الاحدثالصورة الكبيرةقراءات معمقة

الكاتب السياسي مجدي منصور يكتب عن أهمية ترتيب الأولويات في أجندة العمل الوطني

عندما اختلف الرفاق وتباينت أراءهم وعلت أصواتهم وتوزعت مواقفهم!

إيضاح واجب

لم يكن في نيتي كتابة مقدمة لذلك المقال ولكن بعد مراجعة مع النفس وجدت أنه يجب إيضاح أمر لقارئ عزيز بعد «انقطاع» عن الكتابة دام شهور، وكان الانقطاع سببه مزيجاً من «القرف» و«الغضب» من واقع مصري وعربي «عليل و قاسى وظالم بأبنائه» بينما «طيب وحنون ودافئ مع الغريب» ، وبين مشاكل وأزمات مصر والعرب السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل والثقافية «توقفت عن الكتابة» ، وفي مثل هذه اللحظات – لحظات البحث في أعماق النفس والتفتيش عن الحقيقة قريباً وبعيداً – فإن خواطر الناس ترفع من وجدانهم كل حواجز المكان والزمان وتمنحهم ألفة دافئة مع البشر ومع الأشياء وتعطيهم شعوراً غريباً يذوب فيه الماضي والحاضر والمستقبل معاً، و«تمتزج» فيه «التجارب بالواقع»، و«الآمال بالرؤى»!

وحينما استجمعت ما تبقى في نفسي من «تفاؤل» و «شجاعة» و«أمل» محاولاً «طرد» كتل من «التشاؤم» و «الخوف» و«اليأس» من نفسى، كان طبيعياً أن أبدأ في الكتابة عن الشأن المصري والعربي أو «التطورات» الدولية والإقليمية المتسارعة وهى تبدأ عند حدود الصين «المتمددة» ولا تنتهى عند شواطئ الأطلنطي في إمبراطورية الغواية الأمريكية.

وبالفعل قررت الكتابة عن الشأن المصري العليل الحزين «المُثقل» بكل أنواع «الهموم» و«المحاصر» بكل صنوف الأزمات (سياسية ،اقتصادية ،اجتماعية، ثقافية، نفسية)  ، وبرغم أننى «كتبت محذراً» أكثر من مرة من «مهاوي الخطر» قبل أن تبدأ (ويشهد على ذلك كتاباتي في ذلك المنبر الرصين ومن قبله في ساسة بوست) ، إلا أن ما جرى قد جرى ، وقلت لنفسي ليكن فإذا كنت كتبت في السابق «بالأمل»، فسأكتب اليوم «بالألم»!

ولعل الملاحظ على امتداد العالم العربي من الخليج (الذي كان) «ثائراً» في يوم من الأيام حتى المحيط (الذي كان) «هادراً» في يوم من الأيام!

أن العالم العربي بأسره حُكاماً ومحكومين «فقدوا الهدف» و«أضاعوا البوصلة» ومن ثم «ضاع منهم المشروع» للدرجة التي يصدق معها ما صكه كاتب العرب الكبير الراحل “محمد حسنين هيكل” بوصفه للعربي بأنه «العربي التائه».

كما أن «أفعال» العرب «تاهت» منها المنطقية و «اختل» السياق و«سقط» المعنى «صريعاً» بين «النحر» و«الانتحار»، كما وصفه الشاعر المبدع الراحل “محمود درويش “حينما قال: «إنه انتحارُ المعنى في العالم العربي».

ويبقى في اعتقادي الآن أن أهم واجبات (قيادات أخر الزمان) العربية المسئولة عن الشعوب (بالرضاء أو بالغصب) هي استعادة الثقة العربية بالنفس الغائبة أحياناً والمغيبة معظم الأحيان على أساس الحساب وليس على أساس المغامرة .. بالفعل المتزن وليس بالانفعال العاطفي .. بالحركة المدروسة وليس بالكلمات المهوسة.

وبالفعل جازفت وأمسكت بالقلم وكتبت بالفعل مقالين عن الشأن المصري، وعدة مقالات أخرى عن الشأن الإقليمي والدولي ، وقررت أن أبدأ بنشرهم تباعاً ، ولكن بعد تفكير متأنى وجدت أن أول مقالاتي يجب أن يكون عن فكرة أساسية أصبحت بديهية أراها «غائبة» في أحيان عن «جهل» و«مغيبة» معظم الأحيان عن «عمد» في علم السياسة والإدارة لدينا اليوم في عالمنا العربي (ملكياته وجمهورياته) ، وهى فكرة:

«تحديد الأولويات» على جدول العمل الوطني من «الأهم وصولاً للمهم».

ويمكن تعريف أولويات العمل الوطني: بقدرة الإدارة السياسية على تحديد وترتيب المهام والأنشطة التي يجب أن تتم في البلد لتحقيق التنمية والتقدم كجزء من المحافظة على الأمن القومي. ويتطلب ذلك تحديد القضايا والتحديات الرئيسية التي يواجهها البلد، وتحليلها وتقييمها، ثم تحديد الأولويات الرئيسية التي يجب التركيز عليها في العمل الوطني. و يتم ذلك من خلال اعتبار أهمية كل قضية بناءً على احتياجات البلد والمجتمع، وقدرته على التأثير في التنمية والتقدم.

ولأنني لا أريد أن أستثير حساسية أحد (من هُنا أو هناك) أو أسبب «ضيق» ومن ثم «غضب» للبعض (في هذه الجهة أو تلك)، فقد قررت أن أسلك طريق فرعى (للتعبير عن وجهة نظري) ربما يكون «طويل» ولكنى أظنه «آمن» ، وإن كان لا يوجد شيء آمن في تلك الأوقات العصيبة التي تغلب فيها «العضلات» على «العقل» وتسود لغة «القوة» على منطق  «السياسية» !

ما بين برجماتية لينين وثورية بوخارين وحكمة تروتسكى!

في إبريل 1917 كتب السفير الفرنسي في بتر وجراد:

«في هذه المرحلة من الثورة فروسيا لا تستطيع قبول السلام ولا مواصلة الحرب».

بعد عدة أيام شنت الجيوش الألمانية هجوماً على كل الجبهة، وداست أحذية الجنود الألمان الأراضي الروسية في “مينسنك” و”فيندين” وغيرها من المدن الروسية، وأخيراً وبعد نقاشات حادة قررت اللجنة المركزية بسبعة أصوات ضد أربعة التوقيع على الصلح تحت الشروط الألمانية.

وحسب تعبير تشتشيرين:

«وضعت ألمانيا مسدساً في رأس روسيا وأجرت صُلحاً مُميتاً لروسيا»،

وبحكم هذا الصلح انفصلت عن روسيا: بولندا ولتوانيا واستونيا وكرولاندا، وجزر في بحر البلطيق.

وكان على الحزب الشيوعي الروسي أن يدافع عن هذا الصلح في المؤتمر السابع للحزب.

وفى ذلك المؤتمر هدد (لينين) بالانسحاب من الحكومة واللجنة المركزية للحزب في حال رفضها لاقتراحه بالتوقيع على الصلح.

فلاديمير إيلتش لينين

وارتجف (ستالين) فجأة وتردد ثم سأل:

«هل الانسحاب من المناصب يعنى الانسحاب الفعلي من الحزب»؟

وأجاب (لينين) ساخراً من سؤال ستالين:

«بالطبع أيها الرفيق، وهل كلامي يُفهم منه غير ذلك»!

جوزيف ستالين

وبدا ظاهراً أن كلمات لينين الافتتاحية ستُحول المؤتمر الحزبي ذو الإطار الواحد المحيط بالكل إلى «سور حلبة مصارعة» بين الرفاق «المبشرين» بنظرية «الثورة» و«المنادين» بسيطرة طبقة البروليتاريا!

ومن بعد كلمات لينين الافتتاحية تحول المشهد لمأساة إغريقية حقيقية بين «الأستاذ» و«تلاميذه» و«الزعيم» و«قواده» و«الأب» و«أبنائه»، وقد ظهر أن «الفتنة» قد وقعت بينهما، وهى على وشك أن تتحول من «فتنة» إلى «حالة حرب» بين الرفاق فيها قتال وقتل وانتحار ونحر ، إن لم يكن بالنار فعلى الأقل بالجُمل والكلمات والشعارات الثورية ، وما أحدها!.

وفى تلك اللحظة انطلقت أصوات تُعلن:

«إن شرف الحزب أهم من وجوده».

وتدخل (لوموف) فأعلن رأيه بقوة وشجاعة قائلاً:

«لا تخافوا أيها الرفاق من استقالة الرفيق لينين فالثورة أهم .. شرف الحزب أهم».

وقال (مويسي أوريتسكي):

«إنه بهذا الصلح المخزي قد «ننقذ» السلطة السوفيتية، ولكننا «سنمرمغ» أنوفها في التراب».

مويسي أوريتسكي

وعاد (ستالين) ليقول:

«يمكننا الا نوقع هذا الصلح».

ورد عليه (لينين) بقوة وعنف:

«الرفيق ستالين غير مُحق عندما يقول إنه يمكننا الا نوقع، يجب التوقيع على هذه الشروط، فإن لم توقعوه فإنكم ستوقعون على حكم «إعدام» السلطة السوفيتية … أنا لست متردد أبداً.. فهذا إنذاري النهائي، وهذا الانذار غير قابل للسحب».

ثم يُكمل (لينين) قائلاً بجملة ذات دلالة تبعث على التعجب وتحُض على الابتسام في ذات الوقت خصوصاً بأنها تُقال من نبي الثورة وفيلسوفها!، حينما قال:

«وأنا لا أريد أن أسمع جُملاً ثورية بعد الأن»!

ستالين وتروتسكي

وبلغت المأساة الإنسانية ذروتها بين الرفاق على مسرح الأحداث، عندما تحدث أحد نجوم الحزب وقتها وهو “نيكولاي بوخارين” ، وكان معروفاً أنه أحب وأقرب التلاميذ لقلب لينين ، وبمثابة إبن له ، ولكنه وفي كلمته انفعل (“التلميذ” بوخارين) بشجاعة على كلمات (“المُعلم” لينين) وتهديده فقال دون مجاملة أو مواربة وبأوضح الألفاظ:

 «يتاجر القائد بالجُمل، ويعطى مواصفات غير دقيقة، والوضع ليس كما رسمه الرفيق لينين».

ويكمل (بوخارين) بنفس الحماسة الثورية والقوة العقائدية قائلاً:

«إن الذي يعيش بالأوهام هو الرفيق لينين وليس نحن، إن ذلك المستقبل الذي يصوره لنا الرفيق لينين غير مقبول، ولكنى أعتقد أنه لدينا مخرج، وهذا المخرج الذي يرفضه الرفيق لينين ونراه ضرورياً هو الحرب الثورية ضد الامبريالية الألمانية».


بوخارين

وكان غريباً أنه على الرغم من «وحدة الفكر» السائد بين الرفاق، إلا أنه في تلك اللحظة المشحونة بالانفعالات العصبية والتقلصات النفسية اختلفت وتناقضت وتضاربت الرؤى بين قيادات الثورة البلشفية المنادية بوحدة الفكر والعقيدة ومن ثم وحدة الرؤى والتصورات! 

وفى تلك اللحظة تحدث “قديس الثورة”، ونجمها الطائر في سماء الحزب وقتها (ليون تروتسكى) قائلاً:

«لقد امتنعت عن التصويت عندما كانت اللجنة المركزية تقرر هذا الأمر لأنني لا أعتبر رأينا في هذا الخصوص مصيرياً بالنسبة للثورة .. أما بالنسبة للفرصة الأفضل للثورة فأعتقد أنها ليست في الجانب الذي اتخذه الرفيق لينين».

ليون تروتسكى

 

ويكمل قديس الثورة تروتسكى قائلاً:

«إن ذلك الطريق الذي يريدنا الرفيق لينين أن نسير فيه لديه بعض الفرص الواقعية، ولكنه طريق خطر يمكن أن يؤدى إلى انقاذ الحياة ولكن بالتخلي عن معناها ومبررها».

ولكن حماس اليساريين الثوري تحطم على صخرة (ذرائعية وبرجماتية) لينين.

فبفضل (صوت واحد) فقط في اللجنة المركزية هو صوت “زينوفيف” انتصرت «برجماتية» “لينين” على «ثورية» (لوموف وبوخارين وتروتسكي)، وكان “ستالين” (وكعادة كل من يسير في ركاب الأقوياء) ، من المصوتين في النهاية لصالح موقف “لينين”!

وهكذا وبعد مشادات عنيفة بين الرفاق تبودلت أثناءها تُهم «العقل» و «الجنون» و«الشجاعة» و«الجُبن» و«الحماقة» و«التخاذل» وحتى «الهرب من المسئولية» و«الخيانة»، انتصرت الواقعية على التصورات المثالية الرومانسية الحالمة الشهيدة.

ويمكن القول إن الخلاف بين الرفاق كان عائداً «لاختلاف ترتيب أولويات الخطر على الثورة الروسية»، وبالتالي أيهما أولى بالمواجهة.

  • فبينما رأى “لينين” (بحكمة الشيوخ) أن «الخطر الداخلي» وهو «الثورة المضادة» التي تنفث سمومها ضد «الثورة» هي الخطر الأولىَ بالمواجهة من الغزو الألماني الخارجي.

  • كان رأى الرفاق (لموف وأوريتسكي وبوخارين وتروتسكي) (بحماسة الشباب) أن «الخطر الخارجي» الداهم والمُحيق بالثورة والدولة على السواء هو «الغزو الألماني» للأراضي الروسية.

 

  • وفى حين أن “لينين” كان يرى أن «انتصار الثورة» على «الثورة المضادة» هو ما «سيؤمن الجبهة الداخلية» ومن ثم ظهر الثورة، حينما يتم مواجهة الغُزاة الألمان فيما بعد «تصفية الثورة المضادة»، ثم إنه كان يرى أن دولة منقوصة في ظل ضعف وتأكُل الجبهة الداخلية خيراً من دولة كاملة على الشجرة!

  • فإن بقية الرفاق رأوا أن التنازل أمام الألمان «سيُفقِد» الثورة وقادتها «شرعيتهم» أمام الجماهير العريضة و«سيقوى» حُجج الثورة المضادة ضدهم وضد الثورة نفسها، ثم إنهم يريدون الشجرة كاملة بدون نقصان غصُن واحد منها ، حتى ولو كان ذلك فيه تعريض الشجرة لخطر الإزالة من الجذور!

وكان ذلك مثال حي ونابض بالحياة على «الخلاف» و«الاختلاف» في «ترتيب الأولويات السياسية والنضالية» بين الرفاق الذين علت أصواتهم في مواجهة بعضهم البعض، و تبادلوا الاتهامات في كل الاتجاهات، و«تباينت» أراءهم في كل جانب ، و «توزعت» مواقفهم يميناً ويساراً بين «البرجماتية» و«الثورية» و«الحكمة» و«الجنون» في آن واحد!!

وهكذا أثبت الرفاق «باختلاف أراءهم» و«علو صخبهم» و«تضارب اتهاماتهم» لبعضهم البعض و«بمواقفهم المتناقضة» بدأً من «الاستسلام بلا شرط» وصولاً «للمقاومة حتى أخر فرد» في ذلك المشهد المثير صحة المقولة التي صاح بها (هيجل) في وجه ناقديه ومنتقديه ذات يوم، حينما خاطبهم قائلاً: «أن للحقيقة أوجه عديدة أيها الرفاق»!!

وفى النهاية لا أعرف إن كنت قد استطعت التعبير عن فكرتي بشكل واضح أم لا؟ ، ولكن عذري أننى حاولت قدر طاقتي ، واجتهدت قدر استطاعتي ، داعياً وراجياً أن يكون القارئ العزيز قد وصله ما أردت إيصاله.

وأخيراً – فإن الناظر للمشهد في المنطقة العربية حتماً سيجد أن أعجب شيء في مشاكل العرب اليوم؛ أن المنطق البسيط العادي في تلك المنطقة، تاه فيها وضاع وربما يكون خُطف ، فهناك أراضي تملؤها المشاكل من داخلها، وبلاد يسيل على ترابها الدم وتتجاوب آفاقها بأصداء طلقات الرصاص و دانات المدافع، وهناك جيوش متحفزة لجيوش، وهناك أفكار متربصة لأفكار، ومع كل هذا وذاك هناك مطامع ودسائس و سيل هائل من المؤامرات، و مع كل ذلك ، هناك حالة فشل أكبر بكثير من أن تُدارى (لا بمساحيق الاعلام، ولا بفنون الإعلان ولا حتى بعصا السلطان!) في كل المجالات وعلى كافة الأصعدة للقائمين والمتحكمين في تلك الأرض وشعوبها!

والأهم أن هذا المشهد العبثي لا أحد يعلم متى سيتوقف، أو متى تجئ لحظة الخلاص، وتُكتب كلمة النهاية فيه ويقفل الستار، «وتلك هي المعضلة» ، كما قال يوماً شكسبير!

وربما يُشبه الوضع العربي الكارثي اليوم ما قاله المبعوث الفرنسي للبنان “لودريان”، الذي أدرك عمق الأزمة حين حذر من “خطر الزوال”، ووصف الوضع اللبناني «بأنه يشبه وضع السفينة “تيتانيك” الغارقة لكن من دون موسيقى»!

مجدي منصور, محامي مصري وكاتب سياسي

مجدي منصور كاتب سياسي مصري له العديد من المقالات والدراسات المنشورة بكبرى المواقع ك (ساسة بوست - نون بوست - هاف بوست- عربي بوست - روافد بوست).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى