الاحدثالصورة الكبيرةقراءات معمقة

الكاتب السياسي مجدي منصور يفض مغاليق الأزمة السودانية (2)

السودان من الدولة الهشة للدولة الفاشلة (2) الوجه الإقليمي للصراع

حينما بدأ الصراع في السودان بدا أمام الكثيرون وكأن المستحيل انقض فجأة من قلب المجهول ، وعندما تصديت للكتابة لتوضيح الأمر كان منهجي في تناول الصراع هو أن لكل صورة أبعاد متعددة، وكان تقسيمي للموضوع أن صورة الصراع في السودان  تنقسم لثلاث أبعاد فهناك بعد داخلي للصراع، وهناك بعد إقليمي ، وهناك بعد دولي، وقد تحدثت في الجزء الماضي عن البعد الداخلي واليوم أبدأ في تقديم أولى حلقات البعد الإقليمي للصراع متحدثاً عن البعد العربي في الصراع الإقليمي.

  1. تداعيات الصراع السوداني في الإقليم

لعل أفريقيا لم تكن بحاجة لدولة توتر جديدة تضاف لقارة مثقلة بالتوترات، فكيف بثالث أضخم دولة فيها، كانت مشاكل السودان في الماضي مشاكل «أطراف»، ولكن يأتي التوتر هذه المرة من «القلب»، تلك الحقيقة تجعل جيران السودان يحسبون حسابهم لما قد يؤل له الأمر في المنطقة إذا ما استمر الصراع.

وللسودان حدود طويلة مع سبع دول لكل منها مشاغلها ومشاكلها الخاصة، خمس من تلك الدول ملتهبة أصلاً، أو حديثة عهد بالاستقرار.

فتشاد من المرجح في ظل الفوضى الأمنية التي ترتبت على الحرب في السودان أن ينقل المتمردون التشاديون قاعدتهم من ليبيا إلى دارفور في السودان، مستغلين الصراع الدائر لتشكيل تحالفات جديدة، واستغلال الأسواق غير المشروعة، وتكثيف الصراع، مما قد يؤدي إلى تعطيل جهود إحلال السلام الهش بين السودان وتشاد.

ويمكن للمتمردين كذلك تشكيل تحالفات مع قوات الدعم السريع السودانية والانضمام إلى قائدها الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أحد المتحاربين الرئيسيين في الصراع على السلطة في السودان.

ويمثل قرب دارفور من تشاد وتورطها في الأسواق غير المشروعة، بما في ذلك حقول الذهب وتهريب الأسلحة، عامل جذب للمتمردين.

من المحتمل أن يؤدي تدخل المتمردين التشاديون في السودان إلى تكثيف الصراع في دارفور ولاسيما مع وجود الجماعات المسلحة والانقسامات بينها على أسس عرقية وهو ما سيكون له عواقب إنسانية وخيمة، مما يؤدي إلى زيادة تدفقات اللاجئين مع شح الموارد في البلدان المجاورة.

وجنوب السودان حديث الاستقلال والمعبأ بالمشاكل يخاف هو الأخر من عودة 800 ألف من مواطنيها موجودون في السودان إليها، كما تخاف أن يقود الصراع في جارتها الشمالية إلى اضطراب شريانه النفطي العابر لبورتسودان.

وأما مصر فنظرتها مركبة لما يحدث في السودان وتبعاته عليها أمنية و اقتصادية، فالقاهرة تقول دائماً أن السودان هو جزء من أمنها القومي ، وما يحدث في السودان سيؤثر عليها من حيث «الأمن المائي» وسد النهضة في قلبه، وتأمين حدود طويلة بينها وبين السودان ، بالإضافة  لتوافد لاجئين جدد إليها، وهى من الأصل تستضيف أكثر من 4 ملايين سوداني في ظرف اقتصادي واجتماعي صعب.

أما أثيوبيا الخارجة من حرب داخلية ترى أنها ستتأثر بما يجرى في الخرطوم بسبب الخلاف على الحدود وطريقة إدارة ملف مياه النيل وموضوع سد النهضة على رأس ذلك الملف، ولذا تنظر أديس أبابا لكل ما يدور في السودان بكثير من الاهتمام والحذر والترقب.

أما في ليبيا، فطرابلس قلقة هي الأخرى مما يجرى في السودان، لأن الصراع في السودان سيشكل ملجأ لعصابات ومرتزقة من الممكن أن يتسللوا للبيا المتصدعة من الأساس.

وربما تكون إريتريا، هي الرابح الوحيد من الفوضى في المنطقة، إذ يمكن لأسمرة تتبع المعارضين بحرية واستخدام اللاجئين لتعزيز جيشها.

وعلى أية حال كلما زاد عدم الاستقرار في البلدان المجاورة، أصبح الرئيس الإريتري أسياس أفورقي قوة عسكرية مهيمنة في المنطقة.

هذا المحيط المتوتر يعززه الصراع الدائر في جمهورية وسط أفريقيا حيث الحرب والذهب والشركات الأمنية الخاصة وعلى رأسها فاجنرالروسية، ناهيك عن الصراع المشتعل بين أمريكا وفرنسا والصين وروسيا على موارد القارة الوفيرة.

كل هذه الحقائق تجعل الجميع (داخل أفريقيا وخارجها) ينظرون للصراع السوداني بمزيج من الخوق والقلق والترقب فموقع البلاد حساس وما يجرى في السودان حتماً سينعكس خارجه.

  1. مصر السباحة في بحور عاصفة وأجواء مضطربة

لعل ثورة يوليو1952، ومصر الناصرية هي من «غيرت الرؤية» المصرية لأفريقيا، فقد كانت تلك النظرة قبل يوليو يهمها بالأساس حفظ «الأمن القومي المائي» باعتماد «الخيار العسكري».

ولكن مصر الناصرية دخلت إلى القارة بشكل جديد، فقد طرحت وعززت فكرة البحث عن «هوية إفريقية»، وأضافت تاريخ مصر والحضارة الفرعونية إلى التاريخ والحضارة الأفريقية، فعبرت لأول مرة حاجز الصحراء الذي كان يفصل تماماً بين الشمال الأفريقي وإفريقيا جنوب الصحراء.

وغيرت النظرة المصرية لحفظ الأمن القومي المائي من اعتماد الخيار العسكري، لبناء صدقات تطورت لأحلاف غير معلنة مع «النخب» (حكام ومثقفين) تحافظ على المصالح المصرية في أفريقيا، عن طريق الانتشار بالقوة الناعمة المصرية مثل (مساعدة الدول المُستعمرة لنيل حريتها، نشر اللغة العربية، استقدام أكبر عدد من المسلمين في أفريقيا للتعلُم في الأزهر، والمساعدة بشتى المجالات لديهم عن طريق الخبراء المصريين، والتبادل التجاري) أي نشر الثقافة المصرية وتعظيم الدور المصري في افريقيا بشكل مرن.

ثم إن مصر الناصرية أعطت بعدها الأفريقي شكلها المؤسسي بإنشاء منظمة الوحدة الأفريقية، وجعلت مقرها فى أثيوبيا، مجاملة لها من أجل مياه النيل، وكان ذلك أمر شكلي في وقتها لأن مصر الناصرية ودورها كان هو المحرك الاساسي في توجهات وخيارات القارة السمراء.

ولم تترك مصر القوة الصلبة الصاعدة في أفريقيا، بل وثقت علاقاتها بعدد من الجيوش الأفريقية وكبار الضباط فيه، بعد أن رصدت مصر الناصرية محاولات إسرائيلية «للنفاذ» داخل تلك الجيوش واستقطابها لكبار الضباط في الجيوش الأفريقية.

لأنك أبو أفريقيا كُلها

ومثلاً: حدث في المؤتمر الأفريقي الذي انعقد بعد الانقلاب على الرئيس الغاني “نكروما” أن جاء قائد الانقلاب لمصافحة الزعيم “جمال عبد الناصر”، ودار الحوار التالي بينهم:

قائد الانقلاب: لماذا يا والدي تُعادينا ونحن نُحبك؟

عبد الناصر: إنني لا أعاديكم.

قائد الانقلاب: ولكنك كنت تحب نكروما يا والدي؟

عبد الناصر: هذا صحيح، إنني كنت اعتبر نكروما ابني.

قائد الانقلاب: ونحنُ أيضاً نُحبك يا والدي ونتمنى ان تعتبرنا أبنائك.

عبد الناصر: ألا تلاحظ أنك منذ بداية حديثنا تناديني يا والدي، ألا تلاحظ أنك أكبر مني عمراً؟

قائد الانقلاب: أنا أقول لك يا والدي لأننا جميعاً نعتبرك أبو أفريقيا كُلها.

ويروى السيد محمد فائق (وزير الاعلام الأسبق): أنه حدث بعد نكسة (يونيو67) أن الرئيس عبد الناصر يستعد للسفر لحضور القمه العربية في الخرطوم ، واتصل به رئيس نيجيريا مستنجداً من الاعتداءات المتكررة بالطائرات على لاجوس من قبل قوات المنشقين في بيفارا وأبلغني الرئيس النيجيري بأنه لا يستطيع الصمود سوى أيام معدودة وقد ذهب للعالم كله ليعطيه عوناً عسكريا فلم يساعده أحد، إلا الاتحاد السوفيتي الذى أعطاه عدد من الطائرات لكن بدون طيارين وقد استغاث بالرئيس عبد الناصر لمساعدته في توفير طيارين، وطلبني الرئيس عبد الناصر وقال لي:

 «لا أريد لأفريقيا ان تنتكس بنكستنا وأعطاني جميع الصلاحيات لكي أوفر لهم الطيارين المطلوبين، وقد حدث، وقد انعكس ذلك على علاقتنا بنيجيريا حيث أصبحت صديقه وتقف معنا في كل المحافل الدولية».

لكن يمكن القول إن السياسة الخارجية المصرية في أفريقيا دخلت في أزمه حقيقيه (لم تخرج منها حتى اليوم) مع انتهاء الحرب الباردة فمن ناحية أصبح المفهوم العسكري غير قابل للتطبيق، ومن ناحية ثانية أصبحت الاهداف الثورية غير ذات موضوع، وبدا أن مصر لم تستعد برؤية سياسية جديده للتعامل مع المعطيات الجديدة في البيئة الأفريقية التي تغيرت بشكل سريع من حيث موازين القوة وترتيب الاهداف والاولويات وظهر أن هناك غياب كامل لإستراتيجيه مصرية واضحة حتى فيما يتعلق بالعلاقة مع دول حوض النيل.

لمصر رابط تاريخي وحضاري قوى بالسودان فقد كانوا في يوم ما تحت تاج واحد قبل ثورة يوليو1952. و البلدان تجمعهما حدود مشتركة تقدر بـ 1,276 كيلومتراً، كما يشتركان في ممر مائي ذي أهمية عالمية وهو البحر الأحمر. فضلاً عن مياه النيل شريان حياة المصريين.

وفي عهد الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، نشأت جفوة بين البلدين بسبب قضية “مثلث حلايب وشلاتين وأبو رماد”.

وكان جمال عبد الناصر يتعامل مع السودان وما يثيره من مشاكل لمصر بتحريض من الخارج (بريطانيا وأمريكا وإسرائيل) بسياسة هادئة واثقة على قدرتها على الحسم.

ففي عام 1958 أعلنت الحكومة السودانية برئاسة عبد الله خليل، أنها قد أجرت اتصالات مع عدد من الحكومات الأفريقية على حوض النيل لكى تبلغها أنه إزاء إصرار مصر على المضي قدماً في بناء السد العالي، فإن الحكومة السودانية «قررت أن لا تعتبر نفسها ملزمة باتفاقية مياه النيل».

 وما إن كاد يعلن نبأ الاتفاق بين مصر والاتحاد السوفيتي على تمويل المرحلة الأولى من مشروع السد العالي ، حتى فوجئت القاهرة بأن حكومة الخرطوم التي كان يرأسها عبد الله خليل تعلن اسقاط اتفاقية مياه النيل ، وتضيف إلى ذلك أنها ستفذ مشروعا جديد لبناء سد على النيل في منطقة “الرصيرص”.

وكثفت القاهرة معارضتها السياسية، وكانت وجهة نظرها أن مصر والسودان كليهما معرض للخطر إذا ما أسقطت اتفاقية مياه النيل، لأنه سوف يطلق يد بريطانيا في مستعمراتها الافريقية عند منابع النيل في التصرف بمياهه على أي نحو يروقها.

وأحدثت معارضة مصر أصداء واسعة في السودان، وسارت مظاهرات عارمة في الخرطوم، واضطر عبد الله خليل تحت ضغط الرفض الشعبي إلى تقديم استقالته وتسليم السلطة للجيش السوداني بقيادة الفريق إبراهيم عبود.

وبعدها كان واضحاً أن الحكم الجديد في السودان يتفهم جيداً أنه لن يستطيع تعزيز نفسه إلا بالتفاهم مع مصر، كما أن تفاهمه مع مصر سيتيح له دعماً غير محدود ، كما أن ذلك النظام الجديد بدأ يرى بوضوح حقيقة ما يجرى عند منابع النيل سواء من بريطانيا في مستعمراتها السابقة أو ما بدأت إسرائيل تنشط إليه في جنوب السودان رغبة في فصله عن الشمال حتى يتحقق لها مطلب أن ترى منابع النيل وقد انسلخت عن الاطار العربى الكبير.

ثم تحسنت العلاقات ليتم الاتفاق على إقامة السد العالي، ثم عقد “قمة اللاءات الثلاثة” في الخرطوم، تضامناً مع مصر، التي تعرضت للنكسة في ذلك العام 1967.

وفي عهد خلفه، أنور السادات، كانت “حركة يوليو التصحيحية”، التي انطلقت في السودان في 19 يوليو/ تموز 1971، سبباً في خوف السادات من سيطرة الشيوعيين على السودان. وكان السادات يخشى تطويق نظامه عبر محور إثيوبيا واليمن والالتفاف عليه بدعم سوفيتي(في الوقت الذى سار فيه السادات تجاه أمريكا) وكان هذا الخوف هو من قاده ومصر معه لمغامرات “نادى السفاري” بالاشتراك مع ( فرنسا والمغرب وإيران والسعودية بمباركة أمريكية).

لكن بعد تولي جعفر النميري حكم السودان تحسنت العلاقات بين البلدين، وتمخض عنها عدة اتفاقات تعاونية.

وكذلك كانت هذه السياسات المتذبذبة حاضرة في عهد الرئيس المخلوع، محمد حسني مبارك، أيضًا. فقد بدأت سياسات مبارك تجاه السودان إيجابية، من خلال عقد اتفاقات تعاونية ثنائية ، لكنها مرت بمراحل توتر عدة، كان منها تلك المرحلة التي تلت محاولة اغتيال مبارك في إثيوبيا عام 1995. لكن عادت الأمور لتتحسن مرة أخرى بحلول عام 2004.

وفى عهد السيسي وبخلاف الملفات التقليدية (حلايب وشلاتين، والإقامة والهجرة)، برز ملفان مُلحان على القاهرة شكّلا أساساً لعلاقاتها مع الخرطوم.

الملف الأول: هو الضغط لعدم جعل السودان منصة تتجمع فيها المعارضة المصرية، وخصوصاً الفصائل الإسلامية منها، كي لا تشكل إزعاجاً للنظام.

أما الملف الثاني: فهو ملف سد النهضة الأثيوبي الذي بات أكثر إلحاحاً بمرور الوقت بسبب تقدم أديس أبابا في خطواتها الأحادية لإنجاز تشييد وملء السد، دون التوصل إلى اتفاق ملزم مع الجانبين، المصري والسوداني.

ومع تبني الرئيس السوداني، عمر البشير، سياسة الانفتاح على نظام السيسي، ونفي المسؤولين السودانيين المتكرر لأية علاقة تربطهم بفصائل المعارضة المصرية، أو استقبالها على أراضيها.

تفاعل السيسي إيجابياً في المقابل، وتمثل ذلك في عدة زيارات بين الطرفين، ولقاءات سياسية واستخبارية، حتى أنه في أثناء التظاهرات التي خرجت ضد البشير في 2019، زار البشير مصر.

كما أوردت تقارير إعلامية حينها أن نظام السيسي دعم البشير بلجنة استخبارية لدعمه في اتخاذ قرارات إعلامية وأمنية مناسبة خلال التظاهرات المطالبة برحيله.

3 – مرحلة ما بعد البشير.. القاهرة حائرة

وعندما بدأ السودانيون ترتيب أوراق المرحلة الانتقالية في 2019(بعد الثورة على البشير)، ظهرت أشكال مختلفة للتدخل الدولي.

فمن جانب، عملت إثيوبيا على احتواء النخبة الجديدة المنضوية تحت تحالف «إعلان الحرية والتغيير» حتى ظهر رئيس الوزراء، آبي أحمد، بقوة في توقيع الوثائق الانتقالية في أغسطس 2019.

وإزاء هذه التطورات، عملت مصر على تأمين مصالحها وملء الفراغ الناتج عن سقوط البشير. وللحق لم تكن السياسة المصرية تدخلية بقدر ما سعت للانفتاح على كل الأطراف، حيث رغبت في التواصل مع كل الأحزاب ومكونات الجيش، لكن مع تأزم الوضع الداخلي في السودان، اتجهت مصر لتقديم تصور للحل السياسي عبر مبادرة ورشة القاهرة التي خلصت لحلول لا تستبعد أيا من الأطراف السودانية.

ومع دخول الخلاف حول سد النهضة في المشهد، تسارعت معدلات التنافس بين إثيوبيا ومصر حول توجهات الحكم الجديد في السودان.

4- صراع الإخوة كارامازوف في الخرطوم!

لماذا تتباين مصالح السعودية والإمارات ومصر بالسودان؟

لعل الصراع العربي في الخرطوم اليوم يُشبه لحد كبير رائعة دوستويفسكي “الأخوة كارامازوف”، فرواية دوستويفسكي نابضة بالعقد النفسية ، وكذلك الإخوة العرب الأعداء في الخرطوم اليوم!

ولعل الناظر في معظم صراعات المنطقة منذ بداية تراجع الربيع العربي في عام 2013، سيجد أن هناك محوران أساسيان في المنطقة..

المحور التركي القطري المؤيد للتغيير وللإخوان المسلمين.

ومحور الدول العربية الثلاث (مصر والسعودية والإمارات) التي كانت ترى أن مشروع الإسلام السياسي خطراً عليها.

وفي الدول التي يوجد بها شيعة كان المحور الإيراني يظهر كطرف مستغلاً خلافات الطرفين السابقين (السنيين) لتحقيق المكاسب.

ولكن في السودان، بعد سقوط حكم البشير الذي كان يدعي أنه إسلامي، بدا أن محور الدول العربية الثلاث مصر والسعودية والإمارات منتصر، ومؤِيد بالكامل للعسكريين الذين أزاحوا البشير ويحاولون التملص من اتفاقات تسليم السلطة للقوى المدنية.

ولكن جاء اندلاع الصراع بين الجيش والدعم السريع ليعيد صياغة المحاور، حيث تبدو مصر أقرب للجيش والإمارات أقرب لقوات الدعم السريع، بينما السعودية موقفها أكثر غموضاً، وإن كان يبدو أقرب للحياد.

ولعل موقف الامارات ينطبق عليه ذلك المقطع من رواية الإخوة كارامازوف:

«لقد كان فولتير يؤمن بالله، ولكن يبدو أنّ إيمانه كان ضعيفًا، وكان كذلك لا يحب الإنسانيّة كثيراً»!!.

فالإمارات ترى في حميدتي حليفاً ثميناً لأن دوره يمتد لدول الجوار حيث يحتاج الجميع لمرتزقته.

كما يحتل السودان مكانة حيوية في حسابات الإمارات الإقليمية، لأسباب اقتصادية وعسكرية.

ففي ديسمبر2022، وقعت شركة إماراتية صفقة بقيمة 6 مليارات دولار لتطوير ميناء ومنطقة اقتصادية على ساحل البحر الأحمر في السودان، وهي خطوة لا تنفصل عن رؤية الإمارات الواسعة لخلق تواجد استراتيجي، اقتصادي وعسكري، ممتد من الخليج العربي مروراً بجزر اليمن الاستراتيجية والقرن الإفريقي وحتى السودان وموانئ مصرية على البحر الأحمر.

وكان الدعم الإماراتي لحميدتي قبل الحرب معروف ومثبت، حيث تقوم العلاقة بشكل أساسي على استيراد الإمارات للذهب السوداني الذي يسيطر عليه حميدتي بنسبة كبيرة، وهناك تقارير عن أن السودان يصدر ذهباً للإمارات بقيمة 16 مليار دولار سنوياً، كما أن دور حميدتي لتوريد الجنود السودانيين للإمارات في اليمن وليبيا معروف، ويقر به هو شخصياً.

يمثل حميدتي جزءاً من شبكة غير رسمية إماراتية، فبينما السعودية كان تقليدياً حلفاؤها في المنطقة من الإسلاميين السلفيين وقطر وتركيا حلفاؤهما، من الإسلاميين الحركيين (الإخوان)، ومصر ينظر لها كداعم دائم للمؤسسات العسكرية في المنطقة، فإن الإمارات التي لا تمتلك أبعاداً أيديولوجية ومؤسساتية مماثلة، لجأت للتحالف مع أطراف محلية بأفكار أيديولوجية أقل شيوعاً وأحياناً ينظر لها بريبة في الثقافة العربية، مثل الانفصاليين في اليمن وحفتر وأحياناً الأكراد بنزعتهم الانفصالية في شمال سوريا والعراق.

ولكن حميدتي يمثل نقطة مهمة في تحالفات الإمارات، لأنه لا يوفر لها نفوذاً عسكرياً وسياسياً فقط بل أيضاً مكاسب مالية عبر تجارة الذهب، كما أن تأثير حميدتي يتعدى السودان بمسافة كبيرة واصلاً عبر دوره في توريد المرتزقة وشركات الأمن وتجارة الذهب لدائرة تشمل تشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان وليبيا واليمن في بعض الأوقات.

5- المفارقة الكبرى في علاقة الجنرال تاجر الجمال بالحكام رُعاة الإبل!

غير أن المفارقة أن كل ما سبق يعطي حميدتي ميزة نسبية؛ لأن معظم الميليشيات نقطة ضعفها الرئيسية هي «التمويل» الذي يمثل أداة ضغط الداعمين الرئيسية عليها، ولكن حميدتي لديه تمويل ذاتي عبر تجارة الذهب والتهريب في السودان، ورغم أن الإمارات بوابة مهمة لذهب حميدتي ولكنه يستطيع إيجاد بديل لها مثل شركة فاغنر الروسية أو غيرها من السبل، فالذهب سلعة لا تبور.

وتعددت التقارير عن دعم الإمارات لحميدتي بعد اندلاع الصراع، حيث قال موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، إن «الإماراتيين يمولون حميدتي، ويزودونه بالأسلحة الثقيلة».

وسبق أن قالت مصادر غربية أن: «الإمارات ساندت الدعم السريع بطائرة إمدادات أرسلتها للحدود بين تشاد والسودان».

لكن يظل الحماس والعلنية التي تدعم الإمارات بها حميدتي أقل وضوحاً حتى الآن، من التدخل الإماراتي في أزمات مثل ليبيا واليمن، وحتى أقل وضوحاً من دعمها المثير للاستغراب لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في حربه ضد متمردي التيغراي عبر قصفهم بالطائرات المسيرة.

ففي أزمة السودان الحالية لا يوجد المحفز التقليدي الأقوى للتدخل الإماراتي القوي وهو وجود الإسلاميين، فدورهم الحالي في الأزمة محدود، رغم ادعاءات حميدتي بأن البرهان متطرف ومتحالف مع الإسلاميين التي لا تؤخذ إقليمياً ولا دولياً ولا داخلياً باستثناء اليسار السوداني.

ولكن هناك دافع أساسي للإمارات للتدخل هو الحفاظ على نفوذها في المنطقة والسودان، والإبقاء على استثمارها الثمين في العلاقة مع حميدتي، الذي يظل كما سبق الإشارة قادراً على الاعتماد على الذات نسبياً وإيجاد بديل لأبوظبي إذا هجرته.

 

6- الدور الإماراتي يغضب القاهرة ، والقاهرة لا تمتلك رداً عليه!

في المقابل، فإن الدعم الإماراتي لحميدتي يغضب بالتأكيد القاهرة الداعمة للجيش السوداني، حيث سبق أن نقل عن مسؤولين مصريين، ما معناه:

«أن دول الخليج تتعامل مع السودان كأنه لعبة سياسية، بينما هو أمن قومي مصيري لمصر.

ولكن القاهرة هي التي تحتاج إلى أبو ظبي، خاصة في ظل أزمتها الاقتصادية، وبالتالي فإن مصر لا تمتلك أدوات ضغط تذكر على الإمارات لتغيير سياستها في السودان، ولا تمتلك ترف معارضتها علناً على الأقل، وهي تعتمد على حسن نوايا أبو ظبي في هذا الملف، وهو ما ظهر في الوساطة الإماراتية لإطلاق الجنود المصريين الذين أسرتهم قوات حميدتي في بداية الصراع. 

ومع تفاقم حدة الأزمة بين حميدتي وبين البرهان في فبراير الماضي زار قائد الدعم السريع الإمارات لمدة أسبوع لبحث تطورات الوضع ومالاته، وقبل بدء الاقتتال بيومين زار رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد القاهرة للقاء نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، وهو ما قد يشير إلى محاولة الإمارات الضغط على الجيش السوداني عبر حليفه المصري للتفاهم مع حميدتي والتخلي عن إجراءات تهميشه.

ولذلك أنا متفاجئ من مفاجأة القاهرة لما حدث وما تسببت عنه تلك المفاجأة فيما حدث للجنود المصريين الذين تواجدوا في السودان في بداية الاشتباكات.

كما عمل الإعلام المحسوب على الإمارات على إعادة تأهيل صورة حميدتي باعتباره الداعم لعملية التحول للحكم المدني في مواجهة تمسك البرهان ببقاء نفوذ الجيش وتحالفه مع فلول نظام البشير من الإسلاميين.

وعلى الرغم من هذه الروابط بين الإمارات وحميدتي، فإن أفضل وصف لموقف أبو ظبي في النزاع هو ما قاله الباحث إريك ريفز بمعهد “ريفت فالي” :

“البراغماتية التي تصل إلى مستوى اللامبالاة، لأنه إذا استمرت الحرب، فهذا ليس بالضرورة أمراً سيئاً من وجهة نظر روسية أو إماراتية. وذلك لأن الوضع الحالي يتيح لدولة الإمارات الاحتفاظ بنفوذها، وهو ما قد لا يكون متاحاً في ظل وجود سلطة ذات هيكلية واضحة وجيش لا منازع له”.

 

 7- الموقف السعودي من الأزمة السودانية .. المتوحش البرجماتى!

لعل الرياض ينطبق عليها «عكس» تلك الفقرة من رواية الإخوة كارامازوف:

“لا حرية ٌ صادقةٌ حيث تُشترى الطاعةُ بالخبز، فليس بالخبز وحدة يحيا الانسان ….من يمتلك حرية الاختيار ..مستلهماً حُكمَ قلبه ..سيدفعُ به لأن يُميّز بين الخير و الشر ..بين الحقيقة و الزيّف .. ويرى أنه من الأفضل أن نهب َ الله محبتنا أحراراً من أن ننصاع له عبيداً “

وسياسة الرياض العمل بكل الوسائل والسُبل من أجل أن يظل الجميع عبيداً عندها لا يقولون إلا ما يرضيها، ولا يفعلون إلا ما تأمر هي به ولا يتحركون إلا بمشيئتها.

يمثل السودان تقليدياً في الاستراتيجية السعودية موقعاً مهماً على البحر الأحمر، لذا تفرض ضرورات المملكة الجيوسياسية عدم وجود سلطة معادية فيه. لذلك؛ كانت السعودية من أبرز الداعمين الاقتصاديين للسودان منذ سبعينيات القرن الماضي.

وبينما يكاد يكون موقف مصر والإمارات معروفاً، فهما متهمتان بالانحياز لطرف بعينه تبدو السعودية أقرب للحياد، وهي من ناحية أخرى لها تأثير كبير في الشأن السوداني عبر المساعدات الاقتصادية والتجارة الواسعة مع الخرطوم والجالية السودانية في المملكة، وروابط محتملة مع بعض القوى السلفية والدينية التقليدية بالبلاد.

والرياض لها صلة وثيقة برئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان الذي كان مسؤولاً عن القوات السودانية باليمن التي حاربت لصالح الرياض، وكذلك لديها علاقة بحميدتي الذي قام بتوريد جنود من قوات الدعم السريع، والمقاتلين غير النظاميين لليمن، وقيل إن المملكة قدمت أسلحة للدعم السريع مشتراة من صربيا لتحارب في اليمن، رغم أنه على الأرجح علاقتها مع حميدتي ليست وثيقة مثل علاقة الإمارات به.

ولذا لم يكن غريباً أن تتحول الرياض إلى قائدة المبادرة للوساطة في أزمة السودان، مدعومة أمريكياً، حيث كانت توصف أحياناً بالمبادرة السعودية الأمريكية، علماً بأن الحديث جرى في البداية عن مبادرة مصرية ثم مصرية سعودية ثم سعودية أو سعودية أمريكية.

ويبدو هذا طبيعياً بالنظر إلى أن مصر ينظر لها بريبة من قبل القوى المدنية ومتهمة من الدعم السريع بأنها تدعم الجيش، والإمارات متهمة في المقابل، بدعم الدعم رغم أن الجيش السوداني يقول ذلك تلميحاً لا تصريحاً.

8 – المأزق المصري في الأزمة السودانية.. تراجع وانحسار

يمكن القول إن مصر ينطبق عليها تلك الفقرة من رواية الإخوة كارامازوف:

” إن من يكذب على نفسه، ويرضى أن تنطلي عليه أكاذيبه، يصل من ذلك إلى أن يصبح عاجزاً عن رؤية الحقيقة في أيّ موضع ، فلا يعود يراها لا في نفسه ولا فيما حوله ، وهو ينتهي أخيراً ، لهذا السبب ، إلى فقد احترامه لنفسه واحترامه لغيره“.

فمصر تجد نفسها اليوم محاصرة من كل اتجاه، ودورها أصبح متراجع في كل ناحية، وهى تنظر لماضيها المشرق وتتحسر على حاضرها التعِس، وتحاول أن تدارى عجزها تارة بتصريحات العقل والحكمة ، وتارة بتصريحات التهديد والوعيد وهى أول من تدرك صعوبة تنفيذ تلك التهديدات في تلك الأجواء الإقليمية المكفهرة.

من الناحية الرسمية الشكلية تتبنى مصر خطاباً حذراً أقرب للحياد في السودان، عكس مواقفها الدائمة من دعم المؤسسات العسكرية ومؤسسة الرئاسة في أي أزمات إقليمية.

وقبل اندلاع الصراع، دعمت القاهرة العسكريين في السودان بشكل أثار انتقادات القوى المدنية، واستضافت المجموعة المدنية الرافضة للاتفاق الإطاري لعرقلة تنفيذه بالتوازي مع تعميق العلاقة المستمر مع قيادة الجيش.

وتزعم تقارير أن القاهرة قدمت دعماً عسكرياً جوياً للجيش السوداني في بداية المعركة الحالية، حيث سبق أن نقلت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية عن مصدر عسكري سوداني أن القاهرة نفذت غارة ضد قوات حميدتي، (ليس واضحاً بعد أم قبل اندلاع القتال مباشرة)، وأنها أرسلت طائرات حربية وطيارين لدعم الجيش السوداني.

كما أن حميدتي سبق أن قال في تصريح تليفزيوني إن قواته تعرضت لخسائر بشرية كبيرة بسبب غارة نفذتها مصر، ثم استدرك تصريحه وكأنه زلة لسان قائلاً: “نفذتها قوى أجنبية”، فيما لا تلجأ وسائل إعلامه وبعض مسؤوليه لهذه المواربة بل تتهم مصر علناً بالتدخل العسكري خاصة في بداية الأزمة.

وعندما اقتحمت قوات الدعم السريع مطار مروي بشمال السودان، حيث كان يوجد الجنود المصريون وطائرات ميغ 29 المصرية، قام أفراد الدعم بالتقاط صور وفيديوهات لها، معتبرين أنها دليل على الاحتلال المصري، حسب وصفهم.

ولكن الدور المصري وحده ليس حاسماً ولا وحيداً في التأثير على مواقف الجيش السوداني في ظل قدرة أطراف أخرى على الضغط على الجيش اقتصادياً مثل السعودية والإمارات، أو سياسياً مثل الولايات المتحدة، التي ربما لا تنوي ممارسة ضغوط فورية على البرهان؛ باعتبار أن إضعاف حميدتي المقرب من روسيا يمثل مصلحة أمريكية.

وليس من المستبعد أن تلجأ القاهرة إلى تقديم دعم أوضح للجيش السوداني إذا رأت أن السلطة المركزية في السودان ستتعرض للهزيمة والانهيار، بما يمثل تهديداً لمصالح مصر.

فاستمرار القتال يضعف من موقف القاهرة – المتراجع أصلاً- في أزمة سد النهضة، وسيكون من المتعذر على مصر بناء توافق مع السودان في مواجهة إثيوبيا إذا تدهورت الأوضاع في السودان إلى فصائل متحاربة بدلاً من حكومة مركزية يسيطر على قرارها قادة الجيش.

كما أن هناك مؤشرات على أن إثيوبيا أقرب لحميدتي، خاصة في ظل موقف الجيش السوداني الصارم بشأن منطقة الفشقة السودانية التي انتزعها قبل فترة من الإثيوبيين بدعم مصري واضح، وهو الأمر الذي يجعل صعود حميدتي للسلطة معناه اقتراب الخرطوم من أديس أبابا، خاصة أن قائد قوات الدعم السريع يغازل القوى المدنية التي تنظر بشكل إيجابي لآبي أحمد وسلبي للنظام في مصر.

بالإضافة إلى ذلك؛ فإن تدفق اللاجئين عبر الحدود المصرية السودانية ينذر بمزيد من التداعيات الاقتصادية في وقت تعاني فيه القاهرة بالفعل. كما من المرجح تنامي أنشطة التهريب عبر الحدود كلما تدهورت الأوضاع وطال أمد الأزمة في السودان؛ مما سيكون له انعكاسات أمنية سلبية على مصر.

9- الدور الخليجي الذى همش القاهرة وأظهر عوراته!

لعل الدور السعودي والإماراتي منذ سقوط نظام البشير همّش الدور المصري في السودان وقيّد فاعليته بصورة لافتة، حسب تقرير مركز أسباب.

فباتت الرياض وأبو ظبي تتقاسمان النفوذ في السودان على حساب النفوذ المصري التاريخي. فبينما قامت المقاربة المصرية على الاستثمار في الجيش كمؤسسة مركزية تقليدية، راهنت السعودية والإمارات على إضعاف دور الجيش السياسي لإبعاد شبح الإسلاميين.

تجلى هذا في الاتفاق الإطاري الذي لم يكن محل ترحيب مصري، ثم بات أكثر وضوحاً في تحالف القوى السياسية الموالية للإمارات مع “حميدتي” تحت شعار مواجهة الإسلاميين في الجيش.

كل ذلك مؤشرات مهمة على حدود دور مصر التي رغم تعزيز تحالفها مع البرهان، كانت قدرتها على توفير الدعم اللازم للبرهان، دائماً محدودة في ظل قصور الموارد المصرية اقتصادياً وتراجع نفوذها في المنطقة سياسياً، بجانب حساسية مسألة التدخل العسكري المباشر وعدم جدواها المحتملة في ضوء الطابع الميليشياتي للدعم السريع، كما أن تقديم أسلحة وذخائر سراً للجيش السوداني وهو الخيار الأرجح للقاهرة، يظل له حدوده في الفاعلية وقد يكون معرضاً للكشف مما يعزز الخطاب المناهض لمصر في السودان.

رغم هذه الخلافات الدول الثلاث يمكنها التوافق على حل

ولكن اللافت أن الدول الثلاث، السعودية ومصر والإمارات، بصفة عامة تحرص على إدارة تبايناتها الإقليمية، بما يضمن عدم تضرر علاقاتها الاستراتيجية.

لكنّ تزايد وتعدد أوجه هذه التباينات مؤخراً، يجعل علاقات هذه الدول أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. حيث تتفهم الأطراف الإقليمية والدولية أهمية السودان بالنسبة لمصر، لكنّ النفوذ السعودي والإماراتي بات أمراً واقعاً لا يمكن تجاوزه.

وبينما يمكن للقاهرة التدخل في الصراع لترجيح كفة الجيش، فإن نفوذ كل من السعودية والإمارات سيظل ضرورياً للتوصل لتسوية في نهاية المطاف، خاصة أن المؤشرات حتى الآن ترجح أن الأطراف الثلاثة تميل لاحتواء الصراع ووقف المعارك، حتى وإن ظلت هناك تباينات بينها حول طبيعة الحل السياسي الذي تفضله كل منها.

يجب ملاحظة أن التباينات بين الدول الثلاث ليست جذرية ولا أيدولوجية، كما أنه ما زال هناك حد أدنى من التنسيق والتفاهم بين الدول العربية الثلاث رغم تراجع درجته في العامين الأخيرين (كما بدا في التوتر المصري السعودي بشأن شروط حزمة الإنقاذ المالية وتدفق الاستثمارات للقاهرة).

كيف ترى الأطراف الثلاثة محددات التسوية؟

بالنظر لحاجة القاهرة للإمارات والسعودية في ملفي السودان والاقتصاد على السواء، وبالنظر للعلاقة بين الدول الثلاث وبين أطراف النزاع، فإن هذا يتيح بدعم أمريكي فرصة لفتح أفق تسوية سياسية، عبر المبادرة السعودية بشأن السودان.

ولكنها تسوية لن تكون أقرب لرغبات القاهرة في انفراد الجيش السوداني بالسلطة، وتأكيدها على شرعية المؤسسة العسكرية، بل على الأغلب ستفضي إلى اتفاق لتقاسم السلطة والنفوذ يرسخ ويشرعن ازدواجية توزيع القوة العسكرية في البلاد، حالياً، مع إعطاء نصيب محدود للقوى المدنية المتشرذمة والمتنازعة على الشرعية.

فنظرة مصر للوضع السوداني تأتي من منطلق مصلحتها الذاتية ونظرتها لنفسها، فطبيعة الدولة المصرية المركزية تنفر من الميليشيات والأحزاب، وتفتت السلطة أو تعدد مراكزها.

بينما خبرة دول الخليج السياسية خاصة في الأزمات الإقليمية تعاملت مع هذا النموذج مثلما هو الأمر في اليمن ولبنان والعراق، بل إن دول الخليج ذاتها رغم وحدة أنظمتها الداخلية فإنها تعرف ظاهرة تعدد الأجنحة في السلطة وتعدد مراكزها تحت مظلة قيادة أبوية حازمة تترأس الجميع.

قد يؤدي ذلك إلى الوصول عبر المبادرة السعودية بشأن السودان، إلى نموذج أقرب للنموذج اللبناني، حيث تمت شرعنة حزب الله رسمياً كقوة رسمية موازية للجيش (وأعلى منه فعلياً) مع دور رئيسي إن لم يكن مهيمن للحزب سياسياً عبر تحالفاته الواسعة المحمية بقوة سلاحه.

وهو ما يمكن أن يتكرر في السودان، حيث يمكن أن يصبح حميدتي قوة سياسية شرعية تدخل الانتخابات في ظل شعبيته في الغرب السوداني وإمكانياته المالية وتحالفه المحتمل مع القوى المدنية وتحديداً ائتلاف الحرية والتغيير- المجلس المركزي الذي يصور بعض أعضائه حميدتي كمقاتل من خارج النظام جاء من الغرب السوداني المهمش ليتخلص من هيمنة النخب المنحدرة من الوسط السوداني.

كل ذلك مع احتفاظ الرجل بقوته العسكرية بهيكل منفصل وغير خاضع للقيادة العسكرية للجيش.

الخيارات المتاحة أمام صانع القرار المصري.. محدودية الاختيار

الخيار الأول: دعم القوات المسلحة السودانية عسكريا

يمكن القول إن موقف النظام المصري تجاه القوات المسلحة السودانية معقد، فمن ناحية لديها حذر من الميول الإسلامية لقيادة القوات المسلحة السودانية.

لكن من ناحية أخرى، نظرا لمشاكل القوات المسلحة السودانية الخاصة مع إثيوبيا، ترى حكومة السيسي أنها حليف سياسي حاسم في نزاعها حول سد النهضة الإثيوبي الكبير في نهر النيل، والذي يهدد بتعطيل المصالح المائية الاستراتيجية لمصر والقطاع الزراعي الحساس.

وعلى الرغم من أن مصر تدعم سياسيا القوات المسلحة السودانية كممثل معترف به للدولة السودانية، إلا أن دعمها العسكري الرسمي لها اقتصر حتى الآن على تدريب القوات فقط.

ومع ذلك، حتى لو أرادت حكومة السيسي أن تبذل قصارى جهدها لدعم القوات المسلحة السودانية، فإنها لا تستطيع تنفيذ ذلك على أرض الواقع.

علاوة على ذلك، فإن الجيوش المنظمة عادةً تتمتع بسجل ضعيف في مواجهة الميليشيات القبلية التي تقاتل على أرضها.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الدعم العسكري للقوات المسلحة السودانية من شأنه أن يضع مصر في صراع مباشر مع قوات الدعم السريع – الميليشيا المفضلة لدى الإمارات العربية المتحدة.

وبدون الاستثمارات الموعودة من السعودية وقطر، فإن الإمارات هي الداعم المالي الأخير لمصر في الخليج. وعلى الرغم من علاقتهما المشحونة، تحتاج حكومة السيسي إلى دعم الإمارات من أجل البقاء على المستوى المالي.

الخيار الثاني: دعم قوات الدعم السريع عسكريا

من الناحية النظرية، سيكون التحالف بين حكومة السيسي وقوات الدعم السريع كابوساً للقوات المسلحة السودانية، التي ستجد نفسها فجأة محصورة بين الهجمات العسكرية من الشمال والجنوب على حد سواء.

لكن من الناحية العملية، لن يكون لمثل هذا التحالف جانب إيجابي كبير بالنسبة لمصر، التي تعلمت في ليبيا أنها لا تستطيع التنافس على النفوذ مع الإمارات على المليشيا التي يدعمها كلاهما.

ولكن بشكل حاسم، فإن نهاية وهزيمة القوات العسكرية السودانية ستشير إلى انهيار الدولة السودانية النهائي، ولن يكون هناك أحد قادرًا على إعادة بنائها في المدى القريب إلى المتوسط، وسيتحمل القوات الدعم السريع هذه المهمة الضخمة والتي لا تتوافر لديها الكفاءة اللازمة لذلك.

سيؤدي هذا الانهيار إلى انهيار كامل في جميع مستويات الأمن السوداني، بما في ذلك انهيار الاقتصاد السوداني بشكل فوري وهو ما سينعكس على مصر بالسلب في الناحية المنية والاقتصادية نتيجة تدفق مزيد من اللاجئين على مصر المنهكة اقتصاديا.

الخيار الثالث: الامتناع عن القيام بأي إجراء

نظرا لتعقيد الأزمة السودانية وغموض خياراتها بالنسبة لمصر، اختارت حكومة السيسي حتى الآن استراتيجية الانتظار والترقب. وعلى الرغم من أنه يبدو نهجا حكيما في الوقت الحالي، إلا أن حكمته على المدى الطويل تعتمد كليا على متغيرين مجهولين وهما مدة الصراع ومن الفائز في النهاية.

وترى مصر أن انتصار الجيش هو الخيار الأفضل في الحرب السودانية، ولكن شريطة أن يحدث ذلك بسرعة (وليس بدء صراع جديد)، لأن كل يوم إضافي من القتال يضيف ضغطا على مصر من حيث تدفق اللاجئين والاستقرار الاقتصادي.

من ناحية أخرى، فإن انتصار قوات الدعم السريع غير مقبول لمصر لعدة أسباب. وستجد مصر نفسها محاطة بميليشيات متحالفة مع الإمارات على حدودها الشرقية والغربية والجنوبية.

إذا سيطرت قوات الدعم السريع المدعومة من الإمارات على السودان، فإن مصالح أمن مياه النيل في مصر ستقع أكثر تحت تأثير الإمارات، التي لديها بالفعل استثمارات زراعية في إثيوبيا ورفضت مرارا وتكرارا الوقوف إلى جانب مصر بشأن مخاوفها.

علاوة على ذلك، إذا قاد القتال بين الجيش السوداني والدعم إلى طريق مسدود واستمر الصراع، فإنه سيزيد من تفاقم المشاكل الإنسانية والاقتصادية التي تعاني منها حكومة السيسي بالفعل.

الخيار الرابع: دعم وقف إطلاق النار بين الطرفين (لا منتصر ولا مهزوم)

وفق هذا السيناريو، بدلا من استعادة الحكم المدني الديمقراطي، ستنضم حكومة السيسي إلى الأصوات التي تدفع لإنهاء الصراع العسكري من خلال الدعوة إلى مفاوضات السلام بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع ودعمها، كما هو الحال مع مبادرة وقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة والسعودية.

ولكن بالنظر إلى انعدام الثقة بين الجيش السوداني والدعم السريع، فإن التعايش وتقاسم السلطة في نفس الحكومة سيكون أمرا صعبا.

ومن المحتمل أن يؤدي أي اتفاق لوقف إطلاق النار إلى سودان أكثر انقساما واستبدادية، حيث تسيطر قوات الدعم السريع على الغرب الغني بالذهب وقواعد القوة الأخرى، بينما تسيطر القوات المسلحة السودانية على الخرطوم والمناطق المتبقية.

وحتى لو أعطت مصر الأولوية لهذا النهج، فمن غير المرجح أن ينجح حيث تفشل السعودية والولايات المتحدة.

لا يمكن لقوات الدعم السريع أن تثق بمصر كوسيط نزيه نظرا لدعمها السياسي لمنافستها، ولن يكون لدى القوات المسلحة السودانية – مع العلم أن مصر بحاجة إليها – الدافع للرد على أي ضغوط من الوسطاء المصريين.

وحتى لو نجحت جهود الوساطة بطريقة أو بأخرى في إنهاء الصراع، فإن مجرد وقف إطلاق النار لن يفعل شيئا لمعالجة أزمة اللاجئين التي تلوح في الأفق.

الخيار الخامس: الانحياز ودعم للمدنيين

وفقا لهذا الخيار سيتعين على مصر أن تصبح بطلا غير متوقعا للأحزاب والديمقراطية في السودان، والمطالبة بحضورها في جميع المفاوضات المستقبلية.

ومن شأن زواج المصلحة السياسية هذا أن يسمح لمصر بتجنب الانحياز الصريح مع خلق مساحة أكبر للمناورة السياسية في كل من المحادثات والسياق الجيوسياسي الأوسع.

بالنسبة للأحزاب الديمقراطية السودانية، فإن التحالف مع مصر ليس مثاليا، لكنه التحالف الوحيد الذي من المرجح أن تقدمه لهم أي قوة إقليمية، والتي هم في أمس الحاجة إلى دعمها.

وبينما تمتلك مصر نفوذا ضئيلا على المقاتلين، لكن يمكنها استخدام ثقلها الجيوسياسي ونفوذها الإعلامي الإقليمي القوي لتوليد نفوذ للشعب السوداني على الساحة الدولية.

خصوصاً أن قضية إشراك المدنيين بالسلطة في تلك الحالة ليست أخلاقية فحسب، بل هي ضرورية لأي قدر من الاستقرار في مستقبل السودان.

فالسودان هو موطن للعديد من القبائل والميليشيات المحلية التي ليست مسلحة فحسب، بل مدربة على القتال، ولن تقبل تلك القبائل بديكتاتورية عسكرية أخرى تحكمها من الخرطوم، سواء كانت تديرها القوات المسلحة السودانية أو قوات الدعم السريع، ولن تقبل بأي اتفاق يقسم بلادها بين الإثنين.

ويحتاج السودان إلى موافقة عامة على أي اتفاق، وهو ما لا يملكه أي من الطرفين حاليا ولا يمكنه ضمانه في المستقبل دون إشراك المكون المدني.

على الرغم من أن الأمر قد يبدو مبتذلا، إلا أنه السبيل الوحيد للمضي قدما للشعب السوداني ليكون له مستقبل، لكن ذلك سيتطلب بعض التنازلات الصعبة وغير المريحة.

وفى النهاية رغم لقاءات وحديث الإخوة كارامازوف (مصر والسعودية والامارات) في مؤتمر القمة العربى الماضي بالرياض، ورغم القبلات العذبة والأحضان الدافئة والكلمات الرقيقة فقد كانوا جميعاً منقسمين في الظاهر والباطن، ومتضاربين في النوايا وكلها غامضة، ومنهمكين في المظاهر وكلها خداعة، والأزمة تأخذ بخناق الجميع اقتصادية وعسكرية وسياسية وفكرية وحتى إنسانية.

وأخيراً وليس أخراً فإننى أذكر الجميع بأن «الله أعلم».


لمن فاتته قراءة الجزء الأول:

الكاتب السياسي مجدي منصور يفض مغاليق الأزمة السودانية

مجدي منصور, محامي مصري وكاتب سياسي

مجدي منصور كاتب سياسي مصري له العديد من المقالات والدراسات المنشورة بكبرى المواقع ك (ساسة بوست - نون بوست - هاف بوست- عربي بوست - روافد بوست).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى