إقتصادالاحدث

“اقتصاد المناعة” المدخل لإنقاذ الاقتصاد الوطني | بقلم د. علي مغنية

يعيش العالم اليوم تحت وطأة أزمة حضارية وثقافية تشمل كافة جوانب الحياة، من السلوكيات الفردية إلى البنى المجتمعية، والتي تتعلق بأنماط التفكير وإشكاليات الانتماء للهوية والنموذج. تشمل هذه الأزمة، بشكل أعمق، الخلاف على ماهية النظريات الفكرية التي تساهم في صياغة الاستراتيجيات وبلورة عناصر الإيديولوجيات التي ترسم الرؤية الشمولية للواقع المعاصر في إقرار المعايير الإنسانية وتنظيم المجتمعات على أسس حضارية تؤمن لها الاستقرار والسلام.
فتحت هذه الأزمة أبواب الصراع بين الشعوب وأنظمة الدول على مفاهيم الهوية والانتماء للأرض، وأدت إلى نشوب حروب عالمية بين الدول، مما دفع بعض الشعوب إلى تبني فكرة “المناعة” في سبيل الدفاع عن السيادة والاستقرار ودرء مخاطر التهجير والإبادة والاحتلال.
من هذا المنطلق، نشأ حديثًا فكر “اقتصاد المناعة” كإجابة على تلك الصراعات التي ساهمت في إعادة تشكيل النظم الاجتماعية والاقتصادية، وأنتجت سياقات مجتمعية متعددة الأطر وغير متجانسة في تفاعلها مع الظروف والمستجدات. في ظل بروز قوى عالمية ذات طابع استعماري تسعى لفرض سياسات الهيمنة الاقتصادية على الدول الناشئة، ومنعها من تحقيق النمو والاكتفاء الذاتي، ودفعها نحو الهلاك أو الانهيار.
تقوم فكرة هذا الاقتصاد على مبدأ تحقيق الاكتفاء الذاتي بكافة أشكاله، وتكريس فكرة تحقيق المنفعة دون الاعتماد على الآخرين إلا الدول والأنظمة التي تشاركها في القيم ذاتها وأفكار التحرر واللا تبعية. وينبع قوته من قدرته على التكيف مع الظروف الطارئة والقهرية التي يفرضها الواقع الذي تغلب عليه سمة الخضوع القسري للقوى المهيمنة على مقدرات الشعوب وخياراتها.
تبرز أهمية هذا الاقتصاد وحتميته في ظل التحديات الإقليمية والعالمية، والحاجة إلى الاعتماد عليه في تحقيق الاستدامة، وتنويع مصادر الدخل القومي، وابتكار خطة وإدارة مالية مستقرة للدول التي تعاني من تبعات الصراعات، وتبني رؤى قومية وثقافات ترفض الحصار والهيمنة.
يهدف “اقتصاد المناعة” في فلسفته إلى دفع مكونات الدولة لخلق منظومة فكرية تعتمد على الحداثة والابتكار والتطوير العلمي والتكنولوجي، واستخدام كافة الطاقات والموارد الطبيعية المتاحة، والاستفادة من الكفاءات العلمية القادرة على التغيير وبناء اقتصاد معرفي وسلوكي يحارب الفساد والانحطاط الأخلاقي، ويدفع المجتمعات نحو الخروج من الظلامية والتبعية والتقدم نحو تحقيق السيادة الحقيقية ضمن إطار القوانين الدولية المعترف بها. ويطمح إلى استشراف مستقبل يعتمد على اقتصاد الإنتاج بدلاً من الاقتصاد الريعي.
كذلك يهدف هذا الاقتصاد إلى بناء موازين جديدة لقياس أداء القطاعات الحكومية والخاصة وتعزيز دورها في تحقيق النمو والاستثمار ومكافحة البطالة من خلال اعتماد الشفافية ومبادئ الحوكمة الإدارية في ظل مفاهيم أخلاقية تلتزم بالتعاون والمسؤولية بين السلطة والشعب على قاعدة الثقة والالتزام، مما يولد مجتمعًا متجانس الخيارات والمنهج.
في لبنان، وفي ظل الدولة الممزقة وظروفها السياسية والاقتصادية الراهنة والانقسام الحاد لدى شعبها حول الخيارات الاستراتيجية والمستقبل، يحاول البلد الخروج المنتظم والخجول من الأزمة المالية التي عصفت به مؤخرًا نتيجة للسياسات المالية والنقدية الكارثية التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة وحاكمية المصرف المركزي السابقة والمصارف الخاصة، ونتيجة أيضًا للفساد المستشري في كافة إدارات الدولة الحكومية في مختلف القطاعات. يشكل ذلك فرصة حقيقية كامنة لمفهوم “اقتصاد المناعة” للتسلل إلى عقل ووجدان المجتمع والاستثمار فيه.
يبقى السؤال الأهم هنا: هل يستطيع لبنان المتعدد ثقافيًا وطائفيًا معالجة أزمته الاقتصادية والمالية وتقليل المخاطر المستقبلية من خلال اتباع هذا النموذج الاقتصادي؟
هناك اعتقاد كبير لدى مجموعة من النخب العلمية والمفكرين بأن “اقتصاد المناعة” يمكن أن يعيد بلورة وتشكيل الاقتصاد الوطني ضمن قواعد ومعايير جديدة، ولكن يحتاج الأمر إلى قيادة واعية وإدارة نزيهة ونظافة الكف ونبذ الفساد، كما استطاعت دول أخرى في المنطقة والعالم، التي عانت من حصار اقتصادي ومالي، أن تخرج بسلام وتسير نحو مزيد من التقدم في مجالات عديدة. كذلك، يمكن للبنان، بفضل مناعته وتماسك شعبه، الخروج من بوتقة التخلف والانهيار الاقتصادي والمالي نحو فضاء النجاحات واللحاق بركب التطور والازدهار.
البيئة المقاومة للعدو بحاجة إلى بناء ثقافة مجتمعية مثالية تواكب الحداثة وتحاكي التربية الوطنية والأخلاق كي تبني النموذج السليم. هي بحاجة إلى استغلال فائض القوة لديها بتفعيل الموارد البشرية والمالية بشكل علمي ومهني وأخلاقي في مختلف المناطق الإدارية التابعة لها، وخاصة تحسين ادارة مرفق مطار بيروت الذي يقع ضمن دائرة نفوذها الأمني والجغرافي. يجب أن تعالج المشاكل المتعلقة بشبكات الطرق الواقعة ضمن نطاق سيطرتها، من حيث الإسفلت والإنارة والأرصفة والإشارات المرورية. كذلك، يجب تفعيل المشاريع الإنمائية في مناطق الضاحية الجنوبية لبيروت، والجنوب، والبقاع، والاهتمام بتشييد المستشفيات الحديثة والمتطورة كضرورة حتمية للصمود.
ملف الكهرباء واستجرار الموارد النفطية لتوليد الطاقة بحاجة ماسة للاهتمام الاستثنائي من قبل قيادات البيئة المقاومة للعدو، وذلك لتعزيز الصمود في المناطق الجنوبية التي تعاني مرارة الاعتداءات الإسرائيلية.
هناك من يحيل هذا الاهتمام وتلك التحديات للحكومة ولدورها الوطني، لكن من يعرف طبيعة النظام السياسي في لبنان ودولته العميقة يدرك أن ذلك ليس ممكنًا في ظل منطق الأحزاب والمحسوبيات والانقسامات السياسية التي تعرقل مسار التنمية المستدامة والإنجاز وتشكل نقطة ضعف في بنية النظام، حيث يسود الفساد في أغلب مرافق الدولة ويغلب الطابع الكيدي كافة سلوكيات أهل السلطة مما يعرقل أي مجهود نحو الإصلاح والبناء وتحقيق أهداف الخطط الحكومية.
الاعتماد على الإنتاج الوطني وتخفيف الاستيراد للمنتج الأجنبي هو في صلب وجوهر اعتماد فكر “اقتصاد المناعة”، خاصة في قطاعات التجزئة الاستهلاكية والزراعة والملابس، أو على الأقل العمل على خلق شبكة تجارية مع الدول والأنظمة التي تؤمن بنفس الخيارات القومية.
الضغط الشعبي والنقابي نحو اعتماد العملة الوطنية في التسعير والتبادل التجاري هدف هام جدًا للتقليل من قوة الدولار ورفع قيمة الليرة مقابله، وهذا أيضًا من صلب فكر هذا النوع من الاقتصاد.
تفعيل دور القضاء واحترام سلطة القانون وتفعيل التشريعات التي تكافح الفساد له دور كبير في بسط نفوذ هذا الاقتصاد على نحو يعيد هيبة الدولة ويمكنها من تبني مفاعيله وبالتالي الدفع نحو اعتماده كنموذج مثالي لرسم السياسات الاقتصادية ومنافسة الاقتصاد الكلاسيكي أو الكينزي المتبع لدى أغلب الدول ذات الأنظمة الحرة.
إن التصور المستقبلي لاقتصاد المناعة في لبنان يكمن في مقاربته للحقائق الواقعية وقدرته على تحويل نقاط الضعف إلى قوة، وتحويل التهديد إلى فرصة من خلال التخطيط الاستراتيجي والتكتيكي ومحاكاة الإمكانيات المالية والنوعية التي تمتلكها البيئة المقاومة للعدو، والتي تمكنت من الاستفادة من اقتصاد الكاش على حساب اقتصاد التوفير الذي اندثر بسقوط قناع القطاع المصرفي الكاذب الذي سرق ودائع وحقوق الشعب اللبناني طيلة السنوات الماضية، مما شكل حافزًا لاستحداث نماذج علمية بديلة.
هذه القضايا الحساسة، إلى جانب قضية الاحتلال الإسرائيلي واعتداءاته المستمرة على الوطن وموارده، تشكلان القطب الذي يدور حوله مفهوم “اقتصاد المناعة”، الذي يحمي ويحترم القوانين وحقوق بيئته وشعبه ومن يعتمد عليه، والذي سيكون الرافعة الصلبة والمنصة الراسخة للنهوض بلبنان نحو الاستقرار والازدهار والانتصار الحتمي في معركة الكرامة والعزة والاستقلال وبناء الحضارات.
**نقد للتحديات الإدارية والتنموية**
تشهد بعض المناطق اللبنانية التي تُعرف بولائها لبعض الأحزاب والتيارات السياسية تحديات متزايدة فيما يتعلق بالإدارة والتنمية. ورغم الإمكانيات المتاحة، تعاني هذه المناطق من بعض مظاهر الإهمال والفساد الإداري، مما يعيق تحقيق التنمية المستدامة وتحسين جودة الحياة للسكان.
من أبرز هذه التحديات سوء حالة البنية التحتية، حيث تحتاج شبكات الطرق إلى صيانة مستمرة، سواء من حيث جودة الإسفلت أو الإنارة العامة أو تنظيم الأرصفة والإشارات المرورية. كما أن مشروعات التنمية المحلية، مثل بناء المستشفيات وتحسين الخدمات الصحية والتعليمية، ما زالت بحاجة إلى مزيد من الجهود والتخطيط الفعّال لتلبية احتياجات السكان.

الدكتور علي احمد مغنية كاتب متخصص باستراتيجية الاعمال

باحث في الشؤون الإدارية واستراتيجيات الاعمال، حائز على بكالورويس ادراة اعمال من جامعة وستمنستر لندن وعلى ماجيستير ادارة اعمال من جامعة ماستريخت الهولندية ودرجة الدكتوراه في ادارة الاعمال من الاكاديمية السويسرية للأعمال. خبير استشاري في شؤون وادارة الشركات والصحة العامة والسياسات الادارية الصحية. مطور عقاري ورجل اعمال في مجال التجهيز الفندقي والضيافة، يعمل بين لبنان والدول العربية وخاصة دول الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى