لو كان ثمة علمٌ يتأبَّى على الانحصار في كهفه الخاص، ثم يمضي لاستباحة حقول مجاورِيِه من العلوم الإنسانيّة، فتلك هي الأنثروبولوجيا. علّة الأمر، أنّ هذه الأخيرة، شكَّلت واحدة من أكثر دروب العلم نزوعاً إلى غزو أرض الجوار من دون أن تلقى منعاً ولا دفعاً ولا اعتراضًا. توغَّلت في الحقول كلّها من دون أن تضمحل في أيّ منها. تجري في الفلسفة مجرى دنياها وتأنف الانصياع إلى سطوتها. تتسلّل في ثنايا علم الاجتماع ولا تركن إلى مدارسه وتياراته، وكذلك ترعى الاستشراق فلا تتوقّف عند مبانيه ووظائفه. ومع كلّ هذه المفارقات المثيرة للالتباس، يصير من الصعوبة بمكان على الأنثروبولوجيا أن تدَّعي علماً مستقلاً بذاته، يريد الإحاطة بظاهرة الإنسان، وسرّ وجوده.
قد تكون هذه الفرضيّة هي الأكثر تناسباً مع المنطق الذي يبتغي الاستفسار عن ظاهرة فريدة ومفارقة، كظاهرة الإنسان. ربما صحّ في هذا المقام ما انتهى إليه أبو حيان التوحيدي في قوله إنّ “الإنسان قد أشكل عليه الإنسان”. والبيِّن من هذا، أنّ إشكال الإنسان على نفسه هو الأصل الذي منه مضى فلاسفة الغرب على امتداد الأزمنة نحو الاستفهام الشاق عن الماهية الغامضة للكائن الإنساني. ومثل هذا الغموض بالذات، سيكون سبباً جوهرياً في جنوح العقل الأنثروبولوجي الحديث نحو التشاؤم والعدمية. حتى إن الفيلسوف الفرنسي من أصل روسي ألكسندر كوجيف (1902-1968)، سينبري إلى تشبيه الإنسان بالليل، أو بالعدم الفارغ الذي يحتوي كل شيء على الرغم من خوائه. وفي عام 1928، وقبل وفاته ببرهة سيعربُ الأنثروبولوجي والفيلسوف الألماني يوهان شيلر عن الأسى نفسه: “في العشرة آلاف سنة الأخيرة من التاريخ على وجه التقريب، نحن الجيل الأول الذي أشكل فيه الإنسان على نفسه إشكالاً شاملاً، حتى غدا لا يُعرفُ ما هو، ويعرِفُ أيضاً في الوقت نفسه أنه لا يُعرَفُ ما هو”…
إذا كان العقل الغربي قد تعامل مع الإنسان بوصفه ظاهرةً مجهولةً ومريبةً، فليس من باب المصادفة أن يُلزِمَ هذا العقلُ نفسه بعقد ميثاق لا يبور بين الأنثروبولوجيا والفينومينولوجيا كدربتين للاستفهام عن وجود الإنسان في العالم. ما هو معلوم.. إنّ من شأن الظاهراتيّة الاكتفاء بفهم عوارض العالم وظواهره، بصرف النظر عما يتخفَّى وراءها من حقائق وأسرار. وهذا هو السبب الذي سيحدو بالفكر الغربي الحديث إلى توليد سلسلة من المفاهيم لا ترى على الجملة إلى الإنسان إلا بوصفه كينونة ماديّة منزوعة من أبعادها الميتافيزيقية وآفاقها الروحانيّة.
لقد حطَّت الأنثروبولوجيا بما هي دراسة الإنسان، في ماهيّته وظروف نشأته وشرائط عيشه، داخل حقلٍ فسيحٍ له مكانته التأسيسيّة في عقل الغرب وسلوكه. سوى أن هذه المكانة ما كانت لتكون على هذا النحو من الرسوخ، إلا لتجانسها مع الشاكلة التكوينيّة لهذا العقل، ناهيك عن طبائعه الحضاريّة والثقافيّة والسايكولوجيّة التي استقرّ عليها. معطيات التاريخ ستُظهر لنا كيف استقام المبدأُ المؤسِّس للعقل الحضاري الغربي على مركزيّة الإنسان، وكيف صار الكائن الإنسانيُّ نفسه، هو الحقل الذي تُستَنْبتُ فيه مجمل مذاهبه وتياراته ومفاهيمه. والثابت أن جرى مثل هذا الأمر بثبات، حتى أوشكت الأنثروبولوجيا أن تصبح المحرّك الجوهري لحضارة الغرب برمّتها.
الدربة الأنثروبولوجيّة في تفكير الغرب، ستتمدَّد آفاقها الى ما يجاوِزُ كونها منهجاً لدراسة الجماعات البشرية، ومعاينة نَشَآتها ومعتقداتها. فما ظهر من مسالكها في مقام التجربة التاريخيّة الحديثة، يقيمها في منزلة هي أدنى إلى الممارسة الإيديولوجية منها إلى العلم بما هو علم. لنا أن نلفت – على سبيل التَّبيين – أن تحيُّز الأنثروبولوجيا – واستحالة أن تكون مناهجها وموضوعاتها علماً محايداً – يظهر جلياً بين القرنين التاسع عشر والعشرين، لمَّا طوّر الفرنسي جورج دولابوج (1854-1936) نوعاً من الأنثروبولوجيا العنصرية مَالَت إلى البرهنة على مدَّعى التفوّق العرقي للآريين الأوروبيين، حيث صاغ نظريّةً أدخل فيها معيار صفاء دمهم، وطُهْرَ نفوسهم حيال الأعراق الأخرى.
في هذا المحل بالذات، لن يكون من الصواب في شيء، أن توضعَ الأنثروبولوجيا في التفكير الأوروبي الحديث موضع الحياد. وليس من قبيل العَرَض العارض أن يجري تقديمها كعلم لا مرَامَ له سوى درس المجموعات البشريّة وتوصيف أحوالها. حتى المنصفون من فلاسفة التاريخ وعلماء الاجتماع، ستأخذهم الحَيْرة وهم يتاخمونها كمذهب ومنهج في قراءة الظاهرة الإنسانيّة. أما الذين مضَوْا إلى رفدها بنظريّة معرفة – كما هو حال عالم الإناسة الفرنسي من أصل بلجيكي كلود ليفي – ستراوس (1908-2009) – فسيخوضون لجَّة القلق والاضطراب بلا هوادة. لقد انصرف الأخير إلى إضفاء الصفة العلميّة على الأنثروبولوجيا في سياق محاولةٍ يائسةٍ لتسويغ علم اجتماعٍ محايدٍ ينأى من التحيّزات. ومع أنّه في محاولته تلك، كان ينقضُ ما سبق واعتَقَدَه من أنّ هذا العلم لا يستطيع أن يتخلَّص كلياً من كونه أسطورياً، لم يحسن ستراوس هضم الفكرة التي تشكك في إمكانيّة قيام “علم إنسان” محايد. بيان الأمر، أنّ عدم استعداده للقبول بمثل هذه النتيجة، إنما يكشف عن نزوعه إلى علمٍ غائيٍ قابل للتوظيف في نطاقه الحضاري المخصوص. ومن هذا النحو سيرتضي لنفسه أن يكون أحد أبرز منظري المركزيّة الغربيّة المعاصرين في الفضاء الأنثروبولوجي.
لم يكن علمُ الإنسان إذاً، علماً بريئاً في السياق التاريخي للثقافة الغربية. لهذا الداعي، غالباً ما كان علماء الأنثربولوجيا المعاصرون يصطدمون بمعاثر جمّة، لدى تحديدهم نظرية معرفة لموضوعاتهم. قد يكون بالإمكان تعريف الأنثروبولوجيا الاجتماعية –على سبيل المثال-، بأنها العلم الذي يحدد طبائع وميول المجتمعات الإنسانية، إلا أن مجال هذا العلم ظل منحصراً بماضي المجتمعات التي عُرِفت حيناً بـ “المتوحشة” أو “البدائية”، وحيناً بـ “التقليدية” أو “القديمة”؛ لكن المغامرة التي انبرت إليها أنثروبولوجيا الحداثة، أنّها تعاملت ولا تزال تتعامل مع العالم غير الغربي على أساس التصنيف البدائي المشار إليه.
ربما غاب عن أنثروبولوجيي الحداثات المتعاقبة، أنّ عالم ما بعد الاستعمار لم يعد مجرّد فضاء لاختبار النظريات القهرية لفلاسفة الاستعمار. غير أنّ علماء الأنثروبولوجيا وبسبب من سطوة السلطة المعرفية الحاكمة في الغرب، لم يستطيعوا رفع التناقض بين الاستعمار وبين العلم الذي يمارسونه. ومع ذلك، فإنّ هذه الوضعيّة لم تكن لتستحثُهم إلا نادراً لمراجعة علاقة الأنثروبولوجيا بما أسماه عدد من المفكرين “بالقدر المتعالي الذي خصّ به الغرب”.
ولأن الإنسان على التعيين هو ميدان بحثها، تقترب الأنثروبولوجيا من الفلسفة؛ بل يمكن القول إنّها هي التي تتولّى نقل الهمَّ البَدئي للفلسفة، والذي هو الحث على السؤال كما قرأناه في المدوَّنات الميتافيزيقية لليونان القدماء.
راحت الفلسفة -قبل الأنثروبولوجيا الحديثة بكثير- تؤسِّس أنطولوجياً للتعرُّف على ماهية الإنسان كظاهرة فريدة وقلقة في هذا الوجود. لقد تبوَّأت طليعة العلوم التي تاخمت الإنسان أنثروبولوجياً وهي تعتني بدرس ما تنطوي عليه هذه ظاهرتُه من أسرار. في ميزان الفلسفة الكلاسيكية وحسبانها، الإنسان كائنٌ ميزتُه النطقُ والتعقُّل، إلّا أنّ روحَه كامنةٌ في بيولوجيّته المادية. ولو استقرأنا كيف مارست الفلسفة أنثروبولوجيتها، يتبيّن لنا أنّ الأخيرة كانت تمكث في صميم بِنْيتها التنظيرية. رأت إلى الإنسان بوصفه كائنًا لا يُعرف ولا يعي ذاته إلا في سياق مادِّيته التاريخية. ربما لهذا السبب كان على فلاسفة الطبيعة لمّا عكفوا على إنشاء أنظمتهم المعرفيّة أن يتولّوا إلى الأعيان المرئيّة، ويُعرِضوا عمّا هو ميتافيزيقيٌ من حقائق العالم. وما كان هذا، إلّا من أجل أن يصوِّبوا نشاط العقل نحو دنيا الطبيعة البشرية، باعتبارها أرض الحقيقة الصلبة التي ينبغي رعايتها، والأخذ بمبادئها وسُنَنِها الحاكمة.
يكشف تاريخ الميتافيزيقا، أنّ المنزع الأنثروبولوجي كان راسخاً في روح الإغريق. وعلى هذا المقتضى سيسهم التفلسف في تأمين الغطاء الميتافيزيقي للنشاط الأنثروبولوجي اللّاحق. سوف نرى على وجه الإجمال كيف ظهر السؤال الأنثروبولوجي الإغريقي عن الإنسان كسؤال ميتافيزيقيّ أحدَثَ ضوضاء لا مستقر لها على امتداد عشرات القرون. في الفلسفة الأولى –على سبيل الذكرى– استوى النّظر إلى الإنسان على أساس كونه محور الكون كلّه. وهذا هو الداعي الذي حمل أرسطو على ترتيب هندسة انثرو-فلسفية مثلثة الأضلاع للتعرف على حضور الإنسان في التاريخ: أ- إدراك ماهيّة فعلنا عندما نفكر. ب- إدراك ماهية الطبيعة الواقعة خارج ذواتنا العاقلة وحركة الأجزاء المنشورة في كل الأشياء. ج- إدراك ماهية الإنسان، بما هو الكائن الوحيد العاقل في العالم. وعليه فقد بيَّن واضعُ المنطق الصُوْري، أنّ بداية الفلسفة هي التساؤل وإثارة علامات التعجّب والاندهاش، وأنّ العالم ودور البشر فيه هما موضوع مشاغلها. كان أرسطو هو الرائد بين الأوروبيين في اكتناه كيفيّة قدرة البشر على إرواء توقهم الغريزي إلى التأمل. ثم أوصله هذا البحث إلى تحليل الحياة السياسيّة في عالمه الإغريقي، ناظراً إلى العرق الغربي انطلاقاً من اليونان باعتباره العرق الحاوي للعقل الراشد.
من بعد اليونان سيتبنّى الرومان الحكاية الأنثروبولوجية نفسها، ومن أجل أن يوظّفوها لبسط نفوذهم الامبراطوري دأبوا على تنسيب الكثير من المهارات الكتابيّة والخطابيّة إلى عطارد (ميركوري) الذي هو في الواقع الاسم الآخر لهرمس. وقد نسبوا الآثار المدوّنة والخطابات إلى الآلهة التي تعاملوا معها كأسوار تصون عظمة الفنون والعلوم الرومانيّة، وتنقلها إلى الأجيال والأمم اللّاحقة. ولهذا السبب كان هرمس من الناحية اللغويّة يلعب دور الهادي نحو العلم والمعرفة منذ العهود الإغريقيّة القديمة وحتّى العصر الحديث.
مع تحويل الأنثروبولوجيا إلى مفهوم له آلياته المخصوصة في عصور الحداثة، أخذ علم الإنسان، وتحت مسمَّى “الإنسية” منحىً رسمياً في الفكر الأوروبي. مع هذا المنعطف ستدخل الأنثروبولوجيا في مجمل ثنايا العلوم الإنسانيّة بما فيها الفلسفة السياسيّة، وإدارة المجتمع والسلطة، ناهيك بإيديولوجية السيطرة على الآخر. ولنا أن نذكر بعض الأمثلة على وجه الإجمال:
الأنثروبولوجيا التي اتّخذت التدبير السياسي مسلكاً لها عند ماكيافللي، سوف تختزل الإنسان إلى مجرد كائن خاضع للسلطة. فإنّه رأى أنّ الفضيلة العظمى تكمن في لبس دروع الحرب والاعتزاز بالنضارة والشجاعة والبطولة وإحراز العظمة والمجد.. وأنّ من غير الجائز إعطاء الحرية فجأة للناس وهم غير معتادين عليها، “نظراً إلى أنّ مثل هؤلاء البشر لا يختلفون أساساً عن البهائم المتوحّشة التي وإن كانت بطبيعتها شرسة ومعتادة على حياة الغاب، إلا أنّها تتوق إلى الأسر والعبوديّة.
على السيرة الأنثروبولوجية نفسها، يقرِّر هيغل في مرحلة متقدّمة من الحداثة، أنّ التاريخ البشري هو ضربٌ من حلقاتٍ متتاليةٍ في تحوّلات الوعي الإنساني، وهذه الحلقات المشدودة إلى بعضها البعض تنمو وتتكامل حتى ينتهي تطوّرها إلى ظهور ما يسميه “الروح المطلق” في التاريخ الأوروبي. أما ماركس فقد حصر كلّ شيء في التفسير المادي للتاريخ، وابتنى علمه عن الإنسان على أساس نظريّة الإغتراب، وقرّر أنّ غربة البشر الحقيقيّة عائدة إلى صراع الطبقات وقسوة التنظيم الاجتماعي.
في حقبة متأخرة من أزمنة الحداثة، سيدخل ليفي ستراوس وصحبه على خط التنظير المتحيِّز تحت حجّة أنّ عقل الإنسان البدائي ينطبق بالكامل على عقل الإنسان المعاصر من حيث البنية والمقوّمات الذهنيّة. أمّا الأساطير القديمة فهي عنده مجرد أحفوريات ثقافيّة تجسّد مادّةً عقلانيةً كامنةً في قالبٍ منجمدٍ، ولهذا السبب ترسّخت المفاهيم الأسطوريّة في عمق الثقافات الغربية. لذا سيعتمد أبناء المجتمعات الغربية على الأساطير الإغريقية لاستثمار مضامينها. وأما السبب، فيعود إلى تأثيرها المشهود على جانبٍ من سلوكياتهم ومتبنّياتهم “الأكسيولوجية” القيميّة التي لا تتكامل بدونها ثقافتهم المعاصرة. الجانب السلبي في هذا المضمار يكمن في أنّ هذه الأساطير قد حقنت في الثقافة الغربيّة الحديثة وجهات نظرٍ ملؤها التعصّبات واستكراه الغير.
ما لا خلاف عليه أنّ المبادئ الأسطوريّة التي ألقت بظلالها على الفكر الغربي جاءت نظير فهم الفيلسوف الإغريقي سقراط بسبب ما حَوَته أساطير أسلافه من قضايا حول الآلهة الأبطال. وهذا الفهم هو بطبيعة الحال، متقوِّم على أصول وقواعد فلسفية لجهة اعتقاده بأنّ الشخصيات الأسطورية هي شخصيات تاريخيّة عقلانيّة ولها أثر بالغ على الأسلوب الذي أخذت به الحداثات المتعاقبة حيال المسألة الدينيّة.
مشكلة التفكير الأنثروبولوجي الغربي التي بدأت إرهاصاتها في مستهل القرن الثاني عشر للميلاد، أنّها أدّت إلى ثنائيّة الذهن والعقل وتقسيم الشخصيّة الإنسانيّة إلى بُعدين متعاكسين لا يستويان على صراط واحد. ولقد صحّ ما أُخِذَ على العقل الأنثروبولوجي الأول، أنّه لم يميِّز الصلة المركّبة بين المادة والروح المجرّد، كما لم يأخذ بنظر الاعتبار إمكانيّة فهم التباين بين الأشرف والأخس في مراتب الوجود، ولهذا السبب صار الكثير من المسائل البديهيّة بالنسبة إليه غير قابلة للإدراك.
المقدمات الكبرى لعلم الإنسان ستظهر تداعياتها الحديثة على نشأة أخرى. وستدخل الأنثروبولوجيا كعلم ذي طابع وظائفيّ أكثر مما هو مجرّد إجراءات توصيفيّة حياديّة. أما أصل القضيّة فعائدٌ ـ على غالب التقديرـ إلى مبتَدَءاتِ التكوّن الحداثيّ. فقد حلَّ المدى الجيوـ حضاري للغرب محلَّ تساؤلٍ مريب حول هويّته ووجوده. تم استدعاء التاريخ والجغرافيا والدين والثقافة من أجل تركيب هويّةٍ تكون له منفردة بذاتها. هنا على وجه الضبط راح يتأسّس إشكال الهويّة كَمُشكِلٍ حضاريّ مركّب العناصر، متعدّد الأضلاع.. إلّا أنّه مشكِلٌّ أخلاقيّ بالمقام الأوّل. ففي قلب التعريف الأنثروبولوجي للذات الغربيّة يتموضع مفهوم العالميّة كمعيار أوحدٍ وحصريٍّ لتحضَّر الأمم جميعاً. وبحسب هذا المدَّعى يمسي هذا المفهوم عقيدة مترسِّخة: الغرب مركز جاذبيّة العالم، بَدْؤه وختامُه، وهو التعبير الأرقى عن الكمال التاريخي للبشرية. جغرافيّة الغرب الأم التي تمثّلت بأوروبا منحت لنفسها رسالة تحضّرية في علاقتها مع الشعوب الأخرى. حتى إن مراياها الثقافيّة انصبغت مع الوقت برؤية عالميّة لا ترى إلى الغير إلّا بوصفه تابعاً محضاً أو مجالاً للاستخدام. وعلى هذا المنحى نظر عقل الغرب إلى التنوّع بين حضارات العالم الأخرى كَقَدَرٍ مذموم لا ينبغي الركون إليه. من أجل ذلك سينبري جمعٌ من فلاسفته وعلمائه، لا سيما علماء الطبيعة، ليقترحوا أساساً علمياً وفلسفياً لشرعنة “السيادة الغربية”، ومن ثمَّ لتسويغ مبدأ وصايتها على بقيّة العالم.
وبعد…
ماذا لو صار للأنثروبولوجيا مقام آخر غير الذي أنشأته الماديّة التاريخيّة حول الإنسان وكينونته الوجوديّة؟
سؤالنا الختاميّ هذا، له ما يسوِّغه من بعد ضلال مديدٍ حَالَ دون وعي الإنسان لذاته، بما هو كائن يقرأ في كتاب الطبيعة وكتاب الألوهيّة في آن.