إقتصادالاحدث

الخَطَرُ الأكبَرُ الذي يُواجِهُ البشرية والذي سيُشَكِّلُ السياسةَ الدوليّة | بقلم غابي طبراني

القضيّةُ الأكبر التي تُواجِهُ العالم اليوم ليست الحروب في أوكرانيا أو غزة أو لبنان، ولا احتمالات اندلاعِ حَربِ القوى العُظمى في بحر الصين الجنوبي. تَغَيُّرُ المناخِ والأمن الغذائي يُعتَبَران أيضًا من المخاوف الخطيرة ويخشى الكثيرون من أن يؤدّي التقدُّمُ التكنولوجي، وخصوصًا التطوّرات في الذكاء الاصطناعي، إلى تغييرِ مُستَقبَلِ العمل والعمّال. لكن حتى هذه ليست القضايا الرئيسة التي ستُشَكّلُ السياسة الدولية في المستقبل. بدلًا من ذلك، فإنَّ أكبرَ قَضيّةٍ تواجِهُ البشريةَ هي سُكّانها – سواءَ احتمالِ تَقَلُّصِ عددِ السُكّانِ تدريجًا، أو الطُرُق التي ستؤثِّرُ بها التحوّلاتُ السُكّانية داخل البلدانِ والمناطقِ في السياسةِ الدولية.

بلغَ عَدَدُ سُكّان العالم 8 مليارات نسمة في العام 2022، وتتوقّعُ الأُمَمُ المتحدة أن يصلَ إلى 9.7 مليارات في العام 2050، حيثُ سيُسَجَّلُ نصفُ الزيادة في 9 بلدانٍ بينها دولة عربية واحدة هي مصر، وأن ييلُغَ الذروة بعد العام 2080 عندما يزيد قليلًا عن 10 مليارات نسمة. وعند هذه النقطة، منَ المُتَوَقَّعِ أن يَتغيَّرَ هذا الاتجاه وأن يَنعَكِس. في حين أنَّ التوقّعاتَ الدقيقةَ تُمثّلُ تحدّيًا دائمًا، فإنَّ الأدلّةَ المُتاحَةَ تُشيرُ إلى تباطُؤِ النموِّ السكاني ثم تحوّلهِ في النهاية إلى نموٍّ سلبي. سوف يتقلَّصُ عددُ سكّان العالم، على الأرجح قبل نهاية هذا القرن.

إنَّ سببَ هذا الانخفاض المُتَوَقَّع ليس حَدَثًا وجودِيًا، مثل حربٍ نووية أو فيروسٍ خارقٍ يقتل شرائح كبيرة من البشرية. بدلًا من ذلك، فإنَّ سببَ الانخفاض المُتَوَقَّع في عددِ السكان هو أكثر تفاهة: البشر ببساطة لم يَعُدوا يُنجِبون العديدَ من الأطفال. مع انخفاضِ مُعدّلاتِ الخصوبة في أجزاءٍ كثيرة من العالم إلى ما دون المُعدَّلِ المطلوبِ لاستبدالِ السُكّان الحاليين، والذي يتم تحديده عادةً عند 2.1 طفلين لكلّ شخصٍ قادرٍ على الإنجاب، فإنَّ عددَ سكان العالم سوف يبدأ الإنخفاض. وحتى في البلدان والمناطق التي تتمتّعُ حاليًا بمُعدّلاتِ خصوبة مرتفعة، فإنَّ هذه المعدّلات أقلُّ مما كانت عليه في الماضي.

لقرونٍ عديدة، كان كثيرون يشعرون بالقلق إزاء “الفخ المالتوسي” (أو فخ تعداد السكان)، حيث تتجاوزُ الزيادات السُكّانية العالمية المواردَ المُتاحة، ما يؤدّي إلى مجاعةٍ جماعية. على الرُغمِ من أنَّ الباحث السكاني والإقتصادي السياسي الإنكليزي توماس مالتوس كتبَ عن ذلك في أواخر القرن الثامن عشر، فإنَّ المخاوفَ بشأن الاكتظاظ السكّاني استمرّت في الظهور حتى القرن العشرين. لكنَّ القلقَ الآن هو من إنخفاضِ عددِ السكّان. وكما كتب المؤرّخ الاسكتلندي-الأميركي نيال فيرغسون في تأمّلاته الأخيرة حول هذا الموضوع، فرُغمَ أنَّ “رؤى انقراضِ الإنسانِ يَصعُبُ استيعابها”، فإنَّ واقعَ مُعدّلات الخصوبة العالمية الحالية يعني أنَّ “الانقراضَ آتٍ. وليس هناكَ ما يُمكِننا القيامَ به لوَقفِ ذلك”. والملياردير الأميركي مالك منصّة “إِكس” إيلون ماسك، المعروف بمخاوفهِ من أنَّ الذكاءَ الاصطناعي العام يُمكِنُ أن يؤدّي إلى انقراضِ الإنسان وأنَّ تغَيُّرَ المناخِ يُمثّلُ مشكلةً كبيرة، يرى أنَّ الانهيارَ السُكّاني بسببِ انخفاضِ معدّلاتِ المواليد يُمثّلُ خطرًا أكبر.

على الرُغمِ من هذه المخاوف، ليسَ من المؤكّدِ أن يَحدُثَ إنخفاضٌ في عددِ السكان بالفعل. وعلى الرُغمِ من أنَّ علماء الديموغرافيا التابعين للأمم المتحدة قد وضعوا توقُّعاتٍ دقيقةٍ إلى حدٍّ ما في المدى القصير للاتجاهات السُكّانية العالمية، فإنَّ موثوقيةَ هذه التوقّعات تنهارُ على مدى فتراتٍ زمنيةٍ أطول. هذه هي ببساطة طبيعة التوقّعات.

والأهمُّ من ذلك، أنَّ الكثيرَ يُمكنُ أن يَتَغَيَّرَ على مستوى العالم خلال العقود العديدة المقبلة، مما قد يُغَيِّرُ الاتجاهَ المُتَوَقَّع. على سبيل المثال، إذا أدّى التقدُّمُ في مجال الذكاء الاصطناعي إلى تحسينِ سُبُلِ العيش وزيادة وقت الفراغ لدى البشر، فمنَ المُمكِنِ أن يختارَ الناسُ تربيةَ المزيد من الأطفال مع هذا الوقتِ الإضافي. ربما ليسَ بالعددِ الذي كان عليه في الماضي البعيد، ولكنه كافٍ للحفاظ على مُعَدّلِ استبدالِ السكان. بعبارةٍ أخرى، مثلما يُمكِنُ لسكّان المدن أن ينتعشوا بعد سنواتٍ من الانكماش، كذلك يُمكِنُ لسكّان الدول أن ينتعشوا.

لكن حتى لو لم يكن المرءُ مُهتَمًا بالانخفاض العالمي في عددِ السكان، فإنَّ التغيُّرات السُكّانية لا تزالُ مُهمّةً للغاية. وعلى وجه التحديد، فإنَّ عددَ السكان في بعض المناطق آخذٌ في الانخفاض بينما يتزايد عدد السكان في مناطق أخرى. هناكَ مناطقٌ في العالم تشهدُ ازدهارًا سكانيًا، حيث من المتوقع أن يتجاوز النمو السكاني للعام الحالي 2 أو 3 أو حتى 4 في المئة. لكن معدّلات النمو المُرتَفِعة هذه ليست مُوَزَّعةً بالتساوي في جميع أنحاء العالم. يتزايد عدد سكان العديد من الدول في أفريقيا بسرعةٍ اليوم، ومن المتوقَّع أن يبقى الأمر كذلك في المستقبل. لكن بلدان شرق آسيا تواجه انهيارًا سكانيًا مُحتَمَلًا خلال هذا القرن، كما هو الحال في أوروبا.

وهذا أمرٌ مُهِمٌّ لأنَّه في السياسة الدولية السُكّان هم القدر. لقد كَتَبَ الخبيرُ السياسي البارز وباحثُ العلاقات الدولية روبرت غيلبين في كتابه الكلاسيكي “الحرب والتغيير في النظام الدولي” أنَّ “التحوّلَ السُكّاني قد يكونُ السببَ الأكثر أهمّية للتغييرِ السياسي في المدى الطويل”. ويُعد حجمُ السُكّان عنصرًا حاسمًا في كيفيةِ قياسِ خبراء العلاقات الدولية للقوّة المادية للدول، حيث أنه يُتَرجَمُ إلى براعةٍ إقتصادية وقوّة عسكرية على حَدٍّ سواء.

ليسَ هناكَ شكٌّ في أنَّ هذه التغيّرات الديموغرافية ستكونُ المُحَرّكَ الرئيس للمنافسة العالمية على مدى القرن المقبل وما بعده. ولنتأمل هنا الدولَ الثلاث التي تُعتَبَرُ دولًا عُظمى ــالولايات المتحدة، الصين، وروسياــ فهي تواجه جميعها قضايا سكانية. فقد انخفضَ عددُ سكّانِ الصين لمدة عامين مُتتاليين، ومن المتوقّعِ أن ينخفضَ ​​إجمالي عدد سكانها بما يزيد على 100 مليون نسمة بحلول منتصف القرن. كما انخفضَ عددُ سكان روسيا منذ منتصف التسعينيات الفائتة، ومن المتوقع أن ينخفِضَ ​​​​أكثر.

بالنسبةِ إلى الولايات المتحدة، الوَضعُ مُختلِفٌ بعض الشيء. على النقيضِ من الصين وروسيا، استمرَّ عدد سكانها في الارتفاع. لكن هذا الارتفاع مدفوعٌ إلى حدٍّ كبيرٍ بتدفُّقات الهجرة. وهذه التدفّقات مُعَرَّضةٌ للخطر لأنَّ الهجرة باتت قضيّة سياسية ساخنة، والولايات المتحدة لديها نظامُ هجرةٍ غير فعّال إلى حدٍّ كبير. إن أبسط طريقة لأميركا “للفوز” في منافسة القوى العظمى مع الدول المنافسة الحالية والمستقبلية هي أن تفعلَ كلّ ما في وسعها لتشجيع الهجرة. كانت الهجرة سببًا رئيسًا لصعود الولايات المتحدة إلى قوة عالمية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. إنَّ تبنّي شعار “أمة المهاجرين” هو أفضل وسيلة للولايات المتحدة للحفاظ على هذا الوضع.

وإذا استمرّت الاتجاهاتُ السكانية العالمية في التفاوت، فإنَّ الدولَ المفتوحة أمام الهجرة ستكونُ في وَضعٍ أفضل للاستفادة من هذه الاتجاهات. ولن تكونَ جميعُ الدولِ مُنفتِحة على تلك السياسات. إنَّ الافتقارَ إلى الانفتاحِ على الهجرة هو السببُ الذي دَفعَ الرئيس جو بايدن إلى انتقاد اليابان، حليفة الولايات المتحدة، لكونها مُعادية للأجانب قبل بضعة أسابيع. وتتماشى الدول الأخرى مع مشاعر “صراع الحضارات”، حيث تنظر إلى الناس من الثقافات الأخرى باعتبارهم تهديدًا لأسلوب حياتهم الراسخ.

ليسَ من الواضح بالضبط كيف سيتطوّرُ حجمُ وتركيبةُ البشرية خلال الفترة المُتَبقّية من هذا القرن. ولكن من المؤكّدِ أنَّ الاتجاهاتَ الحالية في عددِ سكان العالم ستُشَكّلُ بشكلٍ كبير السياسة الدولية في المستقبل.

غابريال طبراني، كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن

غبريال طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى