اجتماعقراءات معمقة

القادرية البودشيشية تحيي دور التصوّف في بناء القيم

كسرت الطریقة القادریة البودشیشیة الصور النمطیة التي ترسخت عند البعض عن التصوف، بكون اھله ینعزلون عن شؤون الناس ویتسمون بالسلبیة ولا یشاركون في بناء المجتمعات، غیر أن من یقترب من الطریقة الصوفیة الاكبر في المغرب والمنتشرة في اغلب دول العالم، یكتشف عكس تلك الصور النمطیة تماماً.

حضرت شھر غشت (اب) المنصرم بعضا من فعالیات الجامعة الصیفیة التي نظمتھا الطریقة القادریة البودشیشیة بمقرھا بمداغ ، شمال شرق المملكة المغربیة، فوقفت على برامج یسھر علیھا علماء واساتذة جامعیون وخبراء في شتى التخصصات، لیس الشرعیة فقط، بل في العلوم العصریة ایضا، فقد كان شعار الجامعة “التربیة على الأخلاق و القیم في قلب استراتیجیة إعداد الكفاءات”، فإلى جانب العلوم الشرعیة تم تنظیم دروس وورشات في آخر مستجدات العلوم العصریة، حیث تمت برمجة حصص في التطویر الذاتي، والتأمین التكافلي والعملات الإفتراضیة وكیفیة تعامل المرید مع التكنولوجیا ووسائل التواصل الاجتماعي. إضافة الى إقامة عدة ورشات تناولت مجالات مختلفة كتدبیر ضغوطات الحیاة الیومیة، وأسس الذكاء الاجتماعي، وفنون الإلقاء وتعزیز الثقة بالنفس، وكیفیة البحث والإستعداد لمقابلات تنظیم مسابقات ثقافیة وریاضیة. العمل، ثم ورشة انماط الشخصیة وسوق العمل . اضافة الى دروس في اللغتین العربیة و الإنجلیزیة.

وتجدر الإشارة إلى أن العنصر النسوي كان حاضرا ایضا في فقرات الجامعة الصیفیة، حیث خصصت مشیخة الطریقة القادریة البودشیشیة قاعات وفضاءات خاصة بالنساء.مما یكرس اھتمام الطریقة بالتكوین العلمي والاخلاقي لنصف المجتمع ایضا، ولقد حضر برامج الجامعة الصیفیة عدد كبیر من الشباب القادم
من داخل المغرب وخارجه، حیث لاحظنا وجود مریدین من دول اوربیة ومن امریكا وافریقیا واسیا. كما اضافة الى تنظیم مخیم صیفي للبراعم اشتمل على فقرات تربویة وترفیھیة متنوعة. أن الفئات الصغرى نالت نصیبھا ایضا من برامج الجامعة الصیفیة حیث خصص فضاء للأطفال الصغار.

ولقد اثار اھتمامنا المستوى الثقافي العالي لمریدي الطریقة القادریة البودشیشیة، حیث التقینا بأساتذة جامعیین وأطباء ومھندسین وطلبة باحثین في شتى مجالات المعرفة، كما ان بعض المریدین یتقلدون مناصب ھامة في مختلف المیادین داخل المجتمع المغربي، رؤساء لوحدات البحث في الجامعات، اعضاء في مجالس علمیة، مدراء لمراكز استشفائیة وغیرھا.

إن العالم الاسلامي الیوم مطالب بالالتفات الى ھذا المكون الھام من تراثه الذي یمكن ان یبني شبابه على قیم المشاركة الایجابیة في المجتمع، واحترام المخالف ونبذ التطرف وبالتالي یمكن استثمار التصوف في تغییر الصورة المشوھة عن الاسلام (باعتباره دین ینتج التطرف والارھاب)،

وقد اكد الدكتور منیر القادري بودشیش نجل شیخ الطریقة القادریة البودشیشیة ورئیس المركز الاورومتوسطي لدراسة الاسلام المعاصر، في ندوة دولیة عقدت بمدینة وجدة المغربیة شھر اكتوبر الجاري، أن العلاقة وطیدة بین التصوف والقیم الإنسانیة الكونیة كقیم المحبة والسلم والتآزر والتعایش المشترك، ودعا القادري مسلمي اوروبا الى ابراز حقیقة الاسلام بھذه القیم والاخلاق، من اجل تقدیم صورة إیجابیه للإسلام، واضاف أن الفھم العمیق للدین الاسلامي الحنیف ولأخلاقه ولرسالته السمحة والاقتداء بالنموذج الكامل – رسول الله صلى الله علیھ وسلم -ھو الكفیل بجمع شتات الامة، وتحقیق الخیریة التي اكرمھا الله تعالى بھا واھلھا لتحمل رسالة الاسلام الى كافة الانام بالحكمة والرفق، والموعظة الحسنة، والرحمة والسلام، مستشھدا بقول الله تعالى “ادفع بالتي ھي احسن فإذا الذي بینك وبینه عداوة كانه ولي حمیم”،

فبھذه الاخلاق الكریمة یؤكد الاستاذ المحاضر كان الصوفیة مواطنون صالحون اینما حلوا وارتحلوا ینشرون بذور المحبة، والرحمة والرفق والاحسان، دون عنف او اكراه او قوة، بل بالقدوة الحسنة والمعاملة الطیبة، مع جمیع الخلق، كما یقول الشیخ الصوفي ابن عربي : ‘افعل الخیر ولا تبالي في من تفعله تكن انت اھل له’

فالمطلوب حسب القادري ھو المعاملة الحسنة مع المخلوقات كیفما كانت دیاناتھم واعتقاداتھم واثنیاتھم واصلھم كما یقول الشیخ الدباغ : ‘الرحمة ھي نور ساكن في الذات یقتضي الرأفة والحنان على سائر الخلق وھو ناشئ عن الرحمة الواصلة من الله’، ویبین الدكتور القادري أن ثمرة التعبد والأركان الخمسة للإسلام ینبغي ان تكون ھي المعاملة الحسنة و الرحمة ، مستشھدا بقول للإمام حسن البصري یقول فیھ : ‘الاحسان ان تعم ولا تخص مثل الشمس والغیث والریاح’.

تنظیم الملتقى العالمي للتصوف
وقد أعلنت الطریقة القادریة البودشیشیة ومؤسسة “الملتقى” تنظیم الدورة 14 للملتقى العالمي للتصوف بشراكة مع المركز الاورومتوسطي لدراسة الإسلام المعاصر تحث شعار “التصوف والتنمیة، دور البعد الروحي والأخلاقي في صناعة الرجال”، وذلك في الفترة من 08 إلى 12 ربیع الأول 1441 ھجریة الموافق ل 06 الى 10 تشرین الثاني 2019 میلادیة، وذلك في قاعة المؤتمرات بمقر الزاویة القادریة البودشیشیة بمداغ، ناحیة بركان شمال شرق المغرب.

ومن المنتظر أن یشارك في فعالیات ھذه الدورة ثلة من العلماء والباحثین القادمین من مختلف الدول العربیة كمصر والاردن والجزائر والإمارات والمغرب البلد المنظم وكذلك من افریقیا واوربا وامریكا.

وتأتي ھذه الدورة بعد نجاح الدورات السابقة، التي بحثت في مواضیع ھامة من قبیل المشترك الإنساني، والدبلوماسیة الروحیة وتنمیة الرأسمال اللامادي للشعوب، والتصوف في السیاق المعاصر وغیرھا من المواضیع الآنیة، وفي كلمة سابقة له بھذه المناسبة أكد الدكتور منیر القادري بودشیش مدیر الملتقى العالمي للتصوف أن ھذا الملتقى ” أصبح محطة أكادیمیة ھامة وفضاء تفاعلیا وتواصلیا لتلاقح وتبادل الخبرات والمعارف لخدمة الإنسان المعاصر، ومساعدتھ على فھم واستیعاب ومواجھة السیاقات الراھنة والمآلیة، التي یتفاعل معھا سلبا وإیجابا، وفك أغلاله، وحل أزماته التي تعیق مساره الحیاتي والقیمي والتنموي والحضاري”.

وتجدر الإشارة الى أن المشاركین في ھذه الدورة سیتباحثون في عدة محاور كالتصوف والتنمیة البشریة؛ فن صناعة الرجال، والتصوف والتنمیة الاقتصادیة، وقیم الفتوة ودورھا في تنمیة المجتمع، والتصوف والتنمیة البیئة، والتصوف والتنمیة الأسریة؛ قضایا الطفولة والشباب، والتصوف والرأسمال اللامادي، والتصوف والتنمیة العالمیة؛ دور البعد الروحي في حل الأزمات والصراعات وغیرھا.

وتسلط الورقة العلمیة للملتقى الضوء على الدور الكبیر الذي اضطلع به التصوف في بناء التنمیة لكونھا تقوم في التراث الإسلامي على صناعة الإنسان، وفي ھذا الصدد نجد نماذج لرجال التصوف الذین كانت لھم مساھمات قیمة في شتى مجالات التنمیة، حیث اسھموا في بناء المساجد، وحفر الآبار، وتشیید المدارس، وكفالة الأیتام، وإعانة المحتاجین، بل ان منھم من بنى مدنا بكاملھا، كما ھو الحال بالنسبة لمدینة السمارة التي شیدھا الشیخ ماء العینین، لتستقر بھا القبائل المجاورة، وتكون نقطة التقاء للتجارة عبر الصحراء المغربیة.

وأبرز المصدر نفسه دور الصوفیة المغاربة الذین خلدوا آثار إعماریة في سائر الربوع التي مروا منھا، كما ھو الأمر بالنسبة للدیار المصریة التي استقر بھا عدد من الصوفیة المغاربة، مع ما شیدوه من معالم الفضل الكبیر في دخول الإسلام إلى ربوعھا، وما ارفق ذلك من مشاریع إعماریة وإنمائیة رائدة. إعماریة كبیرة في عدد من مدنھا، وكذا الأمر بالنسبة لما اضطلعوا به في القارة الإفریقیة.
وتوضح الورقة العلمیة للملتقى أن اختیار موضوع ھذه الدورة، یاتي في سیاق الأھمیة التي یتبوؤھا موضوع التنمیة في الساحة العالمیة الیوم، من اجل مدارسته والكشف عن التحدیات التي یطرحھا، في سیاق ما یزخر به المكون الصوفي من إمكانات كبیرة في ھذا الباب، فالتحدي الحقیقي الذي یواجه التنمیة الیوم ھو العنصر البشري، ومن ثم، وجب العنایة بتأھیل ھذا العنصر على كل المستویات؛ دینیا وروحیا وفكریا وسلوكیا، بموازاة مع التاھیل العملي وما یتطلبه سوق الشغل، وتؤكد الورقة العلمیة للملتقى على اھمیة المزج بین الجانب الاخلاقي والمھني من اجل تحقیق مستقبل حقیقي وواعد للتنمیة، خاصة ونحن أمام المشروع التنموي الجدید الذي اعطى إنطلاقته الملك محمد السادس، وتسعى مؤسسة “الملتقى” بطرحھا لھذا الموضوع الى استخلاص المعیقات الحقیقیة التي تقف أمام ھذا الورش، وفحص العلاقة الجدلیة القائمة بین الإنسان والعمران في المنظومة الإنمائیة، في ارتباط بالتصوف وما یمكن أن یفتحه من آفاق واعدة في ھذا الباب، لأجل الخروج بجملة من التوصیات والاقتراحات الفاعلة لرفعھا الى المؤسسات والجھات الرسمیة التي تعني بقضایا التنمیة، باعتبار مؤسسة “الملتقى” (ھي مؤسسة خاصة تقع في بركان في المنطقة الشرقیة من المغرب. انشأت عام 2015 من قبل رئیسھا ومؤسسھا الدكتور منیر القادري ، وقد ولدت من الرغبة في التعریف بقیم الصوفیة للجمھور والكشف عن البعد الداخلي والروحي للإسلام) قوة اقتراحیة من شانھا الإسھام في ھذا الورش التنموي الكبیر.

ویؤكد المنظمون أن التنمیة كي تكون تنمیة مستدامة وخلاقة لابد أن تنطلق من الانسان، وأن تراعي حاجاته على كل المستویات؛ نفسیا وروحیا وجسدیا وفكریا واجتماعیا، فقبل أن نھتم بتنمیة المحیط والعمران ینبغي أولا أن نھتم بتنمیة الانسان، وھي الفكرة الجوھریة التي حملھا الاسلام في تأسیسه لنموذجه التنموي.
وجاء في بلاغ لمؤسسة الملتقى، انھا ستنظم ثلاث مسابقات موازاة مع اشغال الملتقى العالمي للتصوف، في إطار مبادراتھا لتشجیع الباحثین والمبدعین الشباب؛ المسابقة الأولى مخصصة لإعداد مقالة حول موضوع “الإسلام والتنمیة: أصول وثوابت”، والثانیة مسابقة شعریة في المدیح النبوي، فیما تم تخصیص المسابقة الثالثة مسابقة لتحفیز الناشئة على حفظ وتجوید القرآن الكریم.

خاتمة
إن ھذه الانشطة الفكریة والثقافیة الكبرى تدل على دور مھم یمكن ان یلعبه التصوف في معالجة الازمات التي تعاني منھا المجتمعات المعاصرة المتمثلة في تفكك القیم والطغیان المادي الجامح، واتساع منطق التلذذ المفرط، والتطرف والإرھاب، والإلحاد، وتنامي ظاھرة الإسلاموفوبیا، وما تخلفھ العولمة من تغییرات في معاییر وانماط السلوك، واقصاء البعد الاخلاقي، في ظل فشل المقاربات المتبعة الحالیة التي ھمشت في اغلبھا المكون الصوفي في مخططاتھا التربویة والتنمویة.

أ. عبد العزيز اغراز، كاتب مغربي

عبد العزيز اغراز، من المغرب، حاصل على دبلوم الدراسات العليا المعمقة (الماجيستير) في "الاتصالات والشبكات المعلوماتية"، عضو مكتب تحرير الملف الاستراتيجي لشؤون الأنشطة التنموية في العالم العربي وكاتب في الشؤون العامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى