إقتصادالاحدثدوليقراءات معمقة

الاقتصاد العالمي بين التضخم وسعر الفائدة: هل أصبح رفع الفائدة ضروريًا؟ | كتب حسان خضر

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

من الواضح بأن مخاوف التضخم حول العالم قد بدأت تشغل بال متخذي القرار، حيث تشهد أسعار المزيد من السلع ارتفاعاً كبيراً لم يشهده العالم منذ عقود. فقد ساهم التعافي الاقتصادي العالمي إلى إذكاء الزيادة المتسارعة في التضخم بالنسبة للاقتصادات المتقدمة واقتصادات الأسواق الصاعدة.ويُعزى ارتفاع معدلات التضخمالى جملة من الأسباب، منها ارتفاع الطلب الذي يواجه بنقص في العرض نتيجة لتعطل قطاعات النقل وسلاسل التوريد، ونقص العمالة، والضغوطات التي يعانيها قطاع الطاقة.

ولكن -بحسب بعض المحللين- فإن صدمة الطلب ونقص الإمدادات ليست السبب الأساسي لظاهرة التضخم التي يشهدها الاقتصاد العالمي الآن، إذ إن المشكلة الحقيقية تكمن في الإجراءات الحكومية التي تم اتخاذها في فترة الوباء بغرض مساعدة القدرة الشرائية للمواطنين. فالحكومات في عدة دول حول العالم بالغت في ردة فعلها تجاه الأزمة الصحية والاقتصادية التي عانت منها، وقامت بصرف مبالغ نقدية سخية للشركات والأفراد، وهو ما أدى إلى تكدس المدخرات لدى العائلات، مع تواصل حالة الاغلاق العام ومنع النشاطات التي يمكن من خلالها إنفاق هذه الأموال. كل هذه الأموال التي وزعتها الحكومات على شكل حزم من الإنعاش المالي الموجه للأسر قدمتها الحكومات بدون التأكد من وجود حاجة حقيقية لها، يقوم المواطنون الآن بإنفاقها على السلع المعروضة، وهذا يظهر من الأرقام القياسية لمبيعات التجزئة التي ارتفعت بشكل كبير.

وقد قفزت أسعار الغذاء حول العالم بشكل كبير أثناء الجائحة، وهو تحدٍ قاسٍ للدول منخفضة الدخل، حيث تمثل هذه المشتريات نسبة كبيرة من إنفاقها الاستهلاكي. ويمكن لأسعار السلع أن تسجل ارتفاعا أسرع بكثير مع استمرار فترات التعطل في سلاسل الإمداد، والتقلبات الكبيرة في أسعار السلع الأولية، وانفلات التوقعات عن ركيزتها المستهدفة.ومعتخطىمتوسط الأسعار الفورية لخام برنت 84 دولارًا للبرميل في أكتوبر 2021، بزيادة 9 دولارات للبرميل عن سبتمبر وبارتفاع 43 دولارًا للبرميل عن أكتوبر 2020. وفي غمرة تلك التوقعات بشأن أسعر الغذاء العالمية وأسعار النفط الخام، فإن خبراء الاقتصاد لا يزالون مختلفين حول مدى استمرارية الضغوط الرافعة للأسعار في نهاية المطاف. وقد قال البعض إن إجراءات التنشيط الحكومية قد تدفع معدلات البطالة إلى الانخفاض بما يكفي لإعطاء دفعة للأجور وإدخال الاقتصاد في حالة من النشاط المحموم، وفي الوقت ذاته، يقدِّر آخرون أن الضغوط ستخبو في نهاية المطاف مع تراجع طفرة الإنفاق الاستثنائية.

 

الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي

اشتدت الضغوط على الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لرفع أسعار الفائدة بعد أن أدى ارتفاع تكاليف الطاقة ونقص الإمدادات وزيادة الاستهلاك إلى ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة إلى مستوى لم تشهده منذ أكثر من 30 عامًا. وعلى الرغم من إصرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي مرارًا وتكرارًا على أن ضغوط الأسعار ستثبت أنها “مؤقتة”، فقد فوجئت الأسواق المالية بزيادة قدرها 6.8% في تكلفة المعيشة في أكبر اقتصاد في العالم مقارنةبالعام الماضي.ويعمل التضخم المصحوب بالركود(Stagflation) على تقويض الاقتصاد الأمريكي، مما يمثل مشكلة كبيرة للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. ومن الواضح بأن معدلات التضخم تسير بوتيرة أسرع بنحو ثلاثة أضعاف من نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي – وهو رقم لم يعد بإمكان بنك الاحتياطي الفيدرالي تجاهله.

وحذر رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، من أن التضخم كان “أطول من المتوقع“. وقال بإن الاحتياطي الفيدرالي ما زال يتوقع أن تكون الارتفاعات الأخيرة في الأسعار “مؤقتة” لكنه أضاف أنه “من الصعب للغاية التنبؤ باستمرار قيود العرض أو آثارها على التضخم”. وأضاف إنه متردد في رفع أسعار الفائدة حتى يعود المزيد من الناس إلى وظائفهم بعد تهميشهم أثناء الوباء، حتى لو تجاوز التضخم هدفه المعلنوالبالغ 2%”لبعض الوقت””، حيث لا يزال الاحتياطي الفيدرالي يأمل في أن يخفت التضخم، بمرور الوقت، دون الحاجة إلى رفع أسعار الفائدة لتهدئة الاقتصاد، والمخاطرة بإبطاء أو عكس نمو الوظائف في هذه العملية.

ولكن على ما يبدوا، فإن العوائق التي تحول دون تطبيع السياسة النقدية في وقت مبكر من قبل الاحتياطي الفيدرالي آخذة في التلاشي بشكل كثيف وسريع، حيثمن المتوقع أن يتمكن بنك الاحتياطي الفيدرالي من البدء في رفع أسعار الفائدة العام الجاري، في وقت أبكر من توقعاتسابقة بأن رفع أسعار الفائدة سيبدأ في عام 2023.

 

هل التضخم الحالي حالة مؤقته؟

يرى المسؤولون في نظام الاحتياطي الفيدرالي الأميركي والبنوك المركزية الأخرى والعديد من خبراء الاقتصاد أن التضخم الذي يشهده العالم حاليا ظاهرة مؤقتة ترتبط بأزمة كوفيد-19 وتوقف سلاسل الإنتاج والنقل. وبرأي بعض المحللين، فإن التضخم سوف يكون مؤقتا، “على ما يبدو”، ولن يتكرر سيناريو السبعينيات ولن نشهد تضخما مطولا، لكن المرحلة الانتقالية والارتفاع المتسارع للأسعار قد يستمران سنتين أو ثلاث سنوات.في حينيعتقد البعض الآخربأن تراجع العولمة وإعادة تعريفها، وانخفاض قيمة الدولار وأزمة الطاقة والارتفاع السريع في الأجور كلها عوامل تشير إلى استمرار حالة التضخم الحالية، وإنه لا يمكن لأحد أن يتوقع إلى متى ستستمر هذه الحالة. فتأثير أزمة الطاقة وتعطل سلاسل التوريد سيكون طويل المدى، وعليه من غير الممكن تجنب ارتفاع معدلات التضخم.

 

توقع السياسات

على ضوء قراءة الواقع، فإن الشواهد القريبة تشير إلى استمرار زيادة أسعار الغذاء -على الأقل- في الأجل المتوسط، أي خلال عام من الآن، وذلك بسبب بقاء أسعار النفط عند مستويات مرتفعة نسبياً، والذي يتوقع أن تستمر حتى النصف الأول من عام 2022.وفي حال تحقق سيناريو استمرار ارتفاع أسعار النفط، فسوف ينعكس ذلك على كثير من مستلزمات إنتاج الغذاء ونقله وتوزيعه على مستوى العالم.وثمة عامل آخر يسهم في رفع تكاليف الغذاء خلال الفترة القادمة، يتمثل في ارتفاع تكاليف الشحن، بسبب ما يعتري خطوط النقل والإمداد من تعثر وبطء منذ بدء أزمة كورونا، حيث تشير التقديرات بأن أسعار الشحن الآن ارتفعت بنحو 4 إلى 5 أضعاف مقارنة بما كانت عليه قبل جائحة كورونا. وإن ارتفاع أسعار الشحن -بلا شك- سوف يؤثر بشكل كبير على أسعار الغذاء وكذلك تأمين المخزونات الاستراتيجية منه لدى الدول النامية والأقل نموا.

وبحسب المحللين في وول ستريت أن البنوك المركزية سيكون عليها فقط التشدد قليلاً في السياسة النقدية (Monetary Breaks)، وعليه فإن التضخم سوف يتراجع تدريجياً إلى 2%. وسيؤدي هذا إلى استمرار الأسواق المالية في تحقيق مستويات جيدة بعد ارتفاع قياسي. وبالتالي، يتعين على صناع السياسات السير على خيط رفيع بين مواصلة دعم التعافي والاستعداد للتحرك السريع. بل الأهم من ذلك أن عليهم إرساء أطر نقدية سليمة، بما في ذلك تعيين محدِّدات يستدلون بها في معرفة الوقت المناسب لتخفيف دعمهم للاقتصاد بغية كبح التضخم غير المرغوب.

حسّان خضر، باحث وكاتب لبناني

باحث في الشؤون الاقتصادية وله دراسات وتقارير مهنية معمقة تتصل باقتصادات مجلس التعاون الخليجي والاقتصادات العربية بشكل عام. عمل في مؤسسات اقليمية مرموقة منها بنك الكويت الوطني والمعهد العربي للتخطيط، ويعمل حالياً خبيراً في ادارة البحوث في بنك الكويت المركزي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى