عاد شبحُ الطاقةِ في أوروبا يُلقيِ بظلالهِ على الأجواء ، مُنذرًا هذهِ المرة بهروبٍ جماعي لرؤوسِ الأموالِ والإستثماراتِ من القارةِ العجوز ، بعدَ أن بدأ بعضُ عمالقةِ الصناعة في إتخاذِ خُطواتٍ تمهيديةٍ لِنَقلِ نشاطهم الإنتاجي بشكلٍ كُلي إلى دُولٍ أخرى لا تُعاني أزماتٍ في الطاقةِ والوَقوُد ، فما هي أبرزُ تلكَ الشركات ؟
وإلى أينَ يُمكِنُ أن تنقلَ عملياتِهاَ ؟
وهل يُمكنُ أن يكونَ الوطنُ العربِيُ بما يمتَلِكهُ من ثرواتٍ هَائلة مُستضيفًا جيدًا ؟
رائِدَةُ صناعةُ السيارات ” فولكس فاغن ” هل تَهجُرُ ألمانيا ؟
في أحدَثِ دليلٍ على أنَ أزمةَ الطاقةَ التي أحدثَتها الحربُ الأوكرانية تُهَدِدُ بقلبِ المشهَد الصناعي في أوروبا ، فقد رَجحت شركةُ ” فولكس فاغن ” عِملاقُ صناعةِ السيارات الأمريكية إمكانِيةَ نقلِ عملياتها الإنتاجية من ألمانيا وأوروبا الشرقِية بالكامل إلى الخارج في حالِ إستمرارِ نُقصِ إمدادات الغاز الطبيعي وقالت أكبَرُ مُصنعةٍ للسيارات في القارةِ الأوروبية، إن نَقلَ الإنتاجِ هو أحدُ أبرزِ خياراتِها المُتاحةِ على المدى المتوسط إذا إستمَر نُقصُ الغازِ إلى ما بَعدَ الشتاء القادم ، حيثُ تمتلكُ ” فولكس فاغن “مصانعَ كُبرى في كلٍ من ألمانيا والتشيك وسلوفاكيا وهيَ من بين الدول الأوروبية الأكثرِ إعتمادًا على الغاز الروسي بحَسبِ وكالةِ بلومبرغ .
كما تُدِيرُ مجموعةُ “فولكس فاغن ” بالفعلِ مصانعَ السيارات في البُرتغال وبلجيكا وفي ما لهُ صِلةٌ بالأمر قال رئيسُ قسمِ المُشتريات في الشركة جينج وو في بيانٍ له ” إنهُ في إطارِ إيجادِ بدائِلَ متوسطةِ الأجل ، نُركزُ على توطينٍ أكبر أو نقل القُدرةِ التصنيعيةِ أو إيجادِ بدائلَ تِقنية على غِرارِ ما هوَ شائعٌ بالفعلِ في سياقِ التحدياتِ المُتعلقة بنُقصِ أشباه المُوصلاتِ وغيرِها منَ الإضطرابات الأخيرةِ في سلاسِلِ التوريد ، ونقلُ وحداتٌّ إنتاجية إلى خارجِ ألمانيا وليست فكرةُ هجرة الأسواقِ الأوروبيةِ وليدتَ اللحظة ، فقد أكدَت شرِكةُ الإتصالات الألمانية العملاقة دويتشه تليكوم، قبلَ أعوامٍ عزمَها الإستغنَاءَ عن حوالي ٣٠٠٠ آلافٍ إلى ٤٠٠٠ آلافٍ عاملٍ سنويٍ في قطاعاتِ خدمات الشركات ونقلِ وظائفهم إلى الدولِ ذاتِ العمالةِ الرخيصة ولا سيما الهند وذلكَ في إطارِ سياسةِ تَقَشُفٍ لمُواجهةِ الأزمات الإقتصادية وقال الرئيس التنفيذي لشركةِ تي سيستمز التابِعةِ لمجموعةِ دويتشه تليكوم ، إنَ عملياتِ نقلِ الوظائف إلى الخارجِ تَشملُ قطاعَ تكامُلِ الأنظمة Systems Integration ، الذي يضُمُ حوالي ١٥٠٠٠ ألفَ عامل واليوم وبعدَ أزمةِ الطاقة التي عَصفَت بأوروبا مؤخرًا ، عادت الشركةُ تُفكِرٌ بذات المنهجِ من جديد .
أكبرُ مجموعة لإنتاجِ الصلبِ في أوروبا تُوقف مَصنعينِ بألمانيا وبسبب الإرتفاعِ الحاد في أسعارِ الطاقة أغلقت أرسيلور ميتال. Arcelor Mettal ، أكبرُ مجموعةٍ للإنتاج الصلب في أوروبا ، مصنعينِ للإنتاج ِ في شمال ألمانيا وقالت المَجموعةُ إنه إعتبارًا من نهايةِ سبتمبر / أيلول ستُغلقُ المجموعةُ أحدَ أفرانِ الصَهرِ في مواد الصلبِ المُسطح في بريمن حتى إشعارٍ آخر ، مُضيفتًا أنهُ في مصنعِ الفُلاذ الطويل في هامبورغ ، حيثُ تُنتجُ المجموعةُ قضبانَ الأسلاكِ عاليةِ الجَودة ، سيَتِمُ أيضًا إغلاقُ مصنع الإختزالِ المباشِر( وهو مصنع لإنتاج الحديد يضمَنُ مواد الخام العاليةِ النقاء ويُنتج الحديد الخالي من الشوائبِ )، إعتبارًا من الربع الرابعِ من هذا العام ، عام ٢٠٢٣ ، بسببِ الوضع الحالي والتوقعاتِ السلبيةِ للأرباح ولم تُعلن موعدُ عودة المصنعين ، كما لم تُوضحْ أيضًا ، إذا كانت بصددِ التفكيرِ بنقلِ نشاطِها إلى مواقعَ أُخرى أو لا ، لكنها عَزَّت القرارَ الأخيرَ إلى الإرتفاعِ الباهظِ في أسعار الطاقة والذي أثَرَ بشكلٍ هائلٍ على القُدرة التنافسية لإنتاج الصلب .
الإنتاج الصناعي في ألمانيا يُواجِهُ خطرَ الزوال .
مجلةُ The Economist البريطانية ، حَذَرت مؤخرًا من أنَ ألمانيا ، أكبرُ إقتصادٍ في أوروبا ، تواجهُ خطرَ خسارةِ نِظامِها الصناعي بِسببِ أزمةِ الطاقةِ الحادة وقالت المجلةُ في تقريرٍ لها ، إن الصناعةَ الألمانية قد إعتَمَدت في السنواتِ الأخيرةِ على الطاقةِ الرخيصةِ من روسيا وإمكانيةِ تسويقِ منتجاتِها في الأسواق الصينية ولكن ألمانيا الآن تُواجهُ إختبارًا صعبًا لنظامِها الصناعي وبحسبِ ما نقَلَهُ صحفيُ المجلةِ عن رئيسِ إتحادِ الصناعةِ الألماني ، فإن الإنتاجَ الصناعي في ألمانيا يُواجِهُ خَطرَ الزوال وأفادة The Economist بأن الوضعَ يبدو سامًا للعدِيدِ من الشركات ومن خلالِ إنقطاعِ سلاسلِ التوريدِ العالمي ، يُمكنُ أن ينتقِلَ هذا السُمُ إلى بقيةِ العالم الصناعي ، الذي يَعتمِدُ بشكلٍ كبيرٍ على المُصَنعين الألمان وهو ما يُفسرُ رَغبةَ أنَ العديدَ من الشركاتِ الكُبرى في الهروبِ من السوق الألمانية قبلَ أن تسوء الأوضاعُ أكثر وما تُعاني منه ألمانيا ينعكِسُ بالضرورةِ على باقيِ الدولِ الأوروبية التي تعتَمدُ بشكلٍ كبيرٍ على الغاز الروسي ، ما جَعلَ مُتخصصينَ وخبراء من إنتشارِ عدوى هجرةِ السوق إلى شركاتٍ داخلَ البلدان الأوروبيةِ الأخرى .
لكن إذا قررت الشركات الأوروبيةُ مُغادرتَ موطِنها حقًا ، تُرىَ أي دولةٍ يُمكِنُ أن تحتضِنها .
لا شَكَ أن أسواقَ الخليج العربي باتَت جاهزةً لإستقبالٍ مختلف التدفُقاتِ الإستثماريةِ الأجنبية ، خاصةً وأنها موطِنٌ لبعضِ أكبرِ مُصدري النفطِ والغازِ في العالم والعديدِ من أكبر صناديقِ الثروة السيادية وأكثرِها نشاطًا وتشمَلُ هذهِ المؤسساتُ صندوقَ الإستثماراتِ العامة Public Investment Fund السعودي وجِهاز قطر للإستثمار Qatar Investment Authority وجهازِ أبو ظبي للإستثمار Abu Dhabi Investment Authority والهيئةُ العامة للإستثمارِ الكويتية Kuwait Investment Authority وبحسبِ صندوق النقد الدولي فإنهُ من المُتوقعِ أن تَجنيِ دول الشرق الأوسط الغنيةِ بالطاقةِ ما يَصلُ إلى ١،٣ ترليون دولار من عائداتِ النفطِ الإضافية على مدى السنواتِ الأربعة المُقبلة ، حيثّ ستحصلُ على مكاسبَ غيرَ مُتوقعةٍ من شأنها أن تُعززَ مكانة صناديق الثروة السيادية في المنطقة .
كذلك فإن القاهرةَ لا تزالُ قِبلةَ المُستثمرين الأجانبَ في منطقة الشرق الأوسطِ وشمالِ إفريقيا نظرًا لما تتمتعُ بهِ من ثِقَلٍ إستراتيجي وتكلفةٍ إستثماريةٍ أقل ووَفرتُ الأيدي العاملة، علاوةً على أنها تُمثلُ سوقًا إستهلاكيةً ضخمةً يتخطى حدوُد الدولةِ المصرية ، عابرًا للدول الإفريقيةِ والعربيةِ ، إذ إنَ مِصرَ بوابةَ إفريقيا .
وزيرة التنمية والتخطيط الإقتصادية المصرية هالة السعيد قالت في هذا الشأن ، إنَ الإستثمارَ الأجنبي المُباشر في مِصر بدأ في الإنتعاش بشكلٍ ملحوظ في الأونة الأخيرة ، حيثُ بلغَ في العام ٢٠٢١ والعامَ ٢٠٢٠ حوالي ٥،٢ مليار دولار ومن المتوقعِ مُضاعفته في العام المالي ٢٠٢١ إلى ٢٠٢٢ وبالفعل بدأت شركاتٌ أجنبيةٌ في تعزيزِ إستثماراتها في مِصر ، حيثُ تم التعاقُدُ خلال الأسابيعَ الإخيرةِ معَ شركةَ Siemens الألمانية لإنشاءِ منظومةٍ مُتكاملةٍ من القطارِ الكهربائي السريع بموجبِ الإتفاق الذي شهدهُ الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي .
سيتِمُ تدشينُ ثلاثةَ خطوطٍ يبلغُ طولها حوالي ٢٠٠٠ كيلو مترٍ على مستوى مِصر وبحسب بيانٍ لشركةِ Siemens سيربطُ المشروع ٦٠ مدينةً للأشخاصِ والبضائعِ في جميعِ أنحاءِ البلاد ويشمَلُ العقدُ ، ٤١ قطارًا عاليّ السرعة و ٩٤ مجموعةَ قطاراتٍ إقليمية و ٤١ قاطرةَ شحن وقالت Siemens إنَ الإتفاقَ سيتمُ بمُوجبهِ إنشاء ُ سادسِ أكبرِ نظامٍ للسككِ الحديدية عاليةِ السرعةِ في العالم ، كما أطلقَت مِصرُ مؤخرًا إستراتيجيةً لتنميةِ صناعةِ السيارات بهدفِ جذبِ إستثماراتٍ أجنبيةٍ ضخمة لإقامةِ مشروعاتٍ لتصنيعِ السيارات والصناعاتِ المُغذية لها بالمنطقةِ الصناعيةِ بشرقِ بورسعيد لتوفيرِ وارداتِ السياراتِ البالغة ٤ ملياراتِ دولارٍ سنويًا وتصديرُ السياراتِ من مِصرَ للأسواقِ الإفريقية مُستَغلةً إتفاقياتِ التجارة الكبرى .
يبدوا إذًا أن المنطقةَ العربيةَ بفعلِ موقِعها الفريد وبفضل ما تمتلِكهُ من ثرواتٍ طبيعيةٍ هائلة هي الملاذُ الأكثر أمانًا للشركاتِ الأوروبيةِ الفارةِ من الركودِ الإقتصادي وأزمة الطاقة.
فهل ما يجري من تغيُرات جيوسياسية وجغرافية وتحالفاتٍ جديدةٍ على أرض الواقعِ بسبب الحرب الأوكرانية والتوترات الصينية التايوانية وأيضًا إعادة تشكيل جيش الدفاع الياباني سيَلحقُ به تَغير جِيو إقتصادي نحو منطقة الشرق الأوسط؟
وهل هذا التغير يُمكنه أن يُحدث تحوّلًا في الصناعة والإستثمار من وجهٍ أوروبي إلى بصماتٍ عربيةٍ؟