اجتماعالاحدث

بولس الخوري ( الفيلسوف الراهب يمضي بشغف ٍ نحو متعة…) | بقلم د. محمود حيدر

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

مضى بولس الخوري عن مائة عام بتمامها. ولو تسنى له من فيزياء الجسد هِمّة مضافة، لكان واصَلَ السفَرَ وهو على أنس ٍ مما هو فيه ٍ. ما كان الزمن عنده إلا سيرورة موصولة بالأبدية. بل الزمن ذاك ، هو عين الأبدية في ظهورها الراعي لدنيا الموجودات ..

الموت الذي نظر اليه بعين الفلسفة و قلب اللاهوت، لم يكن عدمًا.. لكأنما رآه بالحدس من قبل أن يختبره بالحواس الخمس. ثم لكأني به يعقد و إياه ميثاق صلح و حسن جوار..

لقد هادَنَ الموتَ فهادنَه الموت ُو تمدّد العمر . و لمّا حان الميقاتُ التًَقَيَا على مودةٍ و ارتضاء ..

من ثلاث سنين، و هو حينئذٍ في السابعة و التسعين، التقينا ثلاثة على مائدة من ” القول الثقيل” : هو و الصديق البروفسور مشير عون ، و كاتب هذي الأسطر .. دار الحديث مدار الفلسفة و سؤالها القلق ، و مدار اللّاهوت في جوابه الآمن..
في المدارَين سويًا ما أبدى بولس الخوري قطعًا بأمر ، و لا جزمًا بحكم يلفُظُه عن ظهر قلب.. جميع قوله لدى كل باب طرقناه ، صدر من تفكّر صارم .. فلا حكم عنده على فكرة او أمر ، إلا أن وافَقَ دربةَ العقل الخالص.. ربما لهذا الداعي سيفارق الجماعةَ ليأنس وحيدًا الى غربته المتمادية ..

محضرُه ” الميتافيزيقي” كان سانحة لي لكي أقترف السؤال الذي غالبًا ما يستثير خشية السائل و المسؤول نفس الحال :
أأنت مطمئن الى حيث انت مرتحلٌ فيه و إليه .. ثم أي مصير ينتظرك من بعد ان تعرضَ عنك دابّة الحياة ؟ ؟..
ثمئذ ٍ أجاب بلسان الراهب الزاهد : ما كان لي حاجة بشيء من قبل، و لم اترك شيئًا من بعد .. و لا املك ما إذا ملكتُه ملكني و أقامني في كهف المذلّة.. ما أنا ذاهب فيه و إليه، انما هو مدعاة للمتعة الفائقة.. فمن كان أصله وجود محض ، عاد الى ذاك الأصل المكتظّ بالامتلاء المحض.. و لمّا أن استفسرتُه عن ماهية المشهد الذي سيصير إليه ، لاذَ الى برهة من صمت، ثم استظهر ما ينبو عن حيرة و أجاب : لست ادري من حضرة المشهد شيئًا، و لا من صورة الحال شاهدًا .. هذا مما لا ينبغي ليَ التعرّف إليه، أو الاستفهام عن سرّه المخبوء ..

ثم كأني به يعرب عن مكنون فيه من بعد صمت :
لست ذاهبًا الى عدم، فلا انعدام ما دام هنالك سرٌ مستتر لم يُدرك.. إنما هو تلاش ٍ في بحر الوجود الأتم.. حيث المتعة الفائضة التي انا بالغُها و لو بعد حين .. السكون الازليٌ الذي لا سؤال معه و لا تساؤل..
أو… على غالب الظن الذي لا يقبل البوح : هنالك لا شيء سوى الاندهاش بالوجدان الأعظم

د. محمود حيدر، مفكر وباحث

د. محمود حيدر - مفكر وباحث. - أستاذ محاضر في الفلسفة الحديثة والتصوف. - رئيس مركز دلتا للأبحاث المعمَّقة (حالياً). - مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب" (حالياً). - له خمسة وعشرون كتاباً في حقول الفلسفة والفكر السياسي والأدب والعرفان النظري بالإضافة إلى خمسة كتب بالفرنسية والإنكليزية - له دراسات وأبحاث في التصوف وفلسفة الأخلاق والفلسفة السياسية نشر بعضها في عدد من الدوريات المتخصصة - كتب في عدد من الصحف والمجلات والدوريات الصادرة في لبنان والعالم العربي وأوروبا. - شارك في العديد من المؤتمرات الدولية في لبنان والخارج في مجال الفلسفة والفكر السياسي وحوار الأديان والتصوف والعرفان النظري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى