لقد حاولت دول عديدة خلال فترات مختلفة اتّباع سياسة قمع ومجابهة قوّة السوق المالية والسلعية وقامت بتحديد سعر الصرف لعملتها إفرادياً أو ضمن مجموعة دول. لكن هذه المحاولات باءت بالفشل في آخر المطاف، ومن أهمها محاولة اتّفاقية بريتون وودز برعاية صندوق النقد الدولي بعد الحرب العالمية الثانية التي سعت إلى ربط معظم عملات العالم مع الدولار من خلال تثبيت الدولار مقابل الذهب على أساس 35 دولاراً للأونصة الواحدة، وربط العملات الأُخرى بالدولار. سُمِّي هذا النظام معيار بريتون وودز الذهبي، وتَوجَّب على الدول المنضوية في هذه الاتفاقية أن تحافظ على سعر عملتها ضمن حدود 1%، بينما توجّب على الدول الراغبة بتعديل سعر صرف عملتها خارج هذا النطاق، أن تحظى بموافقة الصندوق مسبقاً.
سخر بعض أشهر الاقتصاديين من هذا النظام وتوقّعوا له الفشل. وبالفعل، في عام 1971 تدهور سعر الدولار (حتى مقابل الليرة اللبنانية) وفُكّ ارتباطه بالذهب وتخلّى النظام المالي العالمي عن هذه الاتفاقية. لبنان آنذاك رفض الانضمام إلى هذه الاتفاقية، بل كان من الدول الفريدة التي اقتنعت بفوائد سعر الصرف المرن وأدرك الضرر الذي قد ينتج عن نظام الأسعار المثبتة. وأصبح لبنان مثالاً للإدارة الحكيمة لسعر الصرف. حتى خلال الحرب الأهلية القاسية، ورغم الانخفاض الهائل لليرة وخسارة مصرف لبنان لمعظم احتياطه، استمرّت الثقة بالمصارف، وهذه الأخير التزمت بحقوق المودعين لأن سعر صرف الليرة الحرّ آنذاك كان يتغيّر فوراً ليحقّق التوازن في السوق النقدية للعملات الأجنبية. فمن له ودائع في المصارف بالدولار لم يفقد الثقة لأنه كان يعلم أن بإمكانه الحصول على ودائعه بسعر السوق.
لكن لبنان حاد عن فلسفة سعر الصرف الحر واستعاض عنها بسياسة سعر الصرف الثابت بقرار حكومي منذ عام 1997. وأخذ الأثر السلبي لهذه السياسة البديلة يظهر بإضعاف الاقتصاد اللبناني تدريجاً، وفي تحويله من اقتصاد داعم للإنتاج المحلي إلى اقتصاد «ريعي» داعم للاستهلاك ولا سيما للواردات. وخسر الاقتصاد قدرته التنافسية حتى في السياحة. ولم تُعوِّض عن ذلك السياسات المالية والاقتصادية بل أرهقته وساهمت مباشرة في تدنّي أدائه وأداء ميزان مدفوعاته.
إن سعر الصرف الثابت يُوهم بأن الاقتصاد بخير نظراً إلى بخس أسعار السلع والخدمات المستوردة. في المقابل، إن سعر الصرف المحرّر لليرة اللبنانية يلعب دوراً مغايراً، فيحافظ على القدرة التنافسية للاقتصاد وعلى إنتاجه الحقيقي ويكون «باروميتراً» لأداء الاقتصاد. عندما تكون سياسات القطاع العام وكذلك القطاع الخاص خاطئة ينعكس ضعف الأداء بانخفاض سعر الصرف ويكون مؤشّراً واضحاً للحاجة الفورية للإصلاح بالعودة إلى السياسات الصحيحة. لذا نرى أن الاقتصادات الناجحة تتبع سياسة سعر صرف حرّ أو مرن، وخصوصاً بعد فشل نظام بريتون وودز. ولتفادي التقلّبات الاستثنائية ينحسر دور المصارف المركزية بالحفاظ على تغيير تدريجي في سعر العملة من خلال التعاون مع السياسة المالية في إدارة سيولة العملة المحلية.
لذا، يصبح تحرير سعر الصرف من الضروريات لأننا لا نستطيع العودة إلى الوراء بإصلاح الأخطاء الماضية وأهمّها العجز المالي الفاحش والدين العام المتراكمين خلال ثلاثة عقود، واللذَين أوقعا الاقتصاد في الهوّة حتى بات غير ممكن إنقاذه من دون تحرير سعر الصرف وتطبيقه على جميع السلع والخدمات.
إن تحرير سعر الصرف (وتوحيده كنتيجة حتمية) هو من أهم أدوات الإصلاح الذاتية ويكون أثرها إيجابياً وفورياً. إن سعر الصرف المحرّر يفيد الإنتاج المحلي من خلال إعادة القدرة التنافسية للاقتصاد، ويخلق وظائف جديدة في فترة وجيزة لا نستطيع أن نحقّقها بالمساعدات الخارجية لبطء تنفيذها وعبء سدادها.
كما أن سعر الصرف الحرّ يعطي دوراً فاعلاً للسياسة النقدية للبنك المركزي، بينما السعر الثابت يُقيّد قدرة البنك المركزي على اتباع سياسة نقدية تستهدف النمو المستدام للاقتصاد، إذ يتوجب عليه استعمال احتياطه من العملة الصعبة للحفاظ على سعر الصرف المحدد. إضافة إلى أنه لن تكون هناك حاجة لتخزين النقد الأجنبي، بل ستُخوّل المصارف باستعمال أصولها الأجنبية.
إن من يظنّ أن سعر الصرف المحرّر يضرّ بالاقتصاد فهو على خطأ. إن تحرير سعر الصرف يُقلِّص الطلب على السلع المستوردة وكذلك على الدولار. ويتوقع تحسّن سعر الصرف بعد تحريره، إلّا أن هذا الأمر يتطلّب استيفاء العاملين التاليين:
أولاً: أن نحقّق توازناً مالياً في أسرع وقت، لأن العجز المالي يؤدّي إلى عجز في ميزان المدفوعات وهدر المخزون من الاحتياطي، والاستمرار في الضغط المعاكس على سعر الصرف.
ثانياً: أن يقوم مصرف لبنان بإصدار سندات بالليرة اللبنانية لحسابه (وليس لحساب الدولة اللبنانية) لكي تُخوله بالحدّ من تقلبات سعر الصرف مقابل الدولار إذا طرأت، من خلال شراء أو بيع سنداته بالليرة وتحديد فائدتها من خلال نسبة الحسم على السعر الاسمي للسند. هذا يعني السيطرة على سعر الصرف من خلال التحكّم بالعرض لليرة وليس للدولار.
إن ارتفاع أسعار السلع المدعومة بعد تحرير سعر الصرف سيدعم الاقتصاد في فترة وجيزة، إذ سيحفّز إنتاج السلع التي كانت مدعومة مثل العديد من السلع الغذائية والأدوية.
الأهم أنه سينتج عن سياسة تحرير سعر الصرف، إنهاء للهدر من خلال توقّف الدعم غير الموجّه والمُصدَّر إلى الخارج. إذا أردنا دعم الفئة المحتاجة فيمكن تحقيق ذلك من خلال إصدار بطاقات ائتمان أو كوبونات تتيح فقط شراء السلع التي ترغب الدولة في دعمها. وفي أي حال، يجب أن يسعى الهدف إلى توفّر الدواء بدلاً من أن يكون بخساً وغير متوافر كما هو حال سياسة الدعم الحالية.
إن تحرير سعر الصرف سينهي الحاجة لاستعمال النقد الحقيقي بالدرجة السائدة حالياً بتحوّل الاعتماد إلى حدٍّ كبير إلى النقد «غير المنظور»، وعلى المصارف أن تتّجه إلى استعمال البطاقات الائتمانية والبطاقات المدينة للحسابات بالليرة والدولار. ومن الأفضل الاعتماد على سوق بيروت المالية كمنصّة لإعلان سعر الصرف السائد يومياً.
يجب على الدولة أن لا تتقاعس في أخذ إجراء تحرير وتعويم سعر العملة الوطنية. إن أثره على رفع الأسعار سيكون لمرة واحدة إذا رافقه تحقيق توازن مالي. ومن المتوقع أن يتوقف تدهور سعر صرف الليرة على أثر تقليص الطلب على السلع والخدمات المستوردة من قبل القطاعين الخاص والعام.
رابط المقال: اضغط هنا