يقول المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي ” اذا غاب الفكر بزغ الصنم ”
في خمسينيات القرن الماضي ظهر هذا المصطلح ” المكارثية” وهو مصطلح فكري وثقافي وسياسي ليفرض نفسه اليوم بشكل قوي ، بسبب الازمات التي يختلط فيها حابل الوطنية بنابل السياسية وكل منهم يحاول ان يستخدم الاسلحة المتاحة والتي أقذرها سلاح ” التخوين ” لمجرد الاختلاف في الرؤيةالمتعلقة بالوطن وقضاياه المحورية كل حسب وجهة نظره.
ظهر مصطلح المكارثية في والولايات المتحدة الاميركية مع السناتور الاميركي ” جوزيف ريموند مكارثي” _1908-1957 الذي اتهم اكثر من مائتي موظف في الخارجية الاميركية انذاك بالعمل في الحزب الشيوعي ” المحظور” مستغلا اجواء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي في تلك الفترة .
والمكارثتي لا يحتاح الى ادلة يؤكد فيها الاتهام الذي يقوله بل ينشره على اساس حقيقة دامغة ، حيث تتلفق الجماهير المهيئة مسبقا لنقل كل اتهاماته على انها حقائق ، وتبدأ في مشاركتها #بالفعل المكارثي” تلقائيا لتثبت وطنيتها في سعار من التخوين الجماهيري.
و بعد عقود ظهرت الحقيقة وتجلى جهل الجماهير التي اكتشفت انها عاشت على كذبة دفع ثمنها ابرياء ورجال مخلصين لم يكونوا يروقون لذلك السياسي الفاسد فما كان منه إلا التخلص منهم بأبشع الطرق وأكثرها خبثا .
واذا كان التخوين ينتعش في بيئة الانظمة الشمولية ليشكل عملية تحريض سياسي ، بحكم انه يشكل فعليا احد ابرز اشكال تصفية الخصوم ، فهو كذلك حالة سلوكية مرضية قذرة تغيب النقاش الموضوعي الهادف بشكل اقصائي متعمد يفضي الى القتل الرمزي والسياسي الذي لا يؤمن اصحابه بالرأى الاخر عبر تجسيد الاقصائية وإلغاء الاخر .
ومن ما لا شك فيه ان ظاهرة التخوين هي فعل قذر سببه غياب الرؤية السياسية ، وأليات إدارة الخلاف والفهم العلمي لسياسات العمل السياسي .
التخوين هو ازمة اخلاقية تنم عن أفلاس وفقر سياسي عند اصحاب النزعة الشمولية الذين يحاولون تجاوز سيادة الشعب واحتكار دوره التاريخي في انتهازية مقيتة تخدم في الواقع مصالحهم الذاتية الصرفة والضيقة في محاولة للتغيب الاخر مع سبق الاصرار ، لذلك يسارع
مرضى السلوك الاناني والانتهازي الى اشهار سلاح التخوين لتحيد والنيل من كل من يقف امام مصالحهم او يهددها بأي شكل من الاشكال .
يقول الباحثون ان شيوع ظاهرة التخوين يكاد يتحول الى سمة فكرية مجمعية بالغة الخطورة . ويذهب بعض التحليل العلمي من خلال تشخيصه لهذه الظاهرة الى القول بأن من بين اسباب شيوع التخوين هو انتقال الاستقطاب السياسي من المجال العام الى الخاص و الى الاخص _ المرتبط بمشروع ضيق يحكم رابطة متخلفة ضيقة ( القبلية والمناطقية والامتهازية… يجعلها اسيرة لرؤية احادية متشككة في كل ما حولها ثم يبدأ مرض الشك والتخوين ينخر ذاتها المحكومة بموت محتوم ومحسوم .
كما يقول بعض الباحثين ان التخوين في الغالب يرتبط بالعمل السري بشكل عام بمختلف اشكاله ، فإذا ارتبط العمل السري بكفاح مسلح ضد محتل غازي واضح فإنه يكون حينئذ أقرب للعمل العسكري الذي لا يعرف سوى الانضباط وطاعة الاوامر ، وهو ابعد ما يكون الى العمل النضالي الذي يعرف اختلاف الرأي والمرونة ، لذلك فإن طبيعة العمل السري في غير وجود الحرب تفرز بشكل ألي مثل هذا المرض ، لغياب أليات المحاسبة العادلة لأي إتهامات وعدم وجود شفافية في القرارات التنظيمية والادارية هكذا تتولد اشكالية “التسلط/التمرد” ويستخدم سيف التخوين المسلط على الرقاب الغير مرغوب فيها_ لتصفية الحسابات والقتل السياسي والرمزي بمنطلق العقلية الاقصائية والانتقامية.
الخيانة ليست تهمة يمكن تجاوزها الخيانة هي ام الرذائل كلها . لهذا يمنع السكوت عن كل من أشهر سيف التخوين بوجه فئة أو شخص ما لم يكن له اثباتات أو قرائن او حجج دامغة تثبت اتهامه .
وبشكل منطقي وعقلاني حين نطرح اشكالية التخوين ، فأول ما يتبادر الى اذهاننا هو من المستفيد من هذا الفعل الشاذ والغير اخلاقي ؟
اذا قلنا بأن لغة التخوين بالاساس وانطلاقا من الاستنتاجات التي وصلنا اليها من خلال مقالنا هذا الذي تناولنا فيه هذه الظاهرة ، هي لغة تستخدم لأغراض انتهازية وتسقيط الخصوم . هي جرم يرتكب بحق المشروع الجامع للجماهير التي هي وبطبيعة الحال في غنى عن جريمة التفتيت والتجزيء والتحوير والاقصاء والتصفية الزمرية عبر القتل السياسي المقصود بقدر ما هي في وضع يجعلها بحاجة الى اللحمة وتجاوز الخلافات الضيقة والحسابات الفارغة المبنية على الذاتية والانتهازية والفردانية …
بالنهاية يقودنا التخوين _ الذي هو إتهام مجاني_ الى اسقاطات كارثية على العمل المشترك والقضاء عليه ونسفه واجتثاث منابعه والقضاء على وحدة الجماهير التي تصاب بنوع من الاكراه النفسي والتجني على معنوياتها وقتل روح الحماس فيها واستهداف احد اهم وابرز مكامن قوتها وصمودها المسند اساسا على روح العمل الجماعي الذي يقتضي جوا محصن عموده الفقري هو الثقة والوحدة .
هكذا تلتقي ايادي المُخَوّن وايادي العدو بل يلعب الاول دور متقدم من ادوار الثاني_ لم يكن يحلم العدو بالوصول إليها..- في القضاء على النفسية الجماهيرية التي من اعظم شروطها شرط الثقة .
واذا كانت الانتفاضة وما تشكل من حمولة سلوكية ونضالية تجسد ارقى مفاهم الوعي الانساني والحضاري ، و تشكل قاطرة النضج الجماهيري القائم على رقي تلك الشعارات فهو على الاقل في غني عن موجة التخوين والتكفير السياسي الغوغائية المجانية والانتقامية ، التي غرست في الظهر في لحظة ثورية تاريخية جسدتها الجماهير خنجرها المسموم والمحكوم بنية خبيثة قذرة لن ينساها المخيال الجماهيري _ الجماهير لا تنسى_ فنالت حظها من الجهد والعمل الجماهيري و شكلت صدمة كارثية شوشت على حماس الجماهير اين كان من المفرض ان تنتصر لها…
فهل حقا استفاد العدو من ذاك الفعل الرجعي والمتخلف ؟
الذي وضع الفعل الجماهيري على المحك لا للسبب غير ذلك السلوك الارعن الذي ينم عن شمولية وذاتية محكومة بخلفية مشبوهة ونزعة غير مفهومة تحاكي اجندة الاحتلال وتخدمه في نقاط متقدمة ما كان ليحلم بالوصول إليها ذات يوم . هكذا نالت النظرية المكارثية من الفعل الجماهيري الذي لا يزال يجني تأثيرها ويعاني أثارها الى اليوم.
اليوم يوم الحسم مع كل ذلك السلوك الارعن المشبوه ، على الاقل لإنقاذ ما يمكن انقاذه..
البينة على من ادعى ومن ادعى ولا بينة له وجب عليه المحاسبة فليس مقبولا الطعن بالمجان في شرف العباد انتقاما أو للتصفية حسابات ضيقة أو خدمة لأجندات مشبوهة.
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا