دولي

الصفيح الساخن والمتحرك لاستراتيجية الجغرافيا الاقتصادية أو النموذج الايكو-اقتصادي بقلم د. محي الدين الشحيمي

يشهد حاضرنا اليوم حالة من عدم الاستقرار المؤسسي والتنظيمي,فمع تصاعد وتيرة الحروب التجارية والمنافسات الكلاسيكية داخل الدول على السلطة التقليدية ، بدأت المؤسسات الاقتصادية ذات العمق الجغرافي والمكاني تقوّض اهتمام الافكار الجيو- اقتصادية في تشكيل التنظيم الاقتصادي محلياً ودولياً. وتتذرع الدول بشكل متزايد بظروف خاصة من أجل الانسحاب من التعهدات الجماعية والاتفاقات الدولية أو لمجرد تجاهلها بشكل فردي ونتيجة لذلك ، تتعرض مؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية لضغوط خطيرة مع تهاون سلطتها في مشهد تبادلي وتجاري عالمي تعصف به النزاعات السياسية.

وقد زاد منح الصناعات الاستراتيجية الأولوية في بعض البلدان وتقديم الإعانات إلى مؤسسات الدولة من صعوبة وضع معايير دولية بشأن سياسة المنافسة وتنظيم المنتجات ومراقبة الجودة وحماية البيئة , حيث إن المخاوف بشأن أمن الوصول إلى الموارد مثل الغذاء والماء والمعادن فضلاً عن الحذر المتزايد من احتمال إساءة معاملة الشركات (المتجسد في اللائحة العامة لخصوصية البيانات في الاتحاد الأوروبي وهو إجراء يهدف إلى مساعدة الناس على تتبع استخدام بياناتهم الشخصية التي تعد المعيار الذهبي الحالي لإدارة البيانات العالمية) قد يؤدي إلى بيئة تنظيمية عالمية أكثر انقساماً.

وتواجه القواعد والمؤسسات التقليدية التي تعتمد على اقتصاد عالمي متناغم سياسيا مستقبلا يزداد غموضا, فالاتحاد الأوروبي على سبيل المثال لديه سمعة لإنشاء قواعد فعالة ومؤثرة , ولكن إنفاذ سياسة المنافسة الصارمة نسبيا قد اجتذب انتقادات لمنع الاندماجات في صناعات الدفاع والتصنيع والتكنولوجيا التي تعتبر ذات أهمية استراتيجية للمنافسة (الجيو- اقتصادية) .,وفي الوقت نفسه تعمل المؤسسات الأحدث على تحويل السلطة بعيداً عن مؤسسات بريتون وودز (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) والتي أنشئت في نهاية الحرب العالمية الثانية , هي المؤسسات التي تمنح الدول الغربية قدراً غير متناسب من النفوذ العالمي . إن الاقتصادات الآسيوية في مقدمة هذه عملية تجهد في المحاولة لاعادة التوازن ولفرضه ؛ فبنك التنمية الجديد، الذي أنشأته بلدان (البرازيل والصين والهند وروسيا وجنوب أفريقيا) في عام 2014 خير دليل على ذلك , حيث يقع المقر الرئيسي في شنغهاي ويلتزم بتمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية المستدامة في الاقتصادات الناشئة والبلدان النامية، وقد بدأ البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية ومقره في بكين عملياته في عام 2016 بهدف تمويل البنية التحتية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وينمو نشاط الإقراض الخاص به.

فالتدقيق الأمني للأموال الأجنبية بات ملحا, حيث ألقت زيادة بروز السياسة الجغرافية – الاقتصادية أنماط الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي في ضوء واطار جديد , لقد كان هناك نمو وبشكل ملحوظ في المخزون العالمي من الاستثمار الأجنبي المباشر بدءاً من أواخر الثمانينات قبل أن يتوقف خلال الأزمة المالية العالمية منذ أكثر من عقد من الزمن, ورغم أن المستويات العامة قد انتعشت قليلا في أعقاب الأزمة مباشرة فقد انخفضت المستويات العامة والعالمية منذ ذلك الحين , اذ انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي بنسبة 13٪ في عام 2018 مقارنة بالعام السابق مسجلاً بذلك الانخفاض السنوي الثالث على التوالي وفقاً لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية, لذلك الامر ان زيادة التدقيق الحكومي في الاستثمار الأجنبي في الصناعات الرئيسية قد يؤدي فقط إلى زيادة إنحدار نشاط الاستثمار الأجنبي المباشر , لذا أصدرت كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تشريعات تفرض معايير أكثر صرامة على الاستثمار الأجنبي في قطاعات الدفاع والاتصالات السلكية واللاسلكية وشبكات الكهرباء، ومنشآت الطاقة وصناعات الأدوية والاتصالات والفضاء وبناء السفن, اضافة الى قانون تحديث مراجعة مخاطر الاستثمار الأجنبي لعام 2018 الطريقة التي تراجع بها الولايات المتحدة الاستثمار الأجنبي بناءً على مخاوف الأمن القومي، في حين أن لوائح فحص الاستثمار الأجنبي المباشر للاتحاد الأوروبي التي وضعت في عام 2019 تحدد متطلبات للمراجعات الأمنية من قبل الدول الأعضاء.

ومن الأمثلة الحديثة الواقعبة على التدقيق الدقيق الذي تطبقه الحكومات الدول المحلية على الاستثمار الأجنبي إحجام الولايات المتحدة عن السماح والايذان باستخدام التكنولوجيا من هواوي الصينية في شبكات الاتصالات الأمريكية، وكذلك القرار

الألماني في العام 2018 والمتعلق بمنع شراء شركة تصنيع الأدوات ليفيلد ميتال فيغز من قبل عميل صيني، ونستطيع ان نورد ايضا القرار الكندي والذي منع من خلاله الاستيلاء المخطط لشركة Aecon Group من قبل شركة صينية.

بالرغم من أن حجج هذه التدابير الجيو – الاقتصادية هي لاعادة القليل من التوازن ولترميم النموذج الايكو-اقتصادي والجغرافي بشكل متناغم واسلم عالميا , الا انها من غير المرجح لها لان تؤدي إلى انهيار تام للاستثمار الأجنبي المباشر، الا إنها تخلق مشهداً جديداً أكثر تعقيداً للمستثمرين الدوليين , وإذا استمرت هذه النظم دون هوادة في عشوائيتها الديماغوجية فمن المرجح أن ينقسم النظام الإيكولوجي للاستثمار إلى مجالين متطرفين , حيث المجال الاول وهو الكبير في متناول اللاعبين العالميين ويتميز بمستويات عالية من المنافسة والمضاربة , أما المجال الثاني فهو مجال وطني أصغر وأقل سهولة حيث تحتفظ الحكومات بسيط السيطرة على الاستثمار والإنتاج (بطريقة توشك على الاحتكار أو احتكار القلة) لصالح الأمن القومي مع هوامش ربح مرتفعة في المقابل للكارتل الصغير للشركات العاملة داخله.

لقد بدأت مدرسة التخطيط والتي تتبنى فصل البنية التحتية بالظهور أكثر والمقصود بالبنية التحتية ليس فقط الطرق والمباني والانفاق بل كل مرتكزات الدولة , من فرضية احتمالية مفادها فيما إذا كانت الدولة معرضة لخطر فقدان الوصول إلى البنية التحتية الحيوية فقد ترغب حينها في إنشاء بنية تحتية خاصة بها, فان أحد الاتجاهات الأخيرة الأكثر أهمية في المنافسة الجيو – اقتصادية تلك التي يتم التعبير عنها عادة من خلال العقوبات والتعريفات والمنافسة التنظيمية والتدقيق المكثف في الاستثمار اي هو الجهد الذي تبذله الحكومات الوطنية لإنشاء بدائلها الخاصة لشبكات البنية التحتية العالمية , وكثيرا ما تكون هذه المحاولات الرامية إلى إعادة ربط العولمة بالأسلاك استجابة للاستغلال السياسي للقنوات الحاسمة للتبادل . فإن إزالة البنوك الإيرانية مثلا من شبكة سويفت الدولية للدفع في عام 2018 وقبلها في العام 2012 هي مثال واضح على ذلك , فقد تم التلاعب بالبنية التحتية للمدفوعات المحايدة المفترضة لأغراض سياسية من قبل حكومة قوية، مما يشكك في موثوقية تلك الشبكة كنظام تقني آمن ومحايد , ورداً على تهديدات مماثلة بفرض عقوبات بدأت روسيا في عام 2014 في تطوير بديل لـ”سويفت”، الذي أطلق عليه اسم “SPFS”، حيث دخل حيز التنفيذ في أواخر عام 2017 ومنذ ذلك الحين تم ربطه بنظام المدفوعات الدولي في الصين CIPS. وقد أفاد البرنامج الخاص للأمن الغذائي أن لديه الآن مئات المستخدمين والاتفاقات مع عدد من المصارف الأجنبية والكيانات القانونية في إيران وتركيا والهند.

بالإضافة إلى أنظمة المدفوعات المالية أصبح الاتجاه نحو “الفصل” عن البنية التحتية القائمة أكثر بروزًا في مجالات الحوسبة وشبكات الاتصالات 5G (التي توفر سرعات إنترنت أكبر بكثير وتتمسك بوعد الاقتصادات الحديثة المبنية حول الأجهزة المتصلة بالإنترنت والتنقل المستقل). على الرغم من أن الشركتين الصينيتين ZTE وهواوي تشغلان مراكز مهيمنة عالميًا عندما يتعلق الأمر بمعدات الجيل الخامس وهواتفه ، إلا أن شركات أخرى مثل إريكسون السويدية ونوكيا الفنلندية كانت تطرح أيضًا شبكات الجيل الخامس 5G .

وبسبب ارتباطها بما يسمى بالإنترنت الصناعي وانترنت الاشياء الذي يربط الأجزاء المتنامية من قطاعات التصنيع الوطنية بالويب كانت المنافسة ذات الصلة بالجيل الخامس بين الولايات المتحدة والصين شرسة بشكل خاص, فقد خلطت بين الدوافع التجارية لمنتجي الرقائق والتكنولوجيا والأهداف الاستراتيجية للحكومات الوطنية (وأجهزة استخباراتها) الحريصة على الاحتفاظ بالسيطرة على شبكات تبادل البيانات والمعلومات. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة وصفت هواوي بأنها تشكل خطراً أمنياً واستراتيجيا ، إلا أنه يبقى أن نرى ما إذا كانت مخاوفها المتعلقة بمراقبة الحكومة الصينية سيكون لها تأثير على الانتشار الأوسع للبنية التحتية لـ 5G.

في ظل إدارة ترامب برزت الصراعات التجارية وسياسة الغلو والحمائية للصناعات الوطنية ، فاتبعت الولايات المتحدة سياسات تجارية عدوانية تستهدف الصين والاتحاد الاوروبي ايضا , وقد أدى ذلك إلى ما أضحى عليه الواقع الآن ببلوغه لاعلى مستويات التعريفة الجمركية المعرقلة الاساس لسبل التجارة الدولية منذ أوائل الستينات جنبا إلى جنب الان مع أزمة COVID-19 الطارئة والمستجدة , في حين ان التجارة العالمية وسلاسل التوريد والتصنيع المتعلقة بها آخذة بالتفكك حتى حتى قبل انتشار جائحة الcovid-19 .

فإن التنافس الصيني الأمريكي يسبب عدم استقرار جغرافي واقتصادي خطير وقد يُفقد الآن التقدم المحرز بحلول يناير/كانون الثاني 2020 في تخفيف التوترات الثنائية على الرغم من أن العواقب غير المقصودة مثل الحواجز التجارية أمام الإمدادات الطبية الصينية المستوردة قد فرضت تراجعاً محدوداً في السياسة من جانب الولايات المتحدة , فقد يكون الركود العالمي الناجم عن الوباء أسوأ بكثير من الأزمة المالية العالمية لعام 2008 ويأتي ذلك في الوقت الذي كثفت وصعدت فيه الولايات المتحدة من الأعمال العدائية ليس فقط مع الصين ولكن أيضًا مع الحلفاء التقليديين مثل الاتحاد الأوروبي واليابان وكندا , وقد دفع هذا بعض القادة إلى إعادة تقييم علاقاتهم التجارية مع القوة العظمى الأولى في العالم وفي بعض الحالات أدى إلى فرض تعريفات انتقامية تستهدف الولايات المتحدة , وقد تؤدي الأعمال العدائية التجارية التي كانت قائمة قبل 19covid إلى إعاقة قدرة الاقتصاد العالمي على التعافي بسرعة بمجرد انحسار الوباء وفي حال السيطرة عليه .

وفي حين أن قدراً كبيراً من العداء التجاري الحالي له جذوره في الرغبة الأميركية المتنامية في استعادة القدرة التنافسية (مع المنافسين والحلفاء على حد سواء)، فإن المنافسات الاقتصادية تغذي مستويات أكبر من العداء السياسي وكلما طال أمد استمرار المناخ العام للصراع التجاري كلما كان من المرجح أن يحفز الصراعات الاستراتيجية والأيديولوجية الأوسع نطاقاً بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين وروسيا. وفي حين أن بعض التعريفات الحمائية والانتقامية قد تكون مبررة في صناعات محددة فإن هناك خطراً حقيقياً عندما تترسخ هذه التدابير لا سيما أثناء فترة الوباء وعندما تكون هناك حاجة إلى مزيد من التعاون والتشابك العالمي . غير أن أحد المجالات الهامة الأخرى لتطوير التعريفات الجمركية هو مجال يمكن أن يكون له أثر إيجابي حقيقي على التعاون الدولي , وهو ما بات يعرف ويسمى بتعديلات الحدود الكربونية اي تحفيز المصدرين من البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء على الوفاء بأهداف خفض الانبعاثات التي ينتفَى عليها بموجب اتفاق باريس بشأن تغير المناخ , وعلى عكس التعريفات الأخرى فإن هذه التدابير تخلق فرصاً جديدة للاستثمار في تكنولوجيا الطاقة المتجددة ويمكن أن تساعد في إنشاء سلاسل توريد أكثر اخضراراً واستدامة ومن الطرق المثمرة لتصفية الفترة الحالية من الصراع التجاري تبني هذه التعريفات الكربونية مع إزالة التعريفات الأخرى.

بات العالم يعتمد بشكل كبير على السلاح الاقتصادي, فالبلدان تستهدف بعضها البعض بشكل متزايد بفرض عقوبات اقتصادية, وتطبق الدول عقوبات اقتصادية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ولكن استخدامها زاد بشكل كبير منذ السبعينيات ,اي منذ نهاية الحرب الباردة على وجه الخصوص , فالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة هم أكثر المستخدمين تعطشا للعقوبات على الرغم من أن اتساع وتأثير برامجهم الفردية يتفاوتان بشكل كبير . وأشد أنواع العقوبات الأمريكية صرامة هي العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة خارج الإقليم مثل تلك التي تستهدف إيران وكوريا الشمالية والعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة هذه التدابير تمنع الشركات والبنوك العالمية من القيام بأعمال تجارية مع البلدان المستهدفة أو في هذه البلدان بسبب ألم الملاحقة القانونية في الولايات المتحدة والاستبعاد من أسواق الولايات المتحدة. ويمكن أن تلحق الجزاءات ضرراً بالغاً بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية للبلدان المستهدفة، ولكن فعاليتها كمقاييس للسياسة كثيراً ما تكون مختلطة في أحسن الأحوال حيث تشير معظم البحوث إلى أن آثارها الاقتصادية أكثر أهمية من فعاليتها السياسية المحدودة عموماً والجزاءات الأكثر فعالية هي في كثير من الأحيان تلك التي لا تعرض للتهديد بل تفرض فعلا.

يشكل الاستخدام المتزايد للجزاءات ثلاثة مخاطر محددة على الاقتصاد العالمي قد تكون تكاليف الامتثال المتزايدة لأي شركة تعمل في التجارة والاستثمار الدوليين مرهقة، وحتى عندما ترفع العقوبات فإن هذه الشركات تحتاج إلى ضمانات موثوقة بأن البلدان التي كانت مستهدفة سابقاً آمنة مرة أخرى لممارسة الأعمال التجارية وهذا يعني أن الانتعاش الاقتصادي في مرحلة ما بعد العقوبات في بلد ما غالبا ما يكون باهتا, وفي كثير من الأحيان تُترك الجزاءات في مكانها لسنوات عديدة أو حتى لعقود وهذا من الممكن أن يعيق التنمية الاقتصادية ويرسّخ العداء السياسي, لذا ينبغي على الحكومات والشركات أن تستكشف جميع الخيارات المتاحة للحد من نمو الجزاءات التي تحد من الرخاء، وتفرض تكاليف مادية واجتماعية جسيمة وكثيرا ما تعمق الخلافات السياسية الدولية بدلا من أن تحلها , وهناك أيضا خطر حدوث عواقب سلبية غير مقصودة ومن خلال زيادة استعداء البلدان يمكن أن تزيد العقوبات من خطر الحرب وحتى بالنسبة للبلدان التي تتمسك بسلام هش على الرغم من الصراع الاقتصادي المستمر، فإن الجزاءات تؤدي إلى تفتيت شبكات التبادل الدولية التي تعتمد عليها وتدفع العولمة عموما في اتجاه أكثر اضطرابا وعرضة للصراعات العسكرية.

هناك انتهاج واضح لسياسة الصناعية الاستراتيجية , فعدد متزايد من البلدان النامية تسعى لتطوير وسائل لمواجهة العواصف ونشر النفوذ , لقد كانت السياسة الصناعية جزءاً هاماً من التنمية الاقتصادية لبلدان كثيرة خلال القرنين الماضيين وقد استخدمت هذه السياسات في الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية لبناء قدرات مستقلة في مجال البحث والتطوير والإنتاج في الصناعات الاستراتيجية وخاصة في مجال الدفاع, وفي الآونة الأخيرة بدأت الصين في استخدام السياسة الصناعية بنشاط للحد من اعتمادها على الموردين الأجانب في صناعات التكنولوجيا الفائقة في إطار برنامج “صنع في الصين 2025” , وفي مجال الخدمات المصرفية المركزية مثلا تقوم روسيا ببناء احتياطي كبير من العملات الأجنبية من أجل مساعدتها بشكل مستقل في أزماتها اللامتوقعة وهو ما فعلته بلدان جنوب شرق آسيا في أعقاب الأزمة المالية الآسيوية عام 1997 , وفي الوقت نفسه وضعت كوريا الجنوبية ودول الخليج مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة سياسات غذائية استراتيجية تشمل شراء مساحات شاسعة من الأراضي في شرق أفريقيا لزراعة الحبوب والحنطة. وفي حين أن سياسات من هذا القبيل يمكن أن تعزز النمو والتنمية الاجتماعية والاقتصادية لا سيما عندما تكون موجهة نحو جهود إيجابية مرتبطة بالطاقة المتجددة والتكنولوجيا الخضراء , فإنها يمكن أن يكون لها أيضاً آثار ضارة على رفاه السكان المحليين ونوعية مؤسسات الحكم.

ويتجلى هذا التوتر بالصميم في مبادرة الصين الطموحة لبناء البنية التحتية للحزام والطريق اي طريق الحرير وقد أدى الحزام والطريق إلى ازدهار في نشاط البناء بسبب معايير الإقراض التي هي أكثر مرونة من تلك الموجودة في مؤسسات بريتون وودز (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) ولكنها اخطر . كما زادت من سيطرة الصين على الموانئ والسكك الحديدية الأجنبية الرئيسية، وتم استبعاد السكان المحليين والذين حرموا من منفعتها و فوائدها بسبب اعتمادها على العمال الصينيين .

لا تزال العواقب الجيو- الاقتصادية النهائية للمبادرة غير واضحة؛ فالعديد من البلدان المشاركة لا تزال لديها مشاكل خطيرة في مجال الحكم، وتفاقمت بمعدل تصاعدي اكثر من خلال تدفقها مع المال الأجنبي مع سلاسل قليلة مرفقة , ومن ناحية أخرى وفرت استراتيجية “الحزام والطريق” التمويل الإنمائي للبلدان التي تواجه تحديات هيكلية خطيرة في حين أن المؤسسات الغربية مثل حلف شمال الأطلسي لا تظهر أي علامة ولو ظاهريةعلى الصدام مع مشاريع الحزام والطريق في البلدان التي تتداخل فيها (بما في ذلك إيطاليا واليونان وتركيا والعديد من دول البلقان)، إلا أن هناك قلقاً متزايداً بشأن تنامي القوة الصينية في العديد من العواصم الغربية وما دامت هذه المخاوف لا تؤدي إلى المزيد من المشاركة الاقتصادية والمالية الغربية النشطة مع المناطق المشاركة في الحزام والطريق فإن الأسباب الكامنة وراء هذه المخاوف سوف تظل قائمة.

د. محي الدين الشحيمي، استاذ في كلية باريس للأعمال والدراسات العليا

الدكتور محي الدين محمود الشحيمي، دكتوراه في القانون جامعة باريس اساس في فرنسا. عضو لجنة التحكيم في مدرسة البوليتكنيك في باريس. محاضر في كلية باريس للاعمال والدراسات العليا واستاذ زائر في جامعات ( باريس 2 _ اسطنبول _ فيينا ). خبير دستوري في المنظمة العربية للقانون الدستوري مستشار قانوني واستراتيجي للعديد من الشركات الاستشارية الكبرى والمؤسسات الحكومية الفرنسية كاتب معتمد في مجلة اسواق العرب ومجلة البيان والاقتصاد والاعمال ومجلة الامن وموقع الكلمة اونلاين . رئيس الهيئة التحكيمية للدراسات في منصة الملف الاستراتيجي وخبير معتمد في القانون لدى فرانس 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى