نظرة جديدة على الوثائق الإسرائيلية (6) كتب مجدي منصور
من الأمور التي يلاحظها القارئ لتقرير أجرنات أن الصورة التي أراد الإسرائيليون أن يرسموها لأنقسم في المخيلة العربية من حيث أنهم منظمون وهادئون ولا يخطئون أو يختلفون هي صورة مصطنعة وليست حقيقية.
1-اختلاف في الخطة بين وزير الدفاع ديان ورئيس الأركان العازار!
وذلك نجده في سؤال اللجنة الجنرال دافيد اليعازار والسائل الجنرال المتقاعد حاييم لاسكوف (عضو اللجنة) حيث يقول له:
قرأت محضر اجتماع بحضور رئيسة الوزراء (مائير) لدراسة أزرق – أبيض (خطة إسرائيلية لمواجهة عبور الجيش المصري لقناة السويس) والاستعدادات لها ، وشعُرت أثناء القراءة أن هناك تناقضاً في المفاهيم بين هيئة الأركان ووزير الدفاع حول دور سلاح الطيران والمدرعات في مرحلة التصدي ، وأود أن تشرح لي ذلك.
ويكمل لاسكوف استفساره قائلاً:
تقول هناك (يقصد في محضر الاجتماع الذي اطلع عليه لاسكوف) إذا شنوا هجوماً (يقصد الجيش المصري)، فإن سلاح الطيران الذي استثمرنا فيه 80% من أموالنا ، سيُدمر القوات التي تحاول عبور القناة.
بينما يقول وزير الدفاع ديان: يقول (لا) .. سلاح الطيران سينشغل في البداية بتدمير صواريخ وطيران العدو. ويجب أن يعتمد سلاح المدرعات على قواته في المرحلة الأولى. فكيف تفسر لي هذا الاختلاف في خطة من المفروض أنكم أنتم الاثنان تعلموها علم اليقين؟!
ثاني الأمور التي يلاحظها القارئ لتقرير أجرانات أن الأسئلة التي توجهها اللجنة للسياسيين والعسكرين واجابات هؤلاء المسؤلين على تلك الأسئلة تكشف جوانب من شخصيتهم ، وترفع القناع عن طريقة تفكيرهم ، و وتزيح الستار عن المؤثرات الحاكمة لنظرتهم لنظرائهم في الدول العربية.
2 – حكم «الفرد» أحد أساليب القيادات الإسرائيلية في تحليل تصرفات القيادات العربية !
فالجنة التحقيق سألت رئيسة الوزراء جولدا مائير في جلسة التحقيق بتاريخ 6 فبراير 1974 :
كيف رأت خطوة السادات طرد الخبراء السوفييت من مصر؟
فأجابت مائير إجابة يجب أن نقف أمامها كثيراً وكثيراً ، فقالت:
«من الممكن بالتأكيد القول إن ما فعله جمال عبد الناصر في يونيو 1967 لم يكن منطقياً بالقطع. وأتذكر أن رئيس شعبة المخابرات العسكرية وقتها تحدث كثيراً عن : لماذا هذه الخطوة منافية للمنطق؟(تقصد خطوة غلق خليج العقبة) ، ولماذا فعل ناصر ذلك في حقيقة الأمر؟ وهل فعل ذلك اعتباطاً؟ أم أن هناك منطق في الأمور؟ ، من وجهة نظري وقتها رأيت أن هناك منطق في تصرفاته».
«الأن يحكم السادات مصر – بحسب رأيي (أي جولدا مائير) – هو أقل من ناصر في كل شيء».
«لدينا (أي في إسرائيل) لا أحد يتخذ القرارات وحده. ولكننا نعرف في مصر أن السادات يتخذ القرارات وحده تحديداً ، وأن كل شيء مركز في يديه الأن.( حذف نحو نصف سطر بواسطة الرقابة العسكرية) قيل لنا طوال الوقت إنه لا يتشاور مع أي أحد. (حذف نحو سطر بواسطة الرقابة العسكرية) ».
إنه كما يقال: « هو من قرر طرد الروس من مصر ، ولم يكن هذا منطقياً جداً. وهو هناك راهن على الحظ . لكن ذات صباح يوم صافٍ ، قام ولم يسأل أحد وقال للمستشارين الروس: عودوا إلى بلدكم . يخيلُ إلي أننا مضطرون إلى أن نكون مستعدين لأشياء غير منطقية ـ ولكن دون أن نُصاب بذعر».
«نحنُ لا نعيش من أمس في هذه البيئة ، والجيران هم أيضاً هكذا ، لا يفعلون دائماً أشياء منطقية ، هم ليسوا دائماً منطقيين. نحن أمام فرد يحكم دولة ، وذلك أمر يجمع ما بين الحسن والسيئ معاً بالنسبة لنا ».
تعليق:
لعل نفس المشهد تكرر عندما عرض الرئيس المصري (أنور السادات) على (كيسنجر) ما سماه الاتفاق الاستراتيجي والذي بمقتضاه تبتعد مصر عن الاتحاد السوفيتي وتقيم اتفاقا استراتيجياً مع الولايات المتحدة الأمريكية وتبدأ في حوار مصري إسرائيلي ينتهى إلى معاهدة سلام بينهم).
لم تكن إسرائيل وهي تسمع العرض (الساداتى!) على لسان “ساحر فيتنام” (هنري كيسنجر) مُصدقة ذلك ، ولعل أفضل ما يُقدم صورة التفكير الإسرائيلي من هواجس وشكوك وحيرة! في ذلك الوقت محضر مباحثات هنري كيسنجر مع القادة الإسرائيليين في تل أبيب بتاريخ 16 ديسمبر 1973:
(جولدا مائير) :
«إن ما قرأته في رسالة السادات وما سمعته منك عن نواياه شيء طيب ، ولكن ما استغربه هو لماذا يفعل ذلك ؟»
(هنري كيسنجر):
«إن تفسيري لموقفه مُركب بعض الشيء .. الحقيقة أننى أنا شخصياً مندهش من مسلكه. إن الرئيس المصري لا يبدو حتى الآن مستعداً لاستعمال قوته السياسية الكاملة التي تعطيها له حقائق موقفه ، كما أنه لا يأخذ الموقف الدولي الجديد في اعتباراته وهو يتفاوض».
ثم استطرد (كيسنجر) قائلاً وفق محضر الاجتماع :
«إنني أعتقد أن الرئيس السادات في استطاعته أن يستخدم ما لديه لتحقيق اتفاق كامل بانسحابكم على شروطه وإلى خطوط 4 يونيو 1967. وحتى إذا خاطر باحتمال تجدد القتال فإن العالم كله سوف ينحى باللوم على إسرائيل ».
ثم تساءل (كيسنجر) في عرضه أمام (جولدا مائير) ووزرائها قائلاً :
« لماذا إذاً لا يستعمل “السادات” كل عناصر موقفه ليضغط من أجل انسحاب إسرائيلي كامل ؟».
وأجاب كيسنجر على سؤاله كبروفيسور في العلوم السياسية وأمامه تلاميذه قائلاً :
«السبب في رأيي أن “السادات” قد وقع ضحية للضعف الإنساني human weakness. إنه في الحالة النفسية لسياسي يتشوق إلى أن يرى نفسه وبسرعة سائراً في موكب نصر في سيارة مكشوفة عبر مدينة السويس و الآلاف الناس على الجانبين يصفقون له كمنتصر».
انتهى الاقتباس من محضر الاجتماع الأمريكي الإسرائيلي.
أي أن تحليل مائير الإسرائيلية أمام لجنة أجرنات (للتصرفات الغريبة للحكام العرب) كان مبني على تفسير نظرية (حكم الفرد) ولعدم وجود مؤسسة تستطيع أن تتخذ قرارات على أسس منطقية يمكن فهمها وتقدير الموقف على أساسها.
بينما البروفيسور هنري كيسنجر الأمريكاني رد الأمر «للضعف الإنساني» لسياسي ضعيف الموهبة قليل الإمكانيات معدوم القدرات يريد أن يسير في سيارة مكشوفة والجماهير تُحييه تُصفق له كقيصر المنتصر في روما العربية!
(3) هنري كيسنجر حذف مستمر من الشهادات!
لعل القارئ لتقرير أجرنات وخصوصاً لشهادة رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير و للوزراء السياسيين مثل يجال ألون نائب رئيسة الوزراء ، وأبا إيبان وزير الخارجية ، سيجد أن أي اتفاقات مع أمريكا (في إدارة الرئيس نيكسون) و(ممثلها) في هذا الوقت ساحر فيتنام هنري كيسنجر محذوفة حذفاً تاماً ولا يوجد على طول التقرير وعرضه غير: «اتفقنا مع كيسنجر على» (حذف من قبل الرقابة العسكرية عشر صفحات) و«هذا هو ما تم الاتفاق عليه مع كيسنجر» (حذف من قبل الرقابة العسكرية عشرين صفحة).
وبما أن الوثائق الإسرائيلية لا تُفصح عن سياسة أمريكا التي خُططت ونُفذت بالتنسيق مع الإسرائيليين فإنني أستسمح القارئ الكريم في الخروج عن تحقيقات أجرنات والاستعانة بالوثائق الأمريكية وبمذكرات هنري كيسنجر نفسه لشرح سياسة أمريكا في الشرق الأوسط (وقتها) كما رسمها كيسنجر وعبرعنها بحروفه وكلماته وألفاظه وبمعانيه ومبانيه في ذلك الوقت.
يمكن القول أن سياسة كيسنجر مرت بثلاث مراحل – مرحلة ما قبل حرب أكتوبر 1973 ، ومرحلة إدارة الحرب ، ومرحلة ما بعد الحرب فيما سمي بمفاوضات فض الاشتباك.
مرحلة ما قبل الحرب
كان كيسنجر يُلح منذ صيف 1970 على ضرورة الاعتماد على إسرائيل كحليف استراتيجي في المنطقة . ثم راح كيسنجر يوماً بعد يوماً يضع خطوط هذا التحالف ، وكانت لكيسنجر وجهة نظر متكاملة عرضها على الرئيس نيكسون مؤداها:
1- إن وزير الخارجية روجرز يورط الرئيس في أزمة لم تنضج بعد للحل.
2- إنهم يركزون اتصالاتهم على مصر والأوضاع فيها غير مستقرة ، فهي بكل الشواهد مقبلة على صراع سلطة (كان ذلك قبل حسم السادات للمشهد بعد 15 مايو 1971 ) .
3- إن معلومات كثيرة تشير إلى أسباب لسوء الفهم تتراكم بين العرب والاتحاد السوفيتي ، فالعرب يطلبون باستمرار مزيداً من الأسلحة والاتحاد السوفيتي لا يستطيع أن يجاريهم بسبب عدم اطمئنانه للأوضاع وبسبب عدم رغبته في صدام مع الولايات المتحدة.
4- إن أي تسوية تساعد الولايات المتحدة على تحقيقها لابد أن تقصد إلى توفير عنصرين:
· تقوية الدول التقليدية في العالم العربي (وليس الأنظمة الثورية).
· إخراج الاتحاد السوفيتي (تمهيداً لطرده من منطقة الشرق الأوسط تماما).
تعليق :
وذلك هو ما قاله الزعيم جمال عبد الناصر في آخر زيارة له للاتحاد السوفيتي وأمام الترويكا الحاكمة وقتها (برجنيف – بادجورنى – كوسيجين) «أن مستقبل الاتحاد السوفيتي كقوة عظمى في المنطقة مرهون هناك على جبهة السويس ، سواء اعترف القادة السوفييت بذلك رضاء أو كراهية».
عودة للسياق من جديد
5- إن الرئيس نيكسون قد طلب التمهيد لعقد قمة بينه وبين بريجنيف وهو يريد هذه القمة لأسباب داخلية وخارجية ، ومن المنطقي الاحتفاظ بأزمة الشرق الأوسط وبحثها في الإطار العالمي لها.
6- إن هناك ترابطاً linkage بين الأزمات ، (فقد نأخذ في أمة ونعطى في أزمة أخرى) وبالتالي فإنه من المستحسن الاحتفاظ بأزمة الشرق الأوسط (حيث موقف السوفييت حرج) والمقايضة عليها في أزمة فيتنام (حيث موقف الولايات المتحدة حرج).
7- إنه حتى في حالة توصل جهود وزارة الخارجية إلى تسوية ، فمن المشكوك فيه أن يستطيع السادات توقيع اتفاق وتنفيذه ، فهو «بهلوان سياسي» (نص تعبير كيسنجر في ذلك الوقت).
8- أنه وهذا مجمل الأحوال – فإن السياسة الأمثل والأسلم هي ترك العرب يغرقون في مشاكلهم ، وتقوية إسرائيل بحيث تقدر بتفوقها عليهم أن «ترغمهم على التوسل إلى الولايات المتحدة بطلب حل». وفى هذه الحالة فإن واشنطن تستطيع فرض سلامها في منطقة حيوية بالنسبة لها.
كانت تلك تقديرات كيسنجر لمرحلة ما قبل الحرب أو (حالة اللا سلم واللا حرب) كما كان يقال عنها وقتها ، وأما المرحلتين الأخريين سنتحدث عنهم في الجزء القادم.
وفى كل الأحوال لازالت الوثائق الإسرائيلية تفتح لنا أفاقاً جديدة في أبعاد الماضي المنظور ، لأن الماضي هو ابن الحاضر ، وهو جزء هام من عوامل خلق المستقبل والتحكم فيه والسيطرة عليه وتلك طبيعة الكون قبل أن يكون جزء من فلسفة مجرى التاريخ.