من الصعب ان تشارك في منتدى ادبي أو ثقافي أو فكري إلا وتجد الدكتور ميشال جحا ابن بشمزين المستنيرة الكوراني في الولادة، وابن راس بيروت الجامعة في السلوك والانفتاح والعطاء ،حاضرًا يناقش ويضيف الى ما ورد على لسان المحاضرين والمنتدين ….
كان الاستاذ الجامعي والباحث الاكاديمي ميشال جحا مسكونا بالنهضة العربية وروادها ، وقد كتب عن الكثير منهم لا سيّما اليازجيين والبساتنة، تمامًا كما كان مسكونا بالادب العربي واللغة العربية التي كان يعتبرها الاساس في الهوية القومية للعرب التي لم تكن يومًا هوية دينية أو عرقية بقدر ما كانت هوية ثقافية، بل أن الكثير من عارفيه رأوا في حبه للعربية طريقه لحب العروبة، وحبه للعروبة سبيلًا لتعلقه بالنهضة ورواد النهضة…
في مكتبة رأس بيروت لمؤسسها قريبه المؤرخ الكبير شفيف جحا كان لقائي الأول به في ستينات القرن الماضي، وقد كان يعد الدكتوراه في المانيا، ولكنه كان حريصا في اجازاته على الحضور يوميًا الى المكتبة يواكب ما يصدر من كتب يغرف منها زادًا لا يتوقف، ومعرفة لا تنضب، وثقافة تبقى في عقل نهضوي ادرك ان لا حياة لأمته بدون نهضة …
لم يكن انغماسه في النهضة والادب واللغة يحول دون ان يكون له موقف في السياسة والقضايا الوطنية والقومية، فقد كان عاشقًا لفلسطين ويرى تحريرها مفتاحًا لنهوض العرب ووحدتهم، تمامًا كما كان يرى في النهضة والوحدة سبيلًا لتحرير فلسطين، وكان له في الفكر والسياسة قامتان يحمل لهما الاحترام اولهما الرئيس سليم الحص (أطال الله في عمره) باستقامته ووعيه وترفعه، والاستاذ منح الصلح (رحمه الله ) في ألمعيته وصفاء فكره ووحدوية نهجه، وكأنه بهذه العلاقة يوضح للناس طبيعة المدرسة التي ينتمي اليها، وطبعًا الافكار التي يحملها ، وطبيعة القادة الذين يقتدي بهم..
رحل “الرائد النهضوي” ميشال جحا عن 92 عاما، وعن ثلاثين كتابًا بقي يصدرها حتى قبل رحيله بقليل وكان في العديد من كتبه ، كما في مقابلاته ومقالاته، يركز على رواد النهضة الاولى من رجال ونساء ،يخصص لكل واحد منهم كتابًا جامعًا، فيما لم تبتعد كتبه الأخرى عن هموم رواد النهضة في الثقافة والفكر والأدب واللغة…
وحين كنت أسأله عن المنحى الذي اختاره في كتبه وكتاباته وفي تركيزه على كتب النهضة كان يقول لي: ” لا تنهض الأمم إلا اذا تراكمت خبراتها وتكاملت أجيالها، واستفاد جيلنا الحاضر والقادم من أجيال سبقته، مذكرًا أن النهضة في أوروبا بدأت من خلال الأنطلاق من التراث، فكيف اذا كان تراثًا مشرقًا ومضيئًا كتراثنا العربي….”
ستفتقد بيروت ومنابرها، ولبنان ومنتدياته، ودنيا العرب وملتقياتها، قامة لم تعرف التعب رغم هموم السنين، ولم تعرف اليأس رغم ظلمة الظروف والأحوال، كان ميشال جحا في كل ساحة مبشرًا بالخير والفكر والثقافة ، ومنارة في بحر الظلمات..
رحمه الله وستبقى روحة الوثابة وكتاباته القيمة شموعًا تضيء لأجيالنا الدروب نحو النهضة.