إقتصاد

هكذا اوجدت بلاد ما بين النهرين حلاً مستداماً لأزمة الديون قبل ٥٠٠٠ عام

عن Truth out

5000 عام مضت على على قيام أول اقتصاد مستدام في العالم.. فهل هناك من قدم حلول منطقية لأزمة الديون اللانهائية!
يعتبر الوصول إلى ذروة الدين من الأمور المألوفة داخل أروقة عالم الاقتصاد والأعمال، ولعل الوصول إلى تلك المرحلة الصعبة يحدث عندما يتفاقم حجم الدين بشكل تراكمي، والأمثلة على ذلك لا حصر لها؛ فهناك ديون الطلاب، وديون بطاقات الإئتمان، والديون المترتبة على قروض السيارات، والديون السيادية وغيرها، ومن الملاحظ أن جميع أنواع الديون قد تضاعفت خلال السنوات الأخيرة بصورة غير مسبوقة، ولعل العبارة الشهيرة التي ذكرها الاقتصادي مايكل هدسون في كتابه الصادر عام 2018 حيث قال:” قد نضطر أحيانا إلى العفو عن الديون، فالديون التي لا يمكن سدادها؛ لن يتم سدادها أبدا” تفسح المجال لطرح تساؤل هام وهو :” كيف يمكن أن تكون الديون غير قابلة للسداد!”
تطرقت بعض النماذج الاقتصادية إلى تلك المسألة بالتفصيل؛ بزعم أن مشكلة الدين ترجع في الأساس إلى “اليد الخفية في السوق” والتي تعبث بمقدرات الأمور بحجة أن الاتجاهات العامة في السوق سوف تعمل على تصحيح ذاتها تلقائيا. ولكن في الحقيقة؛ فإن هذا التصحيح يحدث بالفعل على حساب المدينين الذين يصبحون أشد فقرا، هذا في الوقت الذي يزداد فيه الأغنياء ثراء، فنجد أن الأغنياء قد يضطرون إلى نزع ملكية بعض المقترضين لمنازلهم وسبل عيشهم، وذلك من خلال قيامهم بشراء المنازل بأسعار بخس وإعادة استئجارها لمتوسطي ومحدودي الدخل، والذين يضطرون للعمل بدورهم لدى الأغنياء من أجل الحصول على الأجر اللازم لسد احتياجاتهم.
وبالنظر إلى حال البنوك؛ فإنه إذا ما حدث وأفسلت بعضها، فإن الحكومة تسعى إلى إنقاذها كنوع من تصحيح الأوضاع داخل السوق، ولعل هذا التدخل من جانب الحكومة يحدث في نهاية الدورة الاقتصادية في الأساس بهدف إنقاذ الدائنين وأصحاب الأموال والذين لهم اليد العليا، فهم من يستطيعون استقطاب بعض الرموز السياسية في الدولة، ووفقا لما يراه المدافعين عن السوق الحرة؛ فإن هذه الدورة الاقتصادية يمكن تشبيهها بالتقلبات الجوية وتعاقب الفصول والتي يشهدها العالم منذ نشأة الاقتصاد القديم لدى كلا الحضارتين اليونانية والرومانية.
ويؤكد هادسون في كتابه على أن النظم الاقتصادية الكلاسيكية لا تشكل النواة الأولى لنشأة النظام الاقتصادي الذي نعيشه حاليا، فالرأسمالية لم تنشأ من المقايضة كما يزعم البعض، بل جاءت نتيجة تطور النظم الائتمانية التي استمرت لنحو ألفي عام في بلاد ما بين النهرين ( والتي تضم أجزاء من العراق والكويت وإيران وتركيا) في الوقت الحالي، ويبرهن على ذلك بأن جميع الأعمال المصرفية والمشاريع التجارية والمحاسبة لم تنشأ من خلال صفقات الذهب والتجارة الخاصة، ولكن من خلال مساهمات القطاع العام والمتمثل آنذاك؛ في قصور ومعابد أصحاب الحضارة السومرية في القرن الثالث قبل الميلاد، حيث عمدت الحكومة إلى إسقاط المديونية وتقديم بعض الإعفاءات بصورة دورية وليس المبالغة في تراكم الدين على المدينين حتى ينهار الجميع، ولعل ذلك كان السبب الرئيسي في استمرار ذلك النظام الاقتصادي لفترة طويلة من الزمن.
كيف نشأت فكرة النقود والبنوك؟
يتساءل الجميع عن الجذور الحقيقية للنقود ومن ثم ظهور فكرة إنشاء البنوك، وهنا يمكن الإجابة بأن أصحاب الحضارة السومارية هم أصحاب الفضل في تقديم هذا النموذج الاقتصادي للعالم أجمع، فتلك الحضارة هي الأولى من نوعها من حيث القدرة على تسجيل الإنجازات التي حققتها عبر آلاف السنين، ولعل من أهم تلك الإنجازات؛ التقويم القمري والنظام العددي والرموز القانونية وصناعة الأدوات النحاسية والأسلحة، كما تمكنت الحضارة السومارية من إنتاج أول لغة مكتوبة في الوجود والتي اتخذت بعض الأشكال المسمارية المحفورة على الطين للتعبير عن الأعداد، فكانت بمثابة النظام المحاسبي الأول في العالم، والذي نشأ في الأساس بهدف حساب كميات المواد الغذائية والمواد الخام التي يتم إدخالها إلى المعابد والقصور، بالإضافة إلى سندات الدين الخاصة بالمؤسسات العامة بالدولة، وقد سمح هذا النظام الجديد بتنظيم جميع مراحل عملية الزراعة كما مكن التجار من الانخراط في التجارة الخارجية.
وبحسب بعض المؤرخين، فإن ابتكار الكتابة المسمارية ربما جاء في الأساس انطلاقا من الحاجة إلى احتساب أعداد القوى العاملة والخاضعين جميعهم للنظام البيروقراطي بالدولة، وقد تقبل العاملون القبضة البيروقراطية للدولة عن طيب خاطر، ظنا منهم بأن الآلهة هي المسئولة عن إصدار مرسوم ملكي بتكليف البشر بتكبد الأعمال الشاقة في المزارع والمناجم وذلك بعد أن تمردت فئة قليلة من الآلهة وتنصلت من جميع الأعمال الموكلة إليها.
ومنذ ذلك العصر القديم، كان الربا أو فرض الفائدة على القروض بمثابة جزءا لا ينفصل عن النظام الائتماني في بلاد ما بين النهرين، وكانت أسعار الفائدة مرتفعة جدا وبقيت على حالها لمدة نحو ألفي سنة، ولكن فيما يبدو أن الخبراء في الحضارة السومارية كانوا على دراية تامة بـ “الديون الغير قابلة للسداد” وذلك على عكس المناهج الاقتصادية في عصرنا الحالي.
نجح السومريون في التوصل إلى حل لمشكلة “ذروة الديون” وذلك من خلال إسقاط الديون الزراعية وإعفاء بعض المدينين من نظام العمل كمستأجرين في قطع الأراضي المملوكة لهم، حيث كانت الأرض آنذاك ملكا للآلهة تحت إشراف المعبد والقصر ولا يمكن بيعها، وبذلك فقد نجح المزارعين في الاحتفاظ بأملاكهم الخاصة المستأجرة لهم إلى الأبد نظير التنازل عن حصة من محاصيلهم الزراعية لصالح القصر إلى جانب الخدمة في الجيش والمشاركة في أعمال تطوير البنية التحتية، وبالتالي فقد كان هذا النظام توافقيا ذو منفعة متبادلة، فقد كان القصر في حاجة إلى خدمات المزارعين أيضا.
من الأخطاء الفادحة التي وقع فيها كل من روما واليونان قديما هو تطبيق نظام القروض مع تحديد أسعار الفائدة المأخوذ عن بلاد ما بين النهرين ولكن دون وضع صمام أمان للمدينين والمتمثل في سياسة “الألواح النظيفة” أو الإعفاءات الدورية من الديون المتراكمة على عاتق بعض المواطنين، وذلك لأن الدائنين لم يكونوا من الجهات الرسمية بالدولة بل آل الأمر إلى المقرضين من القطاع الخاص، وقد نتج عن انتشار الربا غير المقيد تزايد العبودية ونزع ممتلكات الفقراء وضمها إلى حيازة الأغنياء، مما أدى إلى اتساع الهوة بين طبقات المجتمع والانهيار التام للامبراطورية الرومانية في الأخير.
ويرى هادسون أن التطور الذي حدث على صعيد حقوق الملكية والديمقراطية في روما واليونان، ما هو إلا فائدة كبيرة مقدمة للأغنياء على حساب الفقراء الذين سيطروا على الانتخابات في ذلك الوقت، ولعل ذلك المثال ينطبق على عصرنا الحالي، فقد تمكن الأثرياء من خلال السلطة الممنوحة لهم من قبل الحكومات المحلية والمتمثلة في خصخصة الأراضي المملوكة سابقا للدولة من تمرير بعض القوانين التي تخول لهم مصادرة ممتلكات الأفراد في حال عجزهم عن سداد الديون، فمصطلح “الأسواق الحرة” يعني إذن حرية جمع الثروة الهائلة على حساب الفقراء والدولة.
كان هذا هو مصير المدينين في الاقتصادات الغربية الحديثة، أما في بعض الاقتصادات غير الغربية فقد تم تطبيق سياسة إسقاط المديونية بشكل أو بآخر، ففي الصين مثلا تم وضع بند “القروض المتعثرة” لدى بعض البنوك المملوكة للدولة أو تطبيق الإعفاء التام بدلا من وضع المدينين في مأزق الإفلاس وربما يتسبب ذلك في إفلاس البنك أيضا.
إن النظام المصرفي في الصين ، يتشابه إلى حد كبير مع نظام بلاد ما بين النهرين القديم ، حيث يتم تطبيقه في القطاع العام ، وبالتالي يمكن للدولة أن تدعم بنوكها بالسيولة حسب الحاجة. ومن المثير للاهتمام ، أن الدولة الصينية تحافظ أيضًا على الممارسة القديمة في الشرق الأدنى المتمثلة في الاحتفاظ بملكية الأرض ، والتي لا يمكن للمواطنين استئجارها من الدولة إلا لفترة من الزمن.
أما في الاقتصادات الغربية الحالية، فإن معظم البنوك تخضع للملكة الخاصة ولديها الكثير من القواعد المشددة تجاه عملائها مع احتفاظها باحتياطي نقدي هائل، وهذا ما يجعل الأشخاص المتعثرين في سداد الديون يقعون تحت طائلة نظام الرهن والذي قد يؤدي بهم أحيانا إلى فقدان وظائفهم، ويكمن الخطر هنا في التقشف الناتج عن تلك السياسات البنكية الصارمة . والجدير بالذكر أن إدارة الرئيس ترامب تسعى حاليا بقوة إلى شن حرب تجارية مع الصين في محاولة لإجبارها على اتباع نفس النهج التقشفي الناجم عن النظام الرأسمالي في أمريكا، ولازالت رحى الحرب غير واضحة الملامح حتى الآن.
وتبقى الأزمة في محاولة التوصل إلى حل لسداد ديون المتعثرين ومنح أصحاب الدين حقوقهم الكاملة دون الإضرار بمصالح المدينين.
ومن الحلول التي تم طرحها في هذا السياق هو تأميم البنوك المتعثرة وشراؤها من قبل البنك المركزي، وحل آخر يتمثل في قيام البنك المركزي مباشرة بإنقاذ المتعثرين بصورة تلقائية عن طريق شراء ديون الطلاب والسيارات مثلا في صورة أوراق مالية مدعومة بالأصول، ويتم بعد ذلك النظر في إما جدولة الديون أو إسقاطها تماما.
ولايزال الجدل قائما بين الاقتصاديين في محاولة الوصول إلى حل لأزمة تفاقم الديون أو الديون الغير قابلة للسداد.
رابط المقال
اضغط هنا

إيناس الشوادفي كاتبة ومترجمة محترفة

كاتبة ومترجمة مصرية تخرجت في كلية الإعلام بجامعة القاهرة عام ٢٠٠٤. قطعت شوطا لا بأس به في مجال الصحافة والكتابة المستقلة لدى عديد من المواقع العربية. صدر لها بعض المؤلفات المعنية بالشأن الخليجي وهما " تحولات السياسات الإعلامية في دول مجلس التعاون الخليجي في أعقاب ثورات الربيع العربي"، و" زايد في عيون الصحافة العربية والغربية". كما نجحت في طرق أبواب مجالات أخرى كالتدريس والتدريب والتوظيف وغيرها.. تناضل من أجل إعلاء شعار " اجتهد في عملك.. لتستشعر قيمتك".

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى