصة وعودة للسياق من جديد).

ثم يروى غانم واقعة حدثت له بعد نكسة يونيو فيقول:

في 19 يونيو نشرت مقال في جريدة الجمهورية التي أرأس تحريرها مقال بقلم الأستاذ سعد الخيال بعنوان (القوات المسلحة والعلاج الجذري) جاء فيه:

قواتنا في موقف بالغ التعقيد بعد أن ضمن العدو لنفسه التفوق بل التفرد في الجو منذ البداية، والجيش نفسه لا يمكن أن يُلام على ما حدث بل على العكس فإننا ندرك موقفه البالغ الصعوبة والمتاعب والآلام المادية والمعنوية التي احتملها.

وحذار أن نقول إن المسألة مسألة أشخاص يخلفون أشخاصاً.

ثم هاجم الأستاذ سعد الخيال نظرية أن الجيش هو الشعب منظماً، والتي على أساسها تكررت عمليات الاستعانة برجال الجيش في نواحي الحياة المدنية.

هذه النظرية أدت إلى تسرب الحياة المدنية بأساليبها وسلوكها وتطلعاتها إلى الجيش مما أضعف الحدود الفاصلة بين ما هو عسكري وما هو مدنى ، وصرف كثيراً من الاهتمام إلى مجالات أخرى ، حتى أصبح القفز إلى هذه المجالات ينازع روح التخصص العسكري.

ويضيف الخيال قائلاً:

إن نذر الحياة للجيش، والبطل المحارب الذي يستعذب التضحية ويحتضن الواجب العسكري. والحرب هي أشق ما يحتمله الإنسان، والتنعم آفة المحارب ، والامتيازات هي كالسوس توهن قوة الاحتمال ، وتنمى روح المحافظة بدلاً من الروح الثورية.

ثم ختم سعيد الخيال مقاله قائلاً:

إن النفوس مهيأة، وعزيمة الشعب حديد، والظروف ملحة في وجوب سرعة العلاج الجذري مع الحكومة وأمل الشعب معقود على قائده جمال عبد الناصر.

ويكمل غانم قائلاً:

وصباح يوم صدور الجمهورية كان منير حافظ (مدير مكتب سامى شرف) يتصل بي من مكتب سامى شرف (مدير مكتب الرئيس للمعلومات ووزير شئون رئاسة الجمهورية بعدها) ليطمئن على قواي العقلية، إذ كيف أسمح بنشر مقال كهذا؟ ، ويضيف: الا تعلم أن مائة لمبة حمراء قد أضاءت في مائة مكتب تدرس نتائج هذا المقال وتأثيره في مواقع كثيرة؟

ويعلق غانم على كلام منير حافظ:

لقد كان يتحدث عن الأمن لأنه أهم بكثير من الوصول إلى فهم ما حدث، أو مناقشة الهزيمة ، وإذا كان لابد من دراسة ، فليس أمام الجماهير وبعيداً عن العقول المصرية خارج نطاق الأمن وسيطرته.

ويضيف:

وجاء العصر ليتصل بي محمد حسنين هيكل (رئيس مجلس ادارة وتحرير جريدة الأهرام وقتها) ليقول لي نفس ما قاله منير حافظ، ويضيف بلهجة ساخرة: «أنى المسئول عن سيف الرقابة الذى هبط على الصحافة من جديد»!

ولأن الصحفي فتحي لا يستطيع أن يبتعد عن الأديب غانم!، فهو يصف الأجواء وقتها ويجسمها بذكر مشهد من روايته (تلك الأيام) الذى نشرها عام 1962 فيقول:

تذكرت ما كتبته في رواية تلك الأيام، وفيها شخصية أستاذ التاريخ سالم عبيد والذى كان عضواً في لجنة كتابة الميثاق الوطني يراجع في خواطره حديث استاذه في جامعة السوربون مسيو لافارج، وهو يقول له:

«إن بلدك أضعف من أن يتحمل الحقيقة. إن كل ما تستطيع أن تفعله هو أن تدرس تفاصيل الأحداث ، ثم تقف في قاعة المحاضرات بجامعة القاهرة لتختار التفاصيل المناسبة اللائقة وتسردها أمام الطلبة .. لا شيء أكثر من هذا يا عزيزي.. أو السجن .. نصف الحقيقة وتحيا .. كل الحقيقة والمقصلة يا عزيزي»

ثم يورد فتحي غانم بعين الأديب مشهد له دلالة ومعنى لمن يبتعد عن السطح و يدقق ويغوص في العمق، فهو يقول:

أنه بعد بيان 30 مارس1968 جرت انتخابات جديدة للجنة التنفيذية العليا، وحصل على صبري على أعلى الأصوات وكان هذا يؤهله لأن يرأس اللجنة السياسية، وفوجئت بأنور السادات يتصل بي ويطلب أن تقف الصحافة إلى جانبه ، وكان يشكو من أن الأهرام والأخبار تتعمدان إهمال أخباره. وطالب السادات من الجمهورية أن تهتم باجتماع اللجنة السياسية ، وقال انه يريد ان نستعد بمصور لأنه سوف يُبكر في الحضور إلى قاعة الاجتماع ويجلس في مقعد الرئيس ، وعندما يأتي الأخرون ومن بينهم على صبري سيضطرون إلى الجلوس على المائدة من حوله ، وبذلك تصبح قضية اختيار أو انتخاب رئيس للجلسة ثم رئيس للجنة السياسية محسومة بالأمر الواقع!!

 

عصر أنور السادات

وبدءاً من الفصل العاشر يتحدث الكاتب عن عهد أنور السادات بعنوان: (الرقابة على طريقة السادات) وفي بدايته يتحدث عن الصراع بين الصحافة والسياسة وعن الكاتب الأول للنظام الناصري الأستاذ محمد حسنين هيكل، فيقول:

أنه في بداية عهد السادات كان سؤال الوسط الصحفي هل سيظل الأهرام ومحمد حسنين هيكل متفرد ومحتكر لأخبار الدولة المصرية أم سيتغير الحال مع الرئيس الجديد؟ كما لاحظ الجميع في الوسط الصحفي أن هناك معارضة لموقف هيكل الذي أعلنه في مقالاته في الأهرام عن ضرورة تحييد أمريكا في الصراع العربي الإسرائيلي.

ويكمل غانم: أنه تصدى لمقالات هيكل في الجمهورية، كما جاءه عدد كبير من رجال التنظيم الطليعي يطلبون نشر مقالاتهم في الجمهورية وكان في مقدمتهم الدكتور فوزى منصور ، ودكتور إبراهيم سعد الدين و دكتور لبيب شقير وصبري مبدى. وجميعهم يهاجمون هيكل ، ولم يتدخل الرقيب لمنع أي مقال يهاجم هيكل. وبدا للقارئ أن الهجوم على هيكل كاتب عبد الناصر الأول أمر مثير للدهشة، وله دلالته على أن مناخاً جديداً يسود البلاد.

وفى واقعة ثانية يقول غانم:

أنه في اجتماع لرؤساء مجالس ادارات الصحف دعاء اليه ضياء الدين داود ووصلت متأخراً فوجدت هيكل يجلس بالقرب من الباب عند طرف المائدة الطويلة التي يجلس في طرفها الآخر ضياء الدين داود ، وجلست بجوار هيكل ، وهمس وملامح وجهه تفيض بالسخرية: هل صحيح أن ميزانية الإعلانات تصل إلى خمسة وعشرين مليون جنيه ، ما هو الرقم عندك في الاعلانات المصرية؟ قلت له مليون ونصف المليون. فقال بضيق: إنهم يرددون كلاماً غير صحيح، ويذكرون أرقاماً لا صلة لها بالواقع.

وفى اجتماع أخر، قال لي وهو خارج كلمات قاسية عن ذلك الذى يحدث في هذه الاجتماعات، وكان واضحاً أنه يعترض على ما يقال ويرى أنه كلام لا صلة له بالصحافة أو الاعلام أو السياسة. ونقل لي الإحساس بأن الصراع قائم ويوشك أن يُكشر عن أنيابه، لكنه لم يصل بعد إلى مرحلة المكاشفة التي تجعل هيكل يقاطع هذه الاجتماعات ، وكان حضوره ومشاركته في اجتماعات الاتحاد الاشتراكي تعنى ان الظروف تغيرت ، فلم تعد القرارات تصدر من الرئاسة ويعرف بها هيكل قبل غيره.

ويكمل غانم فيقول:

بعدها بعدة أيام اتصل بي سامي شرف وقال لي أن السادات يطلب منى ايقاف نشر مقالات أعضاء التنظيم الطليعي وكذا مقالات على صبري ولبيب شقير وصبري مبدى.

وفجأة وبلا مقدمات ظهرت الرقابة صارمة حازمة مع تعليمات وتحذيرات لا لبس فيها من سامي شرف الا أخبر أحداً بأن تلك تعليمات الرئيس!!

وفى مكان أخر يقول غانم بآسي بالغ:

لقد طبق السادات «استراتيجية الأمن فوق الرأي»، وهو يقول أن الدكتور محمد حسن الزيات سأله عن تفاصيل رحلته في موسكو وأنه عندما علم منه أن بعض المسئولين السوفييت قالوا له أنكم يجب أن تعتمدوا على أنفسكم ، اندهش وقال : «لو صح هذا .. فالبلد سيحكمها المشايخ»!!

ويعلق غانم على مقولة الزيات فيقول:

«إنني أسجل هذه الكلمة على مسئوليتي، وإن كنت لا أعرف مدى علمه بخطة السادات عندما استخدم الدين في السياسة لضرب خصومه من اليسار عامة والناصريين خاصة».

السادات يُقيل غانم من الجمهورية

وبعد فترة قليلة استدعى وزير الاعلام الجديد د. عبد القادر حاتم فتحي غانم ليقول له بلهجة رقيقة أن الظروف السياسية اليوم تقتضى أن يترك غانم رئاسة مجلس ادارة وتحرير الجمهورية.

 

الرقابة على طريقة السادات!

ويكمل غانم بمرارة: بعد عدة أيام على تركى لموقعي أرسلت مقالة للجريدة التي كنت أتراسها ، وبعد يوم جاءني في الليل بعض العمال ومعهم بروفة المقال ، وما زلت أحتفظ بها. وقالوا لي:

«عرفنا أنهم أخبروك أن العمال رفضوا جمع المقال، وهذا كذب. ها هو المقال تم جمعه وتصحيحه. لكنهم يمنعون النشر ولا يريدون الاعتراف بذلك».

ويعلق فتحي غانم على كلمات العمال:

«ابتسمت. كنت أعلم أن هذه هي الرقابة على طريقة السادات».

ويقول غانم قبل الختام أنه بعد حرب أكتوبر حاول عبدالرحمن الشرقاوي وكان أصبح المسئول عن روزا اليوسف أن يعيدني على مسئوليته ، ويكمل غانم بمزيج من الآسي والشجن:

«ولكن ثبُت أن ما يستطيع كاتب أن يفعله على مسئوليته في عهد عبد الناصر لا يستطيع أن يفعله أحد على مسئوليته في عهد السادات فقد فشل الشرقاوي في محاولته».

ويختتم غانم فصول كتابه بفصل عنونه ب: أسئلة الثلاثين عاماً، قال فيه:

«تتلخص تجربتي ككاتب في عهدي عبد الناصر والسادات في أن السلطة السياسية كانت تتعامل مع حرية التعبير باستراتيجية محددة، وهى أن الأمن أهم من الثقافة ، وحماية النظام تبرر تقييد الحوار ، وإن اختلف أسلوب التعامل من عهد عبد الناصر إلى عهد السادات».

ويضيف غانم في موضع أخر قائلاً:

«إن استراتيجية الأمن لا تُحقق أمناً إذا ما كانت قيداً على حرية الرأي، وإذا تدخلت في حوار المثقفين لتفرض عليه مساراً معيناً يرضى عنه النظام أو يرتاح له الحاكم ، وأسبقية الأمن على حرية الفكر لم تحقق الأمن للنظام الناصري في يونيو67 ، ولم يتحقق الأمن للحاكم في المنصة  أكتوبر1981»

ويختتم غانم كتابه بالقول:

«إن استراتيجية الأمن وحده قد أفلست منذ سنوات وماتت دون أن يُعلن أحد وفاتها ، بينما الأحداث تؤكد كل يوم أن نور العقل هو الوحيد القادر على فتح طريق السلامة أمامنا ، وبغير العقل نمضى في طريق الندامة. إن أجهزة الأمن لا تحمى الثقافة ولا تصنعها ، والأمن القادر على تأدية وظائفه يحتاج إلى الثقافة ترشده وتُنير له الطريق».

عبد الفتاح السيسي وسياسة تجييش الثقافة والمثقفين

وقبل النهاية يجب أن أشير لموقف نظام 30 يونيو أو ما يُحب إعلام النظام أن يطلق عليه الجمهورية الجديدة (دولة عبد الفتاح السيسي) من المثقفين. وكذا موقف المثقفين من الجمهورية الجديدة!

وربما يكون أفضل من وصف فكر وسلوكيات وتوجهات ذلك النظام من الثقافة والمثقفين هو دكتور سعد الدين إبراهيم ، حينما قال في بحثه الهام “تجسير الفجوة بين المفكرين وصانعي القرارات في الوطن العربي”:

«أن الحكم العربي بشرعياته الثلاث التقليدية والليبرالية والثورية الحديثة (العسكرية) ومنذ هزيمه 67 تبلورت أزمه الحاكم في أزمته مع المجتمع الذي عجز عن حل مشكلاته الداخلية والخارجية، وفي نفس الوقت لم يسمح لمكونات هذا المجتمع أن تشارك مشاركه فعلية في التصدي لهذه المشكلات. فقد عجز عن ضبط اطار الحركة بين مجتمع يتغير بسرعه وهيكل سياسي يتلكأ أو يتخبط في حركته، و(أزمته) مع (المفكر) الذي كان يمكن أن يعبر عن هذا المجتمع حتى وهو “ينقده” وأن يعبر عن الأمير حتى وهو “ينتقده”. وأن يشاركهما في ضبط ايقاع الحركة بين المجتمع والدولة».

 ويحدد سعد الدين ابراهيم انماط العلاقة بين المفكر والامير فيقول:

«إن هذا الأخير (أي الأمير-الحاكم-السلطان-الجنرال) كان يستخدم نمطين الأول هو “العميل” أو “الداعية” أو “الدعائي” الذي يبرر الشرعية لدرجه التلفيق».

 

ويضيف سعد الدين إبراهيم:

«أن النمط الثاني هو “الخبير” الذي يدعى الحيادية، وهو صاحب المعرفة التقنية المتخصصة. ومن نتيجة ذلك أن «سقطت» السياسات التي بررها «العميل». ولم تنجح التكنولوجيا التي تمسك بها الخبير. وهو يسوق الأمثلة والشواهد على سوء الحال الذى يتمثل في هجره العديد من المفكرين إلى السجون أو المنفى أو الصحافة المهاجرة أو الصمت. أما المفكر الخبير فقد مني بالإحباط لتفضيل الخبير الأجنبي عليه ، ولم يبق في الساحة سوى “العملاء” من المبررين لشرعية تأكلت».

 

أما موقف المثقفين من نظام الجمهورية الجديدة، فيجب التذكير أولاً بأن جزء من سريان الرؤية (أي رؤية) هو تعاون وتفاعل قطاع من المثقفين أو من ظنوا أنهم مثقفين أو من تمنوا لو كانوا مثقفين مع تلك الرؤية، وهنا أقول بأن المثقفين (على اختلاف أشكالهم وأنواعهم وتوجهاتهم) تعاونوا مع دولة ما بعد الإخوان من اجتهادات  شتى:

  • فمنهم من تحمس لبناء مصر الجديدة مع قيادة بدت في البداية مستجيبة لطلبات الجماهير في الشارع واضعة الشعب نصب عينيها وفى قول سابق لها (أن الشعب نور عينينا!).
  • ومنهم من كان له تحفظات على التحرك ذاته (عزل مرسي) منطلقاً من رفض أي تحرك عسكري في الحياة المدنية.
  • ومنهم من اتجه بولائه السياسي إلى الوضع الجديد، باعتباره نظام حكم قائماً، أما ولاؤه الفكري فقد راح يتأرجح مع القبول و الرفض و والشك والحيرة.
  • ومنهم وهم الغالبية بالأمس واليوم من يطلق عليهم (رجال كل العصور) هؤلاء الذين لا مبدأ لهم ولا هدف إلا جني المكاسب الشخصية والمطالب الذاتية الأنانية، وهم في سبيل تحقيق تلك المطالب على استعداد لأن يطبقوا مقولة لويد جورج (رئيس وزراء بريطانيا الأسبق) عن الإعلاميين والصحفيين حينما قال عنهم:

«هؤلاء على استعداد لسلخ جلود بطون أمهاتهم ويشدوها ليدقون عليها أناشيد أي سلطان!».

الغريب أنه بعد خروج المظاهرات في الثلاثين من يونيو، وبعد عزل مرسي ومع سرعة توالى الأحداث وتدافع الحوادث وتحت ضغط والحاح الظروف ومع تفاعل كل ذلك مع الشارع جاءت جميع الفئات (المؤيد والمعترض والرافض و الطامع والخائف والمتأرجح بين الشك والحيرة) ووضعوا كل علمهم وتأييدهم تحت أمر النظام الجديد، دون تحفظ وربما دون سلبية!

وهنا وأنا أتناول هذه النقطة فإنني أريد أن أفرق بين شيئين:

– الولاء الشخصي والسياسي من جانب المثقف للنظام طمعاً أو خوفاً منه كنظام حكم قائم.

– والولاء الموضوعي لذلك النظام ولتلك الدولة شراكةً فيها وتفاعلاً متكافئاً معها وإيماناً واقتناعاً بها وبرؤيتها وبمشروعها (هذا إذا كانت تمتلك رؤية ومشروع من الأساس).

وليس من شك أن نظام الرئيس السيسي وجد من فئات المثقفين والاعلاميين ما كان في حاجة إليه من الولاء السياسي (سواء طمعاً في ذهب السلطان أو خوفاً من عصاه وما أغلظها أو سيفه وما أحده في تلك الفترة)!

لقد تعاونوا معه بكل ما في قدرتهم في المشروعات التي تصدى لتنفيذها ولكن هذا كله يدخل في باب الولاء السياسي، وليس الولاء الموضوعي (أي أنه الجبر وليس الاقتناع، الكذب وليس الصدق ، الطمع وليس الاقتناع و الرضاء الحر) ولذلك لم نرى حماسة شعبية حقيقية رغم كل التسويق الإعلامي (من طبل وزمر) المصاحب لتقديم تلك المشروعات كما رأيناها في حماسة الشعب المصري لمشروع مثل السد العالي في مصر الناصرية.

في هذا كله أين كان هؤلاء (المثقف “العميل” أو “الداعية” أو “الدعائي” كما وصفهم سعد الدين إبراهيم)، وأين كان دورهم وموقعهم في تلك اللحظة؟

الواقع أنهم، فيما عدا ظواهر فردية لا تكاد تُذكر، كانوا بعيدين عن أحلام وتطلعات الشعب:

– بعضهم بارتباطاته الطبقية كان يقف في الصف المعادي لمصالح الجماهير.

– والبعض الآخر، بحكم إيثار العافية على الأقل، كان يقنع بالانزواء ويباشر رعايته لمصالحه الشخصية، من غير تعرض غير مأمون العواقب لمجرى الحوادث.

– والبعض الآخر اتجه بولائه السياسي إلى الوضع الجديد، باعتباره نظام حكم قائماً، أما ولاؤه الفكري فقد راح يتأرجح مع الحيرة والشك والمصلحة أيضاً.

ويمكن القول بأن تلك المرحلة التي نعيشها في مصر بالنسبة للمثقف ينطبق عليها وصف المثقف التونسي “الطاهر لبيب” الذى وصف العلاقة بين المثقف والسلطة في العالم العربي بقوله:

«إن الحنين الى المراحل السابقة على الاستقلال يطبع حديث المثقف عن أزمته، فالسلطة الوطنية لم تعد تحتاج الى وساطة المثقفين في نشر هيمنتها الأيدولوجية لأن سلطة ما بعد الاستقلال تحتاج الى الدعاية من جهة والخبرة التقنية من جهة أخرى في ظل الانفراد بصنع القرار ، أما الرؤية النقدية التي تعني المشاركة فليست مطلوبة ولا مرغوبة».

ثم يضيف لبيب حقيقة يغفلها غالبية المثقفين الذين يحبون إظهار أنفسهم في صورة المظلومين المضطهدين وهي:

«إن غالبية المثقفين العرب يولدون ويتعايشون ويموتون في مؤسسات السلطة فهم فكرياً وأيدولوجياً في ثقافة السلطة يمارسون سلطة ثقافية. ويشير الى أن المثقف في العادة يحب أن يقدم نفسه على أنه ضحية للسلطة، ولكن الحقيقة هي أنه: قلما يتنازل (المثقف) عما تمنحه له السلطة من امتيازات ثم انه يطمح الى اكتمال سلطته الى أن يكون سلطة، إن لم يكن هو في صُلب السلطة القائمة بالفعل، أو في هوامشها».

ثم يضع لبيب هؤلاء المثقفين أمام مراءة ليروا ذواتهم على حقيقتها فيقول:

«إن تجارب صعود المثقفين بينت انهم يتنكرون للمبادئ التي دافعوا عنها، ويستعملون وسائل السلطة التي طالما نددوا بها وهاجموها وعانوا منها، مثل القمع والمحاكمات الصورية والتشويه و استخدام نفوذ أجهزة الأمن والمخابرات ضد خصومهم»!

و اليوم وكالعادة التف حول النظام الجديد رجال كل العصور بعضهم يرى نفسهُ قادراً على المساعدة والاضافة، وآخرين يرون أنفسهم يستحقون بحكم التأييد المسبق لكل الأنظمة في كل العصور! ، وهكذا نرى حول الرئيس الساحة مزدحمة ومتكدسة على الآخر برجال الأمس ، وأول الأمس ، وأول أول الأمس! ، هؤلاء الذين يحاربون معارك الأمس بأسلحة الأمس بفكر الأمس ناسين جميعاً أن اليوم غير الأمس وأن غداً تطور جديد في عالم مختلف لم يعرفوه أو يألفوه. وأصبح ذلك كله خليطاً عصياً على المزج والفهم والبلع في آنٍ واحد!

 

  • ولعل ما يميز هؤلاء الموجودين في الساحة حول سور الرئاسة أنهم رجال لا زالوا يعيشون في أحلامهم وأوهامهم وطموحاتهم وانتصاراتهم وعدواتهم القديمة، ومن ثم فإن أفكارهم وتصوراتهم التي يقدمونها للرئاسة مستهلكة لأنها جُربت في الماضي كثيراً ، وعندما يُعاد طرحها اليوم تثير السخرية والضحك لأنها أفكار قد عفى عليها الزمن.

وأخيراً فإن تحولات السلطة وتحولات المثقف لا تتوقف، وأعيد طرح سؤال د. غالى شكري من جديد:

هل يمارس المثقفون صناعة الحلم أم شرعية الهدم؟

وأضيف عليه سؤال من عندي: هل يمارس الحكام من خلال السلطة خلق المشروع أم هواية اغتيال الحلم؟

مجدي منصور, محامي مصري وكاتب سياسي

مجدي منصور كاتب سياسي مصري له العديد من المقالات والدراسات المنشورة بكبرى المواقع ك (ساسة بوست - نون بوست - هاف بوست- عربي بوست - روافد بوست).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى