إقتصادالاحدث

الحَربُ في غزة تَقصُمُ ظَهرَ الاقتصادِ الإسرائيلي | بقلم غابي طبراني

من الفوارقِ العديدة بينَ حَربِ إسرائيل الحالية ضدّ حركة “حماس” في غزة والحروبِ الأُخرى التي خاضتها في العقود القليلة الماضية، هناكَ جانبٌ واحدٌ لم يَحظَ بالقدرِ الكافي من الاهتمام: التأثير الاقتصادي. كانت لحروبِ إسرائيل السابقة تداعياتٌ اقتصادية محدودة، ويرجع ذلك جُزئيًا إلى قُصرِ مُدّتها. وعلى النقيضِ من ذلك، فإنَّ الصراعَ الحالي ضدّ “حماس” يَعِدُ بأن يكونَ حملةً أطول أمدًا من شأنها أن تؤثِّرَ في شريحةٍ أكبر من السكان الإسرائيليين، وتُعَطِّلَ سلاسلَ التوريد إلى درجةٍ أكبر بكثير.

الواقع أنَّ الاقتصادَ الإسرائيلي دخلَ الحربَ في حالةٍ جيدة نسبيًا من حيث مرونته وقوّته. فقد سجّلَ معدّلاتَ نموٍّ سنوية مُرتَفِعة، وإن كانت مُتراجِعة، بمتوسّط 3.9 في المئة منذ العام 2000. وتوقع صندوق النقد الدولي نموًّا لعام 2023 بنسبة 3.1 في المئة، يرتفع إلى 3.6 في المئة بحلول العام 2026. وقد أعطى هذا التوسّع المستمر إسرائيل واحدًا من أعلى المعدّلات لنصيب دخل الفرد في الشرق الأوسط، ما وضعها على قدم المساواة تقريبًا مع إسبانيا وإيطاليا.

بالإضافة إلى ذلك، كانت المقاييس المالية لإسرائيل قوية قبل الحرب، مع وجودِ فائضٍ في الموازنة والحساب الجاري، وانخفاض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في العام 2022. وقبل بدء الحرب، كان لدى بنك إسرائيل المركزي 200 مليار دولار من الإحتياطات من النقد الأجنبي أو ما يعادل قيمة واردات سنة. في تقريرٍ صدرَ في حزيران (يونيو) 2023، وصف صندوق النقد الدولي القطاع المصرفي الإسرائيلي بأنه “قويٌّ على نطاق واسع” مع القليل من الاهتمام بأيِّ مخاطر نظامية ناجمة عن هذه الصناعة.

ينبعُ نجاحُ الاقتصاد الإسرائيلي من عوامل عدة حاسمة، أهمها بيئة الحَوكَمة والأعمال التي تبرز في المنطقة، والتي ساعدت إسرائيل على تطويرِ اقتصادٍ مُتنوِّع مع العديد من الشركات الناشئة. لقد استثمرت الدولة العبرية بكثافة في التعليم، وتُنفِقُ معظم ناتجها المحلي الإجمالي على الأبحاث والتطوير المدني أكثر من أيِّ دولةٍ أخرى. ومَكّنت قوّتها العاملة ذات المهارات العالية البلاد من جذب رؤوس أموال كبيرة من الاستثمار الأجنبي المباشر إلى قطاعات النمو، مثل تكنولوجيا المعلومات والأدوية، ما جعل إسرائيل مركز التكنولوجيا في الشرق الأوسط.

ومع ذلك، حتى قبل الحرب بين إسرائيل و”حماس”، كان الإصلاح القضائي الذي اقترحته حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد كبّدَ البلاد بالفعل بعض التكاليف الاقتصادية. لقد أعربت وكالات تصنيف الائتمان الرائدة عن قلقها من أن الإصلاحات القضائية من شأنها أن تزيدَ من تقويض التصنيف المؤسّسي الضعيف نسبيًا لإسرائيل وتخلق انقسامات سياسية عميقة ودائمة، بسبب حركة الاحتجاجات الضخمة والمُطَوَّلة التي اندلعت بسببها. كما كان المستثمرون الأجانب بدورهم يشعرون بالقلق المتزايد بشأن آفاق البلاد ويؤخّرون استثماراتهم. ولكن، في النهاية، لم تتحرّك سوى وكالة “موديز”، حيث خفّضت النظرة المستقبلية لإسرائيل من “إيجابية” إلى “مستقرة” في نيسان (أبريل) 2023.

وعلى النقيض من ذلك، من المُتَوَقَّع أن يكونَ تأثيرُ حرب غزة أكثر أهمية وأطول أمدًا. في أعقابِ هجوم “حماس” غير المسبوق على إسرائيل في 7 نيسان (أكتوبر)، تمَّ إخلاء مناطق كبيرة في جنوب إسرائيل على الحدود مع غزة وفي شمالها على الحدود مع لبنان بسبب إطلاق الصواريخ المستمر من “حماس” و”حزب الله” على التوالي. وأدّى الهجوم أيضًا إلى إغلاق المدارس ومحلات البيع بالتجزئة غير الضرورية في جميع أنحاء البلاد، مع تخفيف القيود الأخيرة بشكل تدريجي فقط.

كانَ هناكَ تأثيرٌ مباشر آخر على توافُرِ العمالة. لقد أجبر القتال في غزة، والتوتّرات مع “حزب الله” على الحدود مع لبنان، إسرائيل على حشد حوالي 360 ألف جندي احتياطي، وهو ما يمثل حوالي 8% من القوة العاملة في البلاد، لفترةٍ غير مُحَدَّدة. ومنعت السلطات الإسرائيلية أيضًا حوالي 110,000 فلسطيني من الضفة الغربية و18,500 من سكان غزة الذين يحملون تصاريح عمل من عبور الحدود لأسبابٍ أمنية. وبعد أن قتلت “حماس” بعض العمال التايلانديين في الهجوم الأوّلي في 7 تشرين الأول (أكتوبر) واحتجزت العشرات من العمال الآخرين كرهائن، غادر جميع الباقين تقريبًا البلاد. وبالمثل، عاد العديد من العمال الأجانب من بلدان أخرى إلى بلادهم، ومن غير الواضح عدد الذين سيعودون قبل النهاية الدائمة للقتال.

لقد أثّرَ نقصُ العمالة بسبب الحرب في جميع القطاعات المُهمّة في الاقتصاد الإسرائيلي تقريبًا. تعرّضت الزراعة، وخصوصًا في الجنوب، لخسائر فادحة في المحاصيل نتيجةً لخسارة ما يصل إلى 40 ألف عامل فلسطيني وأجنبي.

كما أثّرَت التعبئة الحربية في صناعات التكنولوجيا الفائقة الديناميكية في إسرائيل، والتي قادت نمو الاقتصاد لعقودٍ عدة، وتُمثّلُ الآن 14% من الوظائف وما يقرب من خمس الناتج المحلي الإجمالي. ويجذب هذا القطاع أيضًا استثمارات أجنبية كبيرة ويُشَكّلُ مَصدَرًا رئيسًا للصادرات. ومع ذلك، عانت صناعات التكنولوجيا الفائقة أكثر من غيرها، مع استدعاء نسبة غير متناسبة من القوى العاملة فيها، ومعظمها من الشباب والرجال، إلى الخدمة الاحتياطية. وذكرت إحدى الشركات، وهي شركة “مَجيك سوفتوير” (Magic Software)، أنَّ 14% من موظفيها يخدمون حاليًا في الجيش.

وحتى قبل الحرب، كانت هناك دلائل تشيرُ إلى أنَّ العديدَ من شركات التكنولوجيا الفائقة وموظفيها المُتَعِلّمين وخبرائها كانوا يغادرون بعيدًا من إسرائيل. وقد يزداد هذا الاتجاه بسبب الانخفاض المُرتبط بالحرب في المبيعات المحلية وزيادة عدم اليقين بشأن التوقعات المستقبلية. وإذا تبيّنَ أنَّ الأمرَ كذلك، فستكون النتيجة تآكلًا حادًا في الخبرة الإسرائيلية، ما يجعل الصناعات التكنولوجية في البلاد أقل جاذبية للمستثمرين. وبما أن قطاع التكنولوجيا الفائقة هو الصناعة الأكثر إنتاجية في إسرائيل إلى حدٍّ بعيد، فإنَّ تباطؤه سيؤثّر بشكلٍ كبير في النمو الاقتصادي العام.

من ناحيةٍ أخرى، تراجع انشغال إسرائيل التاريخي بأمن الطاقة، الناشئ عن الافتقار إلى الموارد المحلية والترابط عبر الحدود، منذ اكتشاف احتياطات الغاز الطبيعي البحرية في الفترة 2009-2010. ومع ذلك، فرضت الحرب إغلاقًا احترازيًا لمدة خمسة أسابيع في حقل غاز “تمار” –المصدر الرئيس لمواد توليد الطاقة المحلية وكذلك للصادرات إلى مصر- والذي يقع بالقرب من ساحل غزة. وعادت صادرات الغاز إلى مستوياتها الطبيعية بعد إعادة فتح حقل “تمار” في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر). ومع ذلك، فإنَّ المستثمرين الأجانب اللازمين لمزيد من تطوير الغاز قد يلتزمون بأموال كبيرة فقط عند ظهور عملية سلام في الأفق.

ولم يتعافَ قطاعُ السياحة في إسرائيل، الذي يُمثّلُ حوالي 2.8% من الناتج المحلي الإجمالي وحوالي 3.5% من إجمالي العمالة، بشكلٍ كامل من انخفاض الأعمال الذي عرفه في فترة وباء “كوفيد-19”. والحربُ في غزة لن تُحسِّنَ الأمور. لقد أوقفت جميع شركات الطيران الدولية تقريبًا رحلاتها إلى إسرائيل بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، على الرُغم من أنَّ بعضها يعود تدريجًا إلى عملياته الطبيعية. ومن المفارقات أنَّ صناعة الضيافة كانت أقل تأثّرًا، لأنَّ الحكومة الإسرائيلية قامت بإيواء العديد من الأشخاص الذين تمَّ إجلاؤهم من الحدود مع غزة ولبنان في الفنادق. ورُغمَ أنَّ الحربَ بدأت في نهاية موسم الذروة السياحي، فمن المُحتَمَل أن تثبط عزيمة أولئك الذين خططوا للزيارات خلال عطلة عيدي الميلاد ورأس السنة الجديدة. ويتعرّض موسم الصيف أيضًا للخطر نظرًا لأنَّ المخاوفَ الأمنية السياحية عادةً ما تستمر لبعضِ الوقت بعد انتهاء النزاع.

قبل الحرب، واجهت سوق الإسكان الإسرائيلية ارتفاع أسعار الفائدة، وهبوط الأسعار، وانخفاض المبيعات. وقد أدّت الحرب إلى تفاقم هذه الاتجاهات. تَرَكَ بنك إسرائيل المركزي سعر الفائدة الرئيس من دون تغيير عند 4.75 في المئة بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، ويرجَعُ ذلك جُزئيًا إلى استقرار سعر الصرف. لكنَّ أسعارَ الفائدة المُرتفعة وحالة عدم اليقين الناجمة عن الحرب أدّتا إلى انخفاضٍ حاد في القروض العقارية الجديدة ومبيعات المساكن. كما إنَّ الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة والعمال الأجانب يشكلون حوالي ثلث القوة العاملة في صناعة البناء. ومع ذلك، كما ذكرنا سابقًا، لا يستطيع معظم هؤلاء الدخول إلى إسرائيل وغالبية العمال الأجانب غادرت البلاد.

في المدى القصير، سمحت أساسيات الاقتصاد الكُلّي القوية في إسرائيل والوضع المالي الذي يُمكن التحكّم فيه للحكومة بزيادة الإنفاق لتحقيق استقرار الاقتصاد. ومع ذلك، من المتوقع حدوث انكماشٍ حاد بنحو 11% في الربع الأخير من العام 2023، حيث خفّضت وكالات التصنيف الدولية الثلاث الكبرى النظرة المستقبلية لإسرائيل إلى سلبية خلال تشرين الأول (أكتوبر).

تعافى الاقتصاد الإسرائيلي بسرعة من الحروب القصيرة السابقة التي خاضتها البلاد، لكن هذا الصراع يتجاوزها بالفعل من حيث المدة، ونقص العمالة والموظفين، وتعطّل سلسلة التوريد. علاوة على ذلك، تبلغ التكلفة المباشرة للحرب حوالي 246 مليون دولار يوميًا. وإذا افترضنا أنَّ القتالَ يقتصر على غزة ويستمر لمدة عام واحد، وأن 150 ألفًا من جنود الاحتياط سيتم تسريحهم في وقت قريب نسبيًا، فإنَّ تكاليفَ الحرب سوف تصل إلى 51 مليار دولار. ومن المرجح أيضًا أن يظل الإنفاق الدفاعي مرتفعًا في المديين المتوسط إلى الطويل، مع ما يترتب على ذلك من آثار على الاقتصاد وقدرة الحكومة على تخصيص الموارد للإنفاق الاجتماعي.

ورُغمَ أنَّ أهدافَ إسرائيل المُعلَنة من الحرب تتلخّص في سحق “حماس” عسكريًا وإزالتها من غزة وعودة كل الرهائن، إلّا أنَّ هناك شكوكًا جدية حول إمكانية تحقيق الهدف الأول، حتى بعد فترة طويلة من الصراع. وحتى إذا نجحت إسرائيل في تحقيق أهدافها، فقد ينتهي بها الأمر إلى تحمل مسؤولية توفير الخدمات والأمن في غزة، الأمر الذي سيُشَكّلُ عبئًا إضافيًا على اقتصادها.

وبالتالي، فإنَّ العاملَ الحاسم في تحديد الأثر الاقتصادي طويل المدى للحرب هو ما إذا كانت ستؤدي إلى اتفاقِ سلام بين إسرائيل والفلسطينيين. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فسوف يستمر الاقتصاد الإسرائيلي في المُعاناة من انخفاض الاستثمار وتباطؤ النمو الاقتصادي والإنتاجي بسبب هجرة الأدمغة وخسارة شركات التكنولوجيا الفائقة لصالح بلدان أخرى، فضلًا عن النقص الحاد في العمالة في قطاعاتٍ مثل البناء والزراعة.

إن التداعيات واضحة. فلأول مرة، تحتاج إسرائيل إلى الفوائد الاقتصادية الكبيرة التي يُقدّمها حلّ الدولتين في شكل زيادة القدرة على الوصول إلى العمالة التي ستكون بالغة الأهمية لتحقيق انتعاشها الاقتصادي. والبديل هو حربٌ أبدية لا تستطيع إسرائيل تحمّل تكاليف خوضها.

غابريال طبراني، كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن

غبريال طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى