الاخلاق والسياسة: المجال اللبناني في دائرة السؤال| د. حاتم علامي
للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
ليس الحديث في السياسة والأخلاق بالموضوع الجديد ؛ فقد شغلت الثنائية اهتمام الفكر عبر العصور من قبيل الاهتمام بمعادلة قرينة للخلق ومتزاوجة مع إدارة شؤونه في بذور الجمعية البشرية .
تشكل الفلسفة اليونانية مفتاحا لدخول عالم السياسة والأخلاق والتحرك في مسارب الرؤى الإنسانية لبلورة الفضيلة في سلوكيات السلطة المولجة شؤون التدبير في خدمة حاجة الانسان الى التموضع في المساق الجمعي ترجمة لانبثاق فردانيته في توليفة اجتماعية .
ثنائية الاخلاق والسياسة عقدة مسكونة بالالغاز باعتبارها ترميز لرحلة البحث في الوظيفة المهنية للأخلاق وفي ديناميات السياسة بكل نوازعها التي تنصهر فيها روح إرادة الإرادات في فرضية “هيغل” مع العنف المحايث للسلطة باعتباره رديفا لضرورات الضبط والتوجيه .
لقد اتضحت مع تطور النموذج السياسي في إدارة الحكم مجموعة من الحقائق التي هزت علاقة السياسة بالأخلاق ؛ وشكلت الحروب والحروب الأهلية بالتحديد ، والنزاعات العرقية والاثنية صدمة للفكر الأخلاقي وفرضيات المثالية التي مثلت الصورة العقلانية لقيام الدولة ضمن مثلث الجماعة والأرض والسيادة ؛ ولقد أعطت محطات مزلزلة في تاريخ البشرية صورا متمايزة للعلاقة، نذكر منها الثورة الفرنسية ، وثورة مارتن لوثر كينغ ، وثورة غاندي والثورة البلشفية، وتجربة النازية مع هتلر ، الى كل الحروب والنزاعات التي يؤسف لاستمرارها بطرق مخزية .
في راهنية العلاقة نميز صورتين في مشهدية التطور :
١- الثنائية على المستوى الغربي بالمعنى المتداول ، حيث تعتلي الفلسفة مسرح البحث في العلاقة وقد سطرت لهذه العلاقة المذاهب الفلسفية عبر الفلسفات الرواقية ،لتستقر مع انقلاب نوعي عبر الفلسفة اليونانية وافكار أفلاطون وأرسطو في الاخلاق والسياسة ، الى فلسفة كانط في القانون الاخلاقي وصولا الى انفتاح ميدان البحث لمباحث في طبيعة الحكم والسلطة التي بلغ البحث فيها مستوى جديدا مع ميشال فوكو حيث التوسع في ميدان السلطة وتقنيات العنف والحجر الى التمأسس خارج مدار السلطة التقليدية .
من المعروف ان امير ميكيافيلي حط بقوة على فراش العلاقة وقد حل كتابه ليرافق هتلر وغيره من السياسين في بحثهم عن غاية تبرر الوسيلة ، وقد تجاوزت شهرة الكتاب الى المدى العالمي ، دون ان يتم النقاش في مندرجات الرؤية الميكيافيلية من كل جوانبها.
يدور الاهتمام هنا حول قضايا الديمقراطية والتناوب على السلطة وحقوق الانسان والمجتمع المدني .
٢- على المستوى الشرق أوسطي ؛ للشرق الأوسط حقائقه الخاصة وفي صميم الخصوصية تشكل علاقة الثنائية لغزا خفيا ، نعتقد ان مفاتيحه قد أودعت في جينالوجيا ؛ أي علم جينات العقل الاخلاقي ؛ وكذلك في بنية السوسيولوجيا وفي واجهتهاقضية الدين وعلاقته بالسياسة.
وفي السياق يأتي النموذج اللبناني ليستفيض بالرموز والألغاز حيث تصل إمكانية تفكيك العلاقة بين السياسة والأخلاق الى حد الاستحالة .
من هنا فإن التعمق الذي ذهبنا اليه في مكنونات الاخلاق عبر مقالاتنا السابقة ، او من خلال الكتاب الذي يصدر خلال أيام ” الاخلاق، الإرادة،والقدر ؛ ويتناول حرب الهويات من زاوية اخلاقية ” ؛ دعوة لمشاركة المثقف اللبناني أهمية موضوع الاخلاق ،ونحن بذلك ندعو الى الاستفادة من تحليل نموذج العلاقة في لبنان املا ببلوغ أدوات معرفية تخدم مجال البحث ، وتضيء الطريق للخروج من شرنقة الهيمنة والسيطرة والتهام حرية الناس ،وحقهم بالحياة الكريمة؛ لا سيما ان تهالك هذه الحقوق بات مرتبطا بسياسات التجويع والإمساك برقاب الناس والاحتفاظ بخياراتهم في جيب هذا الزعيم اوذاك .
حملت الانتفاضة تباشير للحرية لكنها عرضة للتمحيص والتدقيق ،وهي أمام تحد مصيري، يبدأ بصوغ خطة وترسيخ خطاب الثورة المنشودة .حيث يدور الاهتمام المقارن هنا بين حركة الشارع والزعيم، وتجديد الاهتمام والبحث عن الاستمرارية في خلق معادلة جديدة ضمانة للاستقرار المتاوزن مع مستوى التصعيد وكمنطلق لتحقيق التغيير.
تتناول عملية التفكيك عناصر التركيبة ضمن النسيج الايديولوجي الذي يصل الى أقصى تجلياته من اختراع التزاوج بين السياسة والأخلاق الى الانقلاب على السياسة الاخلاقية او الاخلاقية السياسية، مع خيارات خاصة بموجبات الإخضاع لارادة ثقافة السيطرة عبر خلق الانسان المؤدلج في. نموذج “الانسان الاشتراكي “مع النموذج الستاليني او “الانسان الرأسمالي” في النظام الرأسمالي ،او خلق الهوية المذهبية في مساقات الاصطفاف ومنع قيام العدالة تحت شعارات الولاء والالتزامات الدينية، والخضوع للمطلقات العمياء والتعصب.
من هنا نتناول التركيبة في محاور ثلاثة ، من خلال : الانسان في تمظهره كتابع او كمفعول اوكموضوع ؛ في مقابل المتبوع ،او ،الموجه ، او القائد او الزعيم ؛ وصولا الى صيغة العلاقة او النظام او الآليات توصيفا للمعنى وترجمة الانتماءات في كافة مسمياتها الوطنية او الطائفية والمذهبية ، والقبلية والعشائرية والعائلية والفردية.
أ-نتناول في الباب الأول الفرد كشريك في العلاقة الشائكة بين خياراته الاخلاقية وتموضعة في العلاقة مع سلطة التوجية والإخضاع .وهنا نتناول الفرد بصفته مسؤولا عن التزاماته ويتحمل مسؤولية العلاقة السلبية المتمادية بين الاخلاق والسياسة .
الانسان بهذا الصدد هو من يكرس حق الانحرافات السياسية عن الالتزام الاخلاقي من خلال التضحية بمفاهيمه وكرامته الشخصية ضمن ايديولوجيا تطمس قدرته على التمييز ؛ لكنها تبريرية ممنهجة في مواجهة العقل النقدي ، والاستعداد لضريبة الحرية التي تنتصب مع تجربة وسقراط كل الثوار على الظلم ، يتعامد تصويب الموقف على معيار معتمد ومرجعية للمعنى
.
ب- الفاعل في السقوط الاخلاقي مع سلوك متفنن بمهارات الإخضاع بكل الأساليب ، والكاريزما المتأصلة في النموذج للبطولة والفراسة ؛ والصورة هي تظهير لمرحلة تحمل معها ضرورات الإخضاع شرطا لتحويل القرار الى نفوذ قوة للتنفيذ ، الحد الفاصل بين مصلحة الجماعة والأنانية السلطوية تخضع لمنظومة من العلاقات السياسية والاقتصادية والسوسيوثقافية .
لا خلاف حول حاجة القيادة الى مفاهيم كالثقافة وسعة الحيلةوالقدرة على اتخاذ القرار والفاعلية التواصلية ؛ لكنها مزايا تتصل بصفات المكر وغالبا التظليل عبر ما يتصف بدور الثعلب في السياسة حسب ميكيافيلي.لتتجاوز كل الحدود في الممارسة ،وهو الوجه الأول لاختلال علاقة السياسة الملتهمة للسلطة بأخلاقيات التحكم والنرجسية ،في حين يشكل العجز الإنساني المستحكم بالشخصية الإنسانية هو الوجه الآخر للتمادي في السقوط . ويشكل تموضع التدين خلف التبعية للسلطة باسم الدين ، على حساب جوهر الدين والإيمان الوجه الأكثر خطورة للتبعية العمياء او للتضحية بنعمة الحياة خدمة لأيديولوجيا العداء للآخر والتعصب الأعمى .
لقد عرف لبنان زعماء ورجال دين يفخر الوطن بتطلع بعضهم الى تجاوز البغضاء الطائفية والى ترفع البعض الآخر الى مرتقى السمو والمحبة ربما كان لهؤلاء علينا حق الالتزام بالتغيير.
ج-تختزل منظومة العلاقة بين الحاكم والمحكوم ،اوالتابع والمتبوع عناصر البيئة التي تنشأ فيها العلاقة وتفعل دينامياته؛ ففي لبنان تتجذر السلوكيات الاخلاقية السياسية في الأرضية التي قامت عليها الصيغة اللبنانية عبر التاريخ ؛ وهي التي تتغذى من الصراعات المذهبية والمصالح الفىئوية والمصالح الشخصية والتعصب والفساد .
لقد كرس النظام هذه الخصائص قبل الحروب وفي أثنائها وفي ما بعدها ، وقد جاءت التشريعات والأنظمة عن سابق تصور وتصميم لتكريس توازنات مدمرة
.من المهم التوقف عند هذه المحطة أمام الفاعلية الاخلاقية التي لا تهدأ ولا تستكين ، والتي يعبر عنها في التجارب الثورية والقيادات التي يخلد التاريخ أسماءها ، التعبير عن الدينامكية التطورية للأخلاق هو انفعال بالإرادة الحرة كما يصفها شوبنهاور ، او كما يتطرق اليها ” إسبينوزا “في مذهبه التربوي او في مصالحة بول ريكور ما بين الإرادة والعقل ؛ مع ان الثورة النيتشوية العارمة في إرادة الاقتدار تشكل رافعة لتصحيح العلاقة بين الاخلاق وجوهرها الإرادة الإنسانية المتحفزة للضبط والتحسين والثورة مقابل السياسة في انحرافها عن سكة الخدمة العامة وتكريس الجهود لرفعة المجتمع والإنسان والاتجاه الى التسلط والاستبداد واستغلال السلطة .
تتموضع العلاقة بين الاخلاق والسياسة في سيرورة ثلاثية الأبعاد ؛ وهي علاقة تنحو فيها السياسة في التعاطي مع تحديات تطبيق القوانين واحكام السيطرة الى ممارسات تتجاوز الغايات التي نشأت من اجلها وتقع في محظور الانفلات على الضوابط الاخلاقية وسط المجابهة مع محاولات المساس بها وبهيبتها . لذلك تبرز الحرية كمعيار ورابط بين القيمة والواجب والمسؤولية.
نتعامل مع الثلاثية انطلاقا من نقطة ارتكاز المنظومة القيمية لفهم الأحكام الاعتبارية التي تختلف بين مجتمع وآخر ؛ حيث تتمحور المفاهيم الاخلاقية حول المعتقدات والتقاليد التي تؤسس للمعايير الاخلاقية في علاقات الحكم في الموالاة او المعارضة ؛ ومن المعروف ان الانسياق في التسليم بالأمر الواقع هو جزء من الثقافة العامة في العلاقة بالمرجعيات .
ولا يختلف الأمر في محور المرجعيات بالنسبة الى صياغة نظام للعلاقات يمسك بناصية الثقافة الاعتبارية وبجسدها في خطاب تعبوي لعلاقة عضوية بين تكريس مرجعيته وحجة صالح الجماعة ومصيرها . مما فاقم التبعيات في ظل الدويلات والجزر السياسية على حساب الدولة.
في السلوكيات تبدو ممارسة الأدوار مرآة لأصل العلاقة حيث التربع على عرش السلطة رافد من روافد ديمومة النظام خارج مشيئة الناخب ؛ كما ان الفجوة تعبر عن انسلاخ وجوه جديدةعن المجتمع وهمومه فيترحم الشعب على وجوه مضت وكم من حديث نعمة شاهد على ذلك.
في المحور الثالث يبدو الترابط واضحا بين القيم المعيارية لثقافة الخضوع وتمادي سلطوية فردانية الزعامة مكللة بتاج الدفاع عن الوطن والطائفة والعشيرة والعائلة ؛ أما منظومة الحكم في ابعادها السياسية والاقتصادية والثقافية فقد تطورت في مسار يخدم العلاقة المأزومة بين الاخلاق والسياسة ؛وذلك في ترجمة لدورة متكاملة من فعل الفحش السياسي في الاغتراب الخلقي المتهالك بين احباط الانسان وشرعنة التحكم به ورفع راية الأيديولوجيا المضللة.
أمام المشهد المريع للواقع اللبناني نستعيد صورا إيجابية في الخصوصية اللبنانية ، وتحديدا زخم الإبداع والتميز في التربية والتعليم ، والبعد الثقافي على مر العصور ، وهو النقيض للسقوط الذي وصل مع الخيبة الاخلاقية الى الهاوية
من الصعب ان ننتظر انتصار زعامات تهاوت في درك المذهبية والمصالح على ذاتها وعلى تاريخها ، لكن ليس من المستحيل ان تهز الحقيقة اللبنانية الإنسانية ضميرا مخفيا او تولد ندرة من قيادات لالتقاط مبادرة الاخلاقية السياسية عبر عقل منفتح وارادة لصفوة الرجال الذين هم أعلام في العلم والبحث والتقوى والانفتاح وروحية الحوار .،نختم بالقول ان الاخلاق حقيقة إنسانية متجهة للخير والتسامي ، والسياسة ما لم تتجاوز الأفعال الشريرة الى الخير العام فهي بلاء للحكام ومصير اسود للوطن ومستقبله.
للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا