مع ارتفاع معدلات التضخم إلى أعلى مستوياتها منذ عدة عقود، أعلن العديد من البنوك المركزية عن رفع أسعار الفائدة على أمل تقليل طلب المستهلكين، الذي طغى على سلسلة التوريد. وقد كان الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي هو الأكثر جرأةً، حيث رفع سعر الفائدة بنسبة 1.5% منذ يناير 2022، ولا زال يتطلع الى “القيام بمزيد من الرفع مستقبلًا “. ويأتي هذا الإجراء في الوقت الذي تواجه فيه الولايات المتحدة أعلى معدل تضخم منذ 40 عامًا، إذ وصل في شهر يونيو 2022 الى مستويات غير متوقعة، حيث بلغ 9.1% على أساس سنوي. من ناحيته، يعاني الاتحاد الأوروبي من تضخم تخطت نسبته 8.1% لكنه لم يرفع معدل فائدته بعد، ولكنه من المتوقع أن يرفع أسعار الفائدة بنسبة 0.25% في يوليو، وربما زيادة أكبر في سبتمبر.
وفي هذا السياق، يرى بعض المحللين إن رفع أسعار الفائدة لخفض الطلب – وبالتالي التضخم – ليس هو الحل الصحيح، لأن الأسعار المرتفعة كانت مدفوعة بشكل أساسي بصدمات سلسلة التوريد، إذ لم يتمكن المصنعون والموردون العالميون من إنتاج البضائع وتسليمها للمستهلكين بكفاءة خلال عمليات إغلاق جائحة كورونا. فقد تسبب ارتفاع الطلب على السلع والاضطرابات المرتبطة بالوباء في سلسلة التوريد في نقص السلع في جميع أنحاء العالم. وفي الآونة الأخيرة، أدت العقوبات المفروضة على روسيا أيضًا إلى تقليص المعروض، خاصة من السلع الأساسية. ومع ذلك، فإن تعديل السياسة النقدية قد يكون “الحل الخاطئ للمشكلة”، إذ أن الطلب أقل مما كان عليه قبل انتشار الوباء، وإن استخدام رفع أسعار الفائدة للحد من التضخم قد يضع الاقتصادات في حالة من الركود.
فالسياسة النقدية لن تحدث فرقًا كبيرًا في ذلك وربما ليس هناك الكثير مما يمكن للسياسة النقدية أن تفعله حيال معدلات التضخم المرتفعة بشكل قياسي. فمع ظهور صدمات العرض من وقت لآخر، سيكون من الصعب على البنوك المركزية الحفاظ على سيطرتها المستمرة على التضخم. فعمليات الإغلاق الوبائي، واضطرابات سلسلة التوريد، والحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى برامج التحفيز المالي الكبيرة التي تم ضخها في العديد من اقتصادات الدول، وسياساتها النقدية المتساهلة، ساهمت في ارتفاع التضخم.
ومع ذلك، لا يزال رفع أسعار الفائدة هو الترياق الشائع لإصلاح التضخم. لكن الاقتصاديين قلقون الآن من أن استخدام رفع أسعار الفائدة كأداة لحل مشكلة التضخم يمكن أن يؤدي إلى ركود؛ فارتفاع أسعار الفائدة سيؤدي إلى زيادة تكاليف الاقتراض للمستهلكين والشركات ويضر في النهاية بالتوظيف والوظائف ويزيد من مخاطر حدوث “ركود كبير”.
ومما لا شك فيه بأن البنوك المركزية حول العالم، وبشكل خاص، الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، يمر في معضلة الموازنة بين كبح جماح التضخم المتسارع الى مستويات قياسية وبين الخوف من حصول ركود اقتصادي أو ما يسمى بالركود التضخمي، في حال قيامه برفع أسعار الفائدة. وبالتالي، فإن الأسواق والبنوك المركزية حول العالم تترقب خطوة الاحتياطي الفيدرالي المرتقبة وإن كانت الدلائل تشير الى زيادة لا تقل عن 75 نقطة أساس.
ولكن تبقى الأسئلة المطروحة في هذا الإطار هي التالية: هل سيستمر الفيدرالي في سياسته المتشددة لغاية الوصول الى هدفه المنشود بإعادة معدل التضخم الى النطاق المستهدف؟ وهل سنرى خلال العامين المقبلين وصول معدل الفائدة على الأموال الفيدرالية الى مستوى من رقمين؟ هل سينجح الفيدرالي في حقًا في كبح معدل التضخم ولو بصورة متواضعة ولو استغنى جزئيًا ومرحليًا عن النمو الاقتصادي الذي بدأ في التراجع؟ ماذا سيكون أثر السياسة النقدية للفيدرالي على سعر صرف الدولار الأمريكي الذي يشهد ارتفاعًا قياسيًا أمام العملات الرئيسية الأخرى؟ ما أثر الارتفاع المتوقع في سعر صرف الدولار على سعر الذهب الذي يشهد تراجعًا آخذين بعين الاعتبار العلاقة العكسية بين الطرفين؟ ماذا سيكون أثر رفع سعر الفائدة على الدول النامية التي تربط عملاتها بالدولار الأمريكي، وأثر هذا الرفع على حجم الدين العالمي؟
تلك أسئلة مشروعة، ولكن كما أن السياسة النقدية الفضفاضة بمفردها قد وقفت عاجزة، ولم تعطِ نتائجها المرجوة في معالجة الآثار التي ترتبت على أزمة جائحة كورونا، إذ كان يجب أن تترافق آنذاك مع سياسات التحفيز المالي الهائلة، والدعوات الى إيجاد اللقاحات الضرورية والتعاون الدولي في هذا الإطار، فإن الأمر الآن لا يختلف كليًا عن مرحلة كورونا السابقة. فالمطلوب حاليًا لكبح جماح التضخم العالمي ليس التشدد في السياسة النقدية فقط وإنما معالجة الأسباب وليس النتائج المسببة للتضخم. وعليه، ينبغي اتخاذ سلسلة من الإجراءات التي لا تؤدي الى انزلاق كبرى الاقتصادات المتقدمة الى ركود اقتصادي حاد، وبالتالي تأثر الدول النامية والأسواق الناشئة. وفقد يكون من الضروري للخروج من الحلقة المفرغة المتوقعة هو ثلاثة تدابير ضرورية: أولًا: أجراء حوار دولي لمعالجة الاضطرابات في سلاسل الامداد، ثانيًا: معالجة الأزمة الروسية الأوكرانية ونقص تدفق القمح والغاز والنفط، وثالثًا: إمكانية التوصل الى اتفاق مرحلي بين الدول المنتجة للنفط والدول المستوردة للنفط على مستوى من الأسعار يكون ملائمًا لكلا الطرفين (كانت فرنسا قد دعت مؤخرًا الى وضع سقف لسعر النفط). فالأمر لا يطال فقط الدول المتقدمة، بل أصبح يضر بالاقتصاد العالمي بأكمله، وقد نشهد مزيدًا من الركود إذا لم تأخذ السياسات النقدية لدى البنوك المركزية العالمية مصالح دول العالم إسوة بمصالح اقتصاداتها.