يعتبر ” بول فولكر“، الرئيس الثاني عشر للمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (1979-1987)، قاهر التضخم. فعند استلامه لمهامه كان معدل التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية قد وصل الى نحو 14.6% بسبب أزمة طاقة عالمية بدأت منذ السبعينيات أدت إلى ارتفاع أسعار النفط العالمية وارتفعت معها الأسعار، ووصل معدل البطالة الى حوالي 7.2%، وبدأ الاقتصاد في مرحلة من الركود مع وصول معدل سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية الى أكثر من 10%. واتبع “فولكر” سياسة رفع أسعار الفائدة دون هوادة – لكبح جماح الارتفاع الكبير في الأسعار – لتصل الى حوالي 20% خلال الأعوام اللاحقة، مما أدى الى انحسار التضخم الى معدله المستهدف آنذاك والبالغ حوالي 4.4%. ولكن في المقابل، أدت تلك السياسة النقدية المتشددة بشكل كبير الى تراجع النمو الاقتصادي الى المنطقة السالبة وارتفاع البطالة الى أكثر من 10%.
يبدو أن السيناريو ذاته يعيد نفسه الآن، فأسعار النفط هي أحد أسباب ارتفاع التضخم العالمي – لكنها ليست الوحيدة، التشدد النقدي بدأ منذ بداية العام الجاري، النمو الاقتصادي يشهد مزيداً من التراجع، ولكن التضخم المستهدف يتراوح في متوسطه عند 2%. فهل يحذو ” جيروم بأول” الرئيس الحالي للاحتياطي الفيدرالي حذو “بول فولكر”؟
ولكن ما يختلف حالياً عن عقد الثمانينات من القرن الماضي هو الترابط الكبير بين الأسواق العالمية والتي من شأن السياسة الفيدرالية الامريكية التأثير على الدول الأخرى لا سيما النامية وعلى حجم الدين العالمي وكلفة خدمة الدين وكذلك على الاقتصادات التي تربط عملاتها بالدولار الأمريكي. والتخوف الأكبر هو احتمال انزلاق الاقتصادات الكبرى، خاصة الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، وبالتالي الاقتصاد العالمي الى أسوء من ركود اقتصادي، وقد يصل الى أزمة عالمية، في ظل تكاثف الغيوم على الاقتصاد العالمي إيذانا بالعاصفة. وستعيد صدمات هذا العام فتح جراح اقتصادية لم تندمل إلا جزئيا في أعقاب الجائحة. وخلاصة القول إن الأسوأ لم يأت بعد، وسيشعر الكثيرون بوطأة الركود خلال عام، كما يقول صندوق النقد الدولي 2023.
فالبنوك المركزية يبدو أنها قد فشلت حتى الآن في إيجاد سعر “الفائدة المحايد” في سياستها النقدية، وهو السعر المتوازن الذي لا يحفز النمو ولا يهدئ وتيرته، وبالتالي عمد الاحتياطي الفيدرالي وغيره من البنوك المركزية حول العالم الى تحديد سعر فائدة متوقع يفوق المعدل “المحايد”، وبذلك تكون تلك البنوك المركزية وفي طليعتها الاحتياطي الفيدرالي قد أعلن لأول مرة في هذه الدورة أنه مستعد للتضحية بنمو الناتج المحلي الإجمالي مقابل السيطرة على التضخم، والذي كان ينظر اليه في وقت سابق من العام الماضي بأنه عابر وليس مستمراً، ليتبين العكس بعد ذلك. ومع ذلك، يبدو أيضاً بأن البنك المركزي الأوروبي مصمم على فعل “أي شيء على الإطلاق” لخفض التضخم حتى في “أي شيء” يعني ضمناً ركودًا شديدًا وضررًا دائمًا لاقتصاد الاتحاد الأوروبي.
فالتساهل أو الافراط في تشديد السياسة النقدية يؤديان كلاهما إلى عدة مخاطر. فالتساهل قد يؤدي إلى استمرار ترسخ القوى التضخمية، وتراجع مصداقية البنوك المركزية، وانفلات ركيزة التوقعات التضخمية، ولن يؤدي ذلك سوى إلى تحمل تكلفة أكبر في نهاية المطاف لكبح جماح التضخم. أما الإفراط في التشدد وبالسرعة المعتمدة حالياً، فقد يؤدي إلى دفع الاقتصاد العالمي نحو حالة من الركود الحاد بلا داعٍ، وقد تعاني الأسواق المالية بدورها في سبيل التكيف مع التسارع الحاد في وتيرة التشديد. وما بين التساهل والإفراط، تتفاوت تداعيات هذه السياسات المغلوطة.
إن العاصفة الكاملة التي تواجه العالم، تؤكد الحاجة إلى التعاون الاقتصادي الدولي على كافة الصعد الاقتصادية والسياسية والنفطية والنقدية. فالاستجابة لهذه الأزمة العالمية حتى الآن كانت غير منسقة وتهدد بتدمير الاقتصاد العالمي في ظل عودة وباء كورونا وتصاعد التوترات الجيوسياسية لا سيما الحرب الروسية الأوكرانية. خلال فترة الكساد الكبير في الثلاثينيات من القرن الماضي، شرعت الدول في سياسات مؤذية على نطاق واسع، حيث حاولت كل دولة زيادة قدرتها التنافسية في مواجهة انخفاض قيمة العملة. اليوم، نشهد العكس، حيث تسعى الدول إلى سباق غير منسق نحو القمة في أسعار الفائدة لخفض التضخم المستورد.
فالتضخم يرفض التزحزح، وحتى مع وجود ركود اقتصادي يلوح في الأفق، فمن غير المرجح أن يتخلى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنوك المركزية الاخرى عن سياستها النقدية العدوانية المتمثلة في رفع أسعار الفائدة. هل يكرر التاريخ نفسه كما حصل منذ أربعة عقود، هل سنتخلى عن خيار استدامة النمو الاقتصادي، أم نستمر في علاج التضخم؟ خيارين، أفضلهما مرّ، فبين الموت السريري والموت الرحيم: هل تنفع معها الزيادة في جرعات الفائدة؟