إقتصادالاحدث

المنطقة العربية وتحدي “حروب الانتباه” | بقلم د. خالد ميار الادريسي

لقد كان يُراد بالحرب قديمًا وحديثًا، المواجهة العسكرية بين مجموعتين أو عدّة مجموعات بشرية، إمّا بين قبائل أو إمارات أو إمبراطوريات أو دول حديثة. فالحرب هي عنف منظّم وفق مناهج وأساليب عسكرية، تطوّرت بسبب التكنولوجيا وعلوم داعمة لفهم الأعداء وبيئة الحرب وأنماطها. وكان ولا زال الغرض من الحرب هو إخضاع الآخر وإرغامه على قبول شروط المنتصر أو استعباده أو حتى إبادته من أجل الاستلاء على أرضه وثرواته وتشويه ثقافته وهويته.

لكن الحروب ما بعد الحديثة، لم تعد محصورة في صراعات جيواستراتيجية مكشوفة للعيان وحسب، كما لم تعد منحصرة في أطراف تقليدية مثل الدول، بل أصبحت أبعد من ذلك، بحيث أصبحنا إزاء حروب غير متماثلة (Asymmetric)، موازاةً مع حروب نفسية تروم تقويض نفسية الشعوب وإذلالها وإيهامها بأنّها عاجزة وفاشلة، وحروب جيواقتصادية كذلك، تعتمد جلّ الأساليب والطرق والمناهج للاستحواذ على الموارد الطبيعية وسرقة الاختراعات واستمالة الأدمغة. لكن اليوم هناك حرب عالمية جديدة، موضوعها جديد بشكل كلي، فهي حرب تروم وتستهدف الانتباه!

تتوخّى هذه النوعية من الحروب، الحصول على عملة نادرة وذات قيمة كبيرة يُصطلح عليها بـ”عملة الانتباه”، أو ذلك النشاط الذهني البشري الذي يقوم على التركيز في شيء مُعيّن أو التّوجه بالانتباه الكلّي نحو أمر ما سواء كان خطابًا أو صورًا أو حدثًا أو منتوجًا أو مذهبًا أو غير ذلك.

إنّ مجال النشاط الذهني هنا هو بالأساس محاولة إدراك للواقع بشكل يومي وفوري ودائم، ولذلك فإنّ الانتباه، هو جزء مهم من عملية فهم وتمثّل مقتضيات العيش الدائم، كما أنّ الانتباه ليس عملية ذهنية مرتبطة بالنشاط الفكري أو الاشتغال العقلي المحض فقط، وإنّما كذلك نشاط وجداني وانصراف الحواس والاهتمام بأمر ما.

يعاني كثير من الناس وخصوصًا أطفال اليوم من تشتّت الانتباه في الفصول الدراسية بسبب تعدّد الاهتمامات وقلّة التركيز في التحصيل المعرفي أو لدواعي نفسية متعددة أو اختلال في الوظائف الفيسيولوجية.

وكما هو معلوم، فقد اهتم كثير من العلماء في تخصّصات متعدّدة ومنها علم النّفس بعملية الإدراك وشروط تحقّقه وطرق تنميته وتقويته، وقد ابتكر علماء علم النفس المعرفي، وكذلك علم النّفس التربوي عدّة مفاهيم، حول الانتباه ومن ذلك، الانتباه الانتقائي والانتباه المتواصل، والإدراك الهادف وشبكات الانتباه وجوانب الانتباه وغير ذلك من المفاهيم التي تصف وتشخّص عمليات الانتباه ووظائفه والمحافظة عليه وفقدانه.

يُعتبر إيف سيتون المهتم بالفلسفة السياسية من الباحثين الذين أشاروا إلى ضرورة الاهتمام بمحدّد “الانتباه” في المجال السياسي، واتّضح ذلك جليًا بعد إصداره لدراستين في غضون سنة 2014، والأمر نفسه مع الفيلسوف برنارد ستيغلر.

كما يُعدّ علم التّسويق وعلم النّفس الإدراكي من أهمّ المجالات العلمية التي ساهمت في تطوير الأبحاث حول الانتباه وخصوصًا في جامعة ستانفورد، ومن ذلك على سبيل المثال ابتكار “علم جذب الانتباه” (Captologie) وهؤلاء العلماء والخبراء وغيرهم، مثل نير آيال وبراين جيفري وباباشيف، في خدمة الشركات الكبرى للاقتصاد الرقمي، “الغافام” (GAFAM)، أي “غوغل” و”آبل” و”فيسبوك” و”أمازون” و”مايكروسفت”، بشكل أو بآخر.

لقد نبّه علماء الاقتصاد وخاصة هربرت أ. سايمون، إلى أهمّية الانتباه في الاقتصاد، وهو الذي وضع مفهوم “اقتصاد الانتباه”، مؤكدًا بذلك على انتقال نوعي في الاقتصاد العالمي، موضوعه هو جذب الانتباه.

كما ذكر الباحث علي فرجاني، في كتابه “اقتصاد الانتباه في عصر المراقبة السيبرانية”، بأنّه “في عام 1998، حذّر الفيزيائي النظري ميشيل جولد هابر من أنّ الاقتصاد الدولي يتحرّر من “الاقتصاد القائم على الموارد إلى اقتصاد القائم على الاهتمام”، مشيرًا إلى العديد من الخدمات المقدّمة عبر الإنترنت مجانًا”.

ومن المعلوم أنّ حجم الاقتصاد الرقمي العالمي، وصل إلى حوالى 25% من الاقتصاد العالمي، حيث وصل الاقتصاد الرقمي الصيني حوالي 7.25 تريليون دولار، أي حوالى 41.5% من إجمالي الدخل القومي. ولا زالت الولايات المتحدة في الصدارة وذلك بحوالى 13.6 تريليون سنة 2020. وهكذا فإنّ العشر الأوائل، هم الولايات المتحدة الأمريكية ثم الصين، فألمانيا ثم اليابان، وتليها المملكة المتحدة، فرنسا، كوريا الجنوبية، الهند، كندا، وأخيرًا إيطاليا في المرتبة العاشرة.

وبالتالي فإنّ الإنتاج الرقمي ينحصر في الولايات المتحدة الامريكية (35%) والصين (13%) واليابان (8%) والاتحاد الأوروبي مع أيسلندا وليفنشتاين والنرويج (25%)، حسب تقرير مؤسسة Data Reportel لسنة 2022؛ بينما الاقتصاد الرقمي العربي لا زال بعيدًا عن منافسة الاقتصاديات الرقمية المهيمنة، وإن كان مؤشّر الاقتصاد الرقمي العربي يُبشّر بتحسّن أداء عدّة دول عربية وعلى رأسها دول الخليج العربي.

وتشير إحصائيات المؤسسة نفسها إلى أنّ سكان العالم استهلكوا حوالى 12.5 تريليون ساعة على الإنترنت، وأكثر من 60% يستعملون وسائط التواصل الاجتماعي، أي حوالى 4 مليار و80 مليون مستعمل، ومعدّل الوقت الذي يقضيه كل فرد على الإنترنت، فهو ساعتان و24 دقيقة يوميًا.

أما المنصّات الرقمية التي تجذب انتباه سكان العالم، والتي تجاوزت مليار مستعمل، فهي كالتالي: “فيسبوك” (2.963) و”يوتوب” (2.527) و”واتساب” (2.000) و”إنستغرام” (2.00) و”ويشات” (1313) و”تيكتوك” (1.092).

وواضح أنّ المنصات المعنية في نمو مستمر مع التأكيد على النمو السريع الراهن ينفرد به على الخصوص تطبيق “تيكتوك” الصيني.

ويُلاحظ من المعطيات المتوفرة أنّ سكان العالم “يُنفقون عملة الانتباه” على عمليات الإبحار في عوالم الإنترنت ومنصّات التواصل الاجتماعي بشكل مقلق، ومن المتوقّع نمو ذلك في السنوات القادمة. ولهذا تستثمر الشركات الكبرى العالمية والمؤسسات السياسية والدول والحركات الاجتماعية والدينية والسياسية العابرة للقوميات، أموالًا كبيرة من أجل الحصول على حصة من الانتباه العالمي.

لقد خلقت ثورة المعلومات تشتتًا في الانتباه، وبالتالي هناك حاجة إلى ابتكار خُطط لجذب انتباه المتلقي في كل مكان والمحافظة على ولاء هذا المتلقي وحمله على استهلاك المنتوجات المعروضة أو الخطابات الأيديولوجية، ويتمّ اعتماد عدة تقنيات تواصلية لاستمالة الناس وغوايتهم لإنفاق انتباههم وبالتالي التأثير عليهم وتشكيل وعيهم. ويتخوّف عدّة باحثين على مستقبل الديموقراطية في العالم وهيمنة فكر أحادي مسيطر على منصات التواصل الاجتماعي، وخصوصًا لدى فئة الأطفال الذين لا يملكون المقدرة العقلية الكافية للتمييز والنقد ومقاومة الإغواء بكل أصنافه.

ويبدو جليًا أنّ فئات الشباب والأطفال، وحتى جزء مهم من الكبار في العالم العربي، غارقة في العوالم الافتراضية وخاضعة لاستيلاب جديد، حيث إنّ أغلب اهتمام الأغلبية يدور حول الموضة والرياضة والتسوّق ومتابعة أخبار المشاهير والأخبار الكاذبة والتفاهات بشكل عام، مما يُشكّل حتمًا تحديًا خطيرًا للأمن القومي العربي الراهن والمستقبلي.

الأجيال العربية الراهنة متوجّهة بانتباهها إلى أمور لا صلة لها بالقضايا العربية دون أنّ يعني ذلك عدم وجود فئة من النشطاء العرب الشباب الذين لهم وعي برهانات “حروب الانتباه”، ولكن تبقى فئة قليلة أمام الأغلبية المنصرفة إلى الفرجة والاستهلاك المفرط لرموز ومنتجات التفاهة.

ثمّة حاجة إلى التفكير العربي المشترك ليس في تطوير الاقتصاد الرقمي العربي وحسب، وإنّما كذلك وضع خطة متكاملة لمواجهة الاستراتيجيات العالمية في “حروب الانتباه” التي تروم التلاعب بانتباهنا والسعي لتبديد اهتمامنا بقضايانا المصيرية، ومنها القضية الفلسطينية، وبالتالي صرف انتباه الأجيال الحاضرة والقادمة إلى وجهة تخدم مصالح صانعي رأسمالية الكوارث.

الدكتور خالد ميار الادريسي، باحث مغربي

الدكتور خالد ميار الادريسي من المملكة المغربية، خبير في قضايا التطرف والارهاب. الادريسي متخصص في العلاقات الدولية ورئيس المركزالمغربي للدراسات الدولية والمستقبلية كما يشرف على موقع مستقبليات الالكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى