اجتماعالاحدث

الإنسان : لحظة وفاء حين ينفلت كل شيء | كتب محمد آيت علو

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

وما الوجه، إلاواحد غير أنه، إذا أنت عددت المرايا تعددا.
“ابن عربي”

…وفي يوم آخر لقيت شكري كانت عيناه ساهمتان وكأنهما يغوصان في مستنقع رديء، حالة من قلق الأيام والأعوام البعيدة، ترتسم في عينيه الأزقة والدروب، والصامدون على الجراح، والأطفال الضائعين، والمتاجرة في أحلام الفقراء، والحكرة، وسيرة الإنسان في المكان، وأهل الهامش من المسحوقين والتائهين والمكلومين والمهاجرين ومن مرغتهم الحياة…وحساد النجاح والكلمة، وصراع الأجيال… والرجال الذين غابوا في تراب المقابر…، والشهوة الزائفة، وجنون العظمة، والشهرة بعد الموت، ومن يدعي أنه أنقدك من الويل والموت، والتكريمات الأفاقة…، في هذه الأثناء تذكرت إحدى مواقفه المتميزة كالعادة، “فما من أحد فوق النقد” فقد رأيت أنه يصول ويجول مشرحا نصوص الجميع بمبضع العارف دون خشية من سطوة الأسماء الكبيرة، فهو ينتقد بأسلوب يلغي التبعية الفكرية والفنية دون أن ينتقص من كمية الاحترام التي يكنها لإنجازاتهم، ولم يكن يريد أن يكون محبوبا أومرهوبا بمقدار ما تشغله مسألة التعبير عن قناعاته الفكرية دون وصاية أو مصادرة..ذلك أن الكبار قبل الصغار يقعون في أخطاء كبيرة…فقد كتب “أندري جيد” ذات يوم تقريرا عن رواية “مارسيل بروست” “البحث عن الزمن الضائع” أكد فيه أنها لاتصلح للنشر، ثم ندم على ذلك الحكم بقية حياته…لذلك دخل شكري إلى النصوص التي شرح من خلالها تجربته الابداعية وفهمه لدور الابداع الأدبي، مغسولا من كافة الأحكام المسبقة…ويبدو أنه كان في هذا الوقت بالذات كمن يقرأ كل أفكاري التي أحملها وأعتقد فيها… فقد تخلى عن جائزته مقابل مبدإ كان يسكنه، ويتمثل في رد الاعتبار للجنوب المتوسطي تضامنا مع قوارب الموت…، مؤكدا على ضرورة رد الاعتبار لساكنته…، وكأنني ما زلت أسمع صدى صوته ونحن ننزل عبر سلاليم مبنى إذاعة طنجة الجهوية، بعدما توقفنا بقاعة الانتظار ، آنذاك وكأنني أرى الشمس وهي لا تكف عن مغازلة ضفائرها الذهبية…وحين رفعت بصري إلى السماء كان كل واحد في اتجاه …

حتى صاحبي لم يعد…كان قد خرج قبل قليل…سألت لحظة الساعة المعلقة وسط الصالة، والتي توقفت عقاربها برهة ثم سألت الغد…ولم يأت. بحثت عنه في الدروب في الأزقة والزوايا في الطوابير المتراصة في “الموقف”وفي الغابات وفي شوارع المدينة المزدحمة، في الممرات وجنب الحدائق، في الدهاليز فوق الأرض وتحتها، بحثت طويلا طويلا…في الصياح والعويل والفحيح، سألت عنه الأيام الماضية التي لم أظفر منها بشيء، وسألت عنه العائدات المقبلات التي لن أترك فيها شيء، وهذه بدايتها، سألت كل غريب ومقيم، سألت كل قادم وسائح وجائل، قيل بأنه لم يمر من هنا، سألت وسألت… وفي خاتمتها لم أظفر بجواب، لا أحد استطاع أن يكشف لي عنه، ولم يجبني إنسان، كلهم غابوا…ثم راحوا إلى المقبرة….، وتساءلتُ مرة أخرى، أواهُ…قد مات…ومات الطيبون.

أخي الحبيب، الوحدة هي الوحدة، تبقى القراءة والكتابة، في ظل الخداع والمكر والخيانة والغدر والإنتهازية، في ظل التبدل والتشتت والضياع، وتوالي الخيبات، في لحظة وفاء، تبقى الذات والكتاب، وربما كلب وفي، تبقى الكلمة، يبقى الإبداع، تبقى الكتابة كلازمة شعرية وجدانية، حاجة انسانية، فنكتب نفرغ عن الأوجاع، عن الهموم في الضلوع، في الأرق، نكتب عن القبح، عن الجمال كما هما، البداية قد تكون جميلة، لكن النهاية ربما لايمكن إنقاذها، لأن نهاية حياة، هي بداية لا شيء، الحنين يولد الصبر ويخفف من الإنزعاج…!

ها هنا كل شيء قابل للحياة، لكن الحياة تموت فيها، ماذا يبقى إذن للإنسان بعد أن يطلق النار…؟/ اللوم العتاب على كل شيء…؟

إنه إذ يطلق النار على كل شيء، فسيطلق أيضا على نفسه، إن ما أختاره لنفسي، أختاره لغيري من خلالي، لكن الإطلاق على كل شيء لايكون إلا مرة واحدة، لأن الإنسان لايقتل عدوه مرتين…إنه تمرد إنساني نقي، وكما قال (بودا) ” نحن ما نفكر فيه “.

إن ماهية الإنسان تفرض عليه أن يبرر وجوده، وفعله فيه/ وهيدغر عندما قال:”الإنسان موجود للموت“، كان يعني أن يحقق الإنسان منتهى نقاء وجوده./لابد أن يكون المبدع قد عرف كيف يعيش لكي يصير مبدعا، ولا نخفي سرا، أنه في فترة من الفترات،كان معظم من أعرفهم في تلك المرحلة، يشجعونني على المضي في إنجاز تلك الروعة وذلك الخلود، كانوا هم أيضا يشتركون معي في وهم المجد ما داموا يقترحون علي بعض المواضيع لأكتبها، وأن يستهلكوها هم أنفسهم من جديد، كنت مندهشا بسذاجتي وسذاجتهم. لكن هذه النزوة الإستعراضية،(الفخ الذي أنصبه للقراء) لم تطل، لقد أدركت أنني أبني أهرامات رملية/ كما بدأت أعي أن الشعر ليس هو مجرد انتقاء وتصوير أشياء/ ليست كل حادثة مادة لقصة، لابد من خلق الحدث داخل الحدث/نفس المراحل التي تتحول فيها دودة القز إلى فراشة، محنة المبدع اليوم هي أنه مطالب بتطوير تقنيته وموضوعه أكثر من أي وقت سابق، مبدئيا، ليس القارئ الجاد وحده الذي يبحث عن كتاب جيد، إنما الكتاب الجيد، أيضا في حاجة إلى قارئ جيد وإلا ضاع كلاهما في الآخــــــــر، إنه لحظ كبير أن يلتقيا ليكمل أحدهما الآخر، وإنه لمن المستعذب أن يكتشف الإنسان نفسه في عيون الآخرين الأخوية، وإن المبدع الحقيقي لاينتظر أحدا لتزكيته وتعزيزه،كما أن حب الاكتمال في الإبداع يكاد يتحول في أذهاننا إلى أسطورة عندنا *جبران خليل جبران*لقد أعدم بعض اللوحات التي لم يتممها قبل وفاته رغم إلحاح ورجاء صديقته*ماري هاسكل*عليه لإبقائها،*أبوحيان التوحيدي* و*كافكا*أحسا بعبث أعمالهما، أوشعورا بالخطيئة، مثل*غوغول*الذي أحرق جزءا من الجزء الثاني من الأرواح الميتة، بعد أن أدرك أن الفن يتناقض مع الدين، وكان يعيش هلوسات بحدة في أواخر حياته، العالم يفلت منا باستمرار، والإبداع يحاول القبض على هذا الإفلات، نحن حين نستعيدبالإبداع هذا العالم الهارب منا، لانضعه في صورة مؤطرة ونحتفظ به كذكرى، إن مادته تتحول كأي معدن ينصهر وتعاد صياغته في شكل يلائم عصرنا وما سيأتي بعدنا، هؤلاء الناس في الساحة الآن الذين ينشط بعضهم كالنمل، ويخمل آخرون كالزواحف التي لاتتحرك إلا بسقوط الفريسة في مجالها، وكل ما يغلفنا من أشياء، إنها كلها من عالمنا الذي هو كما لم يكن، وصائر إلى ما هو ليس بكائن، فعالمنا إذا هو ما فلت، وما يفلت، وما سيفلت منا، ماذا يريد الإنسان من هذا الوجود إذن…؟
يقينا وجوده. إنه يحس أنه مفقود منذ ولادته:من الغيب إلى الغيب، لهذا هو يكابد من أجل إمساك ذاته، التي تنفلت منه.إذ أدنى حركة، هي مظهر في الوجود تحسه بوجوده. إن السكون هو مبعث قلقه الحقيقي…

ورغم هذا الإنفلات فإن رفضه يتحدد تأجيله بما يربحه أويخسره مرددا… إنما دنياي نفسي…

فإن هلكت نفسي

فلا عاش أحد…

ليت أن الشمس بعدي غربت.

ثم لم تشرق على أهل بلد…!

الحياة لاتدرك إلا بالإبداع والكتابة، والكلمة هي دمنا، هي نبضنا، هي اشعاع البسطاء، وهذا لا يعني أننا نتمنى أن نموت بعد الآخر…

أخيرا، يبقى الإنسان حلما مستحيلا، والإنسان نفسه حلم من الأحلام..”، يبقى التحدي، تبقى الجسارة…

كل هذا يعني أن الانسان في حاجة مسيسة الى عيش رائع وموت أروع مما عاشه، رغم أنه في الواقع، موت رائع أو أروع…؟ يقال بأن هكسلي تحققت له رؤياه الرائعة أثناء احتضاره، فلقد قال لأحد الذين كانوا حوله:- “أقفل النافذة إن ذلك رائع…” وأضاف:- “كنت أعتقد ذلك”. ثم مات.

الباحث محمد آيت علو

محمد آيت علو باحث وكاتب من المملكة المغربية، لديه إصدارات شعرية وسردية قصصية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى