إقتصادالاحدث

هل استخف آدام سميث بتفاني والدته فأنتج نظرية اقتصاد المنفعة؟ | بقلم د. بولا الخوري

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

في كتابه “ثروة الأمم” يتساءل الاقتصادي آدام سميث: كيف نؤمّن عشاءنا؟ وإجابته على هذا السؤال اشتهرت كثيرًا بعد ذلك وأصبحت نموذجًا لفكره الاقتصادي الليبرالي، وهو الذي يعدّ من أكثر المفكرين الاقتصاديين تأثيرًا في الفكر الاقتصادي الكلاسيكي بل حتى في اقتصاديات اليوم.

ويجيب سميث على سؤاله بالكلمات التالية “لا نستطيع أن نؤمن عشاءنا بفضل كرم نفس الجزار أو صانع الجعة أو الخباز، بل بفضل القيمة التي يعلقونها هم على مصلحتهم الشخصية. فعندما نطلب خدماتهم، فإننا لا نتوسل إنسانيتهم بقدر ما نتوسل حبهم لذاتهم، ولا نحدثهم أبدًا عن حاجاتنا بل عن الإفادة التي يمكن أن يحققونها هم.”

لهذا دعا آدام سميث إلى تعزيز المبادرة الفردية، وحرية المنافسة والتجارة، بوصفها الوسائل الفضلى لتحقيق أكبر قدر من الثروة والسعادة. وخلص الى أن الفرد هو أفضل حكم عند تقرير مصلحته الخاصة، ويجب بالتالي تركه حرًا في سلوكه لتأمين اشتغال الاقتصاد وتحقيق الوفرة، وهذا عماد الفكر الاقتصادي الليبرالي الذي يرفض تنظيم الاقتصاد من خلال تدخل الدولة. فمن شأن هذا الاقتصاد برأيه أن يحقق التوافق والانسجام بين المصالح الخاصة وبين المصلحة العامة. وهذا مؤدى نظريته عن “اليد الخفية” التي تعني أن الأفراد في سعيهم إلى تحقيق مصالحهم الخاصة يحققون – دون وعي منهم – المصلحة العامة.

توفي والد سميث قبل ولادته بشهرين، فكرّست أمه مارغريت دوغلاس حياتها لتربيته. كان سميث متعلقًا بها وتشير سير حياته الى أنها هي التي كانت تشجعه على مواصلة طموحاته العلمية. ومع ذلك في إجابته على السؤال الذي يطرحه حول عمن يؤمن له العشاء لم يذكر والدته.

تنطلق الصحافية السويدية كاترين مارسال من هذه الفكرة في كتابها “من كان يحضّر عشاء آدام سميث؟”1 الذي صدر عام 2012 وترجم حتى اليوم الى عشرين لغة، لتبيّن أثر تغييب عمل النساء على نظرية سميث وعلى الفكر الاقتصادي السائد حتى اليوم.

وتقول لو أخذ سميث والدته بعين الاعتبار حين أجاب على تساؤله لكانت تغيرت الصورة تمامًا. ليست المصلحة الشخصية وحدها ما يحدد من يؤمن عشاءنا. ما تحضره مارغريت دوغلاس لإبنها نابع من الحب والشعور بالواجب والاهتمام بمصلحة الآخر. وهذه كلها عوامل لا تؤخذ بالاعتبار في الاقتصاد مع العلم ان لها نتائج فعلية على الأفراد وعلى المصلحة العامة. لولا عاطفة والدته واهتمامها بشؤونه لما كان سميث ليحقق ما حققه لنفسه وللبشرية.

تعتبر كاترين مارسال ان الاقتصاد الحديث بُني على بُعد واحد من أبعاد الانسان وهو البُعد العقلاني. ويشدّد الاقتصاديون الكلاسيكيون على محورية هذا البُعد الذي يدفع الانسان للبحث بشكل متواصل عن المنفعة التي يمكن أن يحققها من أي ظرف كان أو علاقة بالآخر، أي ما يعرف بعلاقات المصلحة.

وتضيف إن تعريف الإنسان ببُعده الاقتصادي وحسب يعني إنه كائن تنافسي، لا يتأثر بأي مشاعر وقادر على التحكم بالأمور باستمرار، إنه شخص لا يمارس عليه الآخرون أي تأثير كما لا يعتمد عليهم لا بل يتوجس منهم، وهذه خصال تنسب تقليديًا الى الذكورة. بالمقابل يقصي الاقتصاد كل ما يتعلق بالمشاعر والأحاسيس أو الاعتماد على الآخرين وحتى طلب مساعدتهم في علاقات التبادل الاقتصادي، وهذا ما يُنظر إليه تقليديًا على أنه خصال أنثوية. وقد نشأنا على هذا النموذج الذي يبعدنا باستمرار عن الميزات والسلوكات التي تنسب عادة للنساء.

نستطيع رؤية أثر فكرة مارسال بوضوح في وضع المرأة في المؤسسات، فحتى تنجح في عملها أو حتى لمجرد الحفاظ عليه فإنها تعتمد الخصال الذكورية التي لا تخضع للخيارات الشخصية بل هي نمط سائد وناظم لعلاقات الأعمال، التي تقصي على الدوام الذين يشذّون عن القواعد المتبعة أكانوا نساء أم رجالًا.

وتعتبر الكاتبة أنه منذ صدور كتاب سميث عام 1776 حتى اليوم ما زال الوضع مشابهًا الى حد بعيد في الفكر الاقتصادي وفي حساب الدخل الوطني عبر العالم. وبالرغم من تطورات مهمة من حيث احتساب مساهمة النساء في الاقتصاد بتخطي المعايير الكلاسيكية، فإنها تبقى غير شاملة ومتفاوتة جدًا من بلد لآخر. وهذا أمر يشوّه الى حد بعيد معرفتنا بالاقتصاد الحقيقي.

في إحدى المقابلات التي أجرتها حول كتابها تذكر مارسال أزمة الكوفيد ومفاعيلها الاقتصادية، فتعتبر أنها معاكسة تمامًا لما حدث في أزمة 2008-2009. في ذلك الوقت، بدأت الأزمة في عالم المال، هذا الجزء المجرد في الاقتصاد، ثم عندما انهارت البنوك أصبحت العواقب ملموسة مع ظهور البطالة والمشاكل الصحية، والصعوبات في العثور على السكن أو الطعام، إلخ. لكن هذه المرة تبدأ الأزمة في جسم الإنسان عبر الفيروس، فتقرر الحكومات وقف النشاط الاقتصادي. وهذا تذكير قوي لنا بأن الاقتصاد يعتمد على الجسد بكل أبعاده وأن مصلحة البشر الحياتية قد تتعارض كليًا مع الاقتصاد بتعريفه السائد.

ويمكننا الاستطراد من فكرتها هذه للقول بأن هذه الأزمة نبهتنا أيضًا إلى أن عدم الشعور بالأمان يدفع الإنسان الى نشاطات تتميز بالحميمية واللجوء الى المجال الخاص، وهذه تتميز بكونها فضاءات نسائية تقليديًا. وهكذا فإن الناس المحجوزين في منازلهم رجالًا ونساء بدأوا يؤمنون تحضير خبزهم اليومي بأنفسهم أو الزراعة والحياكة والعديد من الحاجيات التي كانوا يعتمدون فيها على إقتصاد السوق. وفي ذلك نوع من تبني الاقتصاد النسائي البيتي.

يدفعنا كتاب مارسال للتفكير بظواهر نعرفها بديهيًا دون الحاجة الى أرقام. مثلًا الحجم الاقتصادي للوظائف مقابل أجر التي تستنسخ بالتمام عمل النساء المجاني، ومنها العناية بالمرضى والمسنين خارج المشافي ودور الرعاية والتي تضاف الى الوظائف العديدة التي كانت تقوم بها النساء يوميًا، بينما تعتبر اليوم مهنًا قائمة بذاتها.

قد يعني ذلك أنه على المجتمع أن يقاضي النساء أجرًا على أعمالهم المنزلية والرعائية، وهي فكرة جدية تطرح من قبل بعض الاقتصاديين، وتعتمد بعض تطبيقاتها في بعض البلدان وبدون تمييز جنسي: مثلًا منح الرجل إجازة أبوية بعد ولادة طفل لديه، أو تأمين مساعدة مادية شهرية لمن يعتني بمريض في منزله مثلًا في حالات مرض الألزهايمر. وفي ذلك نوع من الحساب الاقتصادي لكل نشاط انساني بغية توفير معطيات حقيقية عن اقتصاد البلدان. كما أنه يواكب التطورات الاجتماعية حيث بدأ العديد من الرجال اضطرارًا أو إختيارًا القيام بأعمال رعائية وبتربية الأطفال وغيرها من النشاطات التي كانت تعتبر نسائية.

هناك أيضًا ما تؤمنه النساء في منازلهن من اقتصاد في مصاريف العائلة بما تنتجنه من مأكل وملبس أو تفاوض عليه في السوق للبحث عن السعر الأكثر انخفاضًا، كل ذلك غير محسوب مع العلم أنه يساهم في توسيع هامش مداخيل العائلة من خلال الاقتصاد بالمصاريف.

من ناحية أخرى، لا تفسّر علاقات المنفعة كل أشكال التبادل التجاري بين الناس. ما زلنا نرى في المجتمعات التقليدية كيف انه حتى في العلاقة بالخبّاز والجزّار والتاجر والسمّان لا تنحصر بالبعد النفعي وحسب، لا بل هي علاقات اجتماعية حقيقية تتخطى بعد المصلحة وقد تتطور الى صداقة. وهذا ما بدأ يظهر في الغرب من المطالبة بالحفاظ على المحال الصغيرة في الأحياء بمواجهة المراكز التجارية الكبرى لأنها تحفظ البعد الإنساني للعلاقات التجارية (الكثير من الناس يقصدون المحال الصغرى لعلاقة تربطهم بالتاجر ويشترون أحيانًا ما يتخطى نيتهم الأصلية قبل دخول المتجر)، كما تحفظ الاقتصاد أيضًا من خلال الحفاظ على المهن الصغرى.

يظهر أكثر فأكثر في أيامنا هذه أثر الاقتصاد النسائي على مداخيل العائلة والمجتمع من خلال إضطرار النساء بفعل الأزمات المتلاحقة للإقتصاد الليبرالي تحديدًا، إلى إطلاق مشاريعهن الخاصة التي تعتمد بشكل أساسي على مهاراتهن التقليدية والمفاعيل الإيجابية لهذه النشاطات على صحة المستهلكين وعلى البيئة. ومن ناحية ثانية تبيّن دراسات أجريت في السنوات الأخيرة أن الرجال رواد الأعمال يميلون أكثر فأكثر الى تبني قيّم يعرفونها هم كنسائية في إدارة الأعمال من مثل التعاون بدل التنافس، أو الاهتمام بوضع العمّال النفسي وارتياحهم في أدائهم لعملهم، أو التشاور بدل الهرمية، وما الى ذلك من سلوك كان مرفوضًا حتى اليوم في المؤسسات.

تعتبر مارسال انه إذا لم يتم حساب وتثمين النشاطات التي تقوم بها النساء في المجتمع، فإن ذلك سيساهم في بقاء الاقتصاد عرضة للأزمات المتلاحقة والمتشابهة ولن يوفر الرفاهية للبشر. وعلينا أن نفكّر من الآن وصاعدًا في مسألة القيمة: ما هي القيمة؟ كيف نقيسها؟

وتستشهد بالاقتصادية النسوية نانسي فولبر التي تقترح استخدام مفهوم “القلب الخفي” بدل “اليد الخفية” التي تروج لها نظرية المنفعة كدافع وحيد للتبادل الاقتصادي بين البشر.

المرجع:

Katrine Marçal. Who Cooked Adam’s Smith Dinner? A Story about Women and Economics. London: Portebello Book, 2012 (English translation 2015)

د. بولا الخوري باحثة وصحافية في علم الاجتماع

د. بولا الخوري، باحثة مشاركة في مركز التحليل والتدخل الاجتماعي CADIS في معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس EHESS - CNRS. لدى الخوري خبرة لأكثر من 20 عاماً كعالمة اجتماع وصحافية، حيث تساهم في تعميم نظريات العلوم الاجتماعية في الصحافة بغية جعلها بمتناول الجمهور غير الأكاديمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى