اجتماعالاحدث

الهجرة النبوية بين الأمس واليوم | بقلم المحامي عمر زين

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

ها هو عام هجريّ جديد يطل علينا، نستذكر في إطلالته بعضاً من عبر الهجرة، نستلهم منها ما يقوي عزيمتنا ويعيننا على تخطي الصعاب والعراقيل التي تواجهنا في يومنا هذا.

بالأمس ضاق صدر كفار قريش بصمود النبيّ صل الله عليه وسلّم وثباته على موقفه وإصراره على نشر دعوته فتيقنوا أنّه لو استمر بينهم لبنى مجتمعاً صالحاً نظيفاً بعيداً عن الجهل والقبليّة الجاهليّة، مجتمعاً يسود فيه العدل وتُحفظ فيه حقوق الناس، مجتمعاً لا يأكل فيه القوي الضعيف، ولا يستعبد فيه الغني الفقير، مجتمعاً يتساوى الناس فيه أمام القضاء فلا أفضلية لأحد على أحد مهما علا مركزه الإجتماعيّ أو زاد رصيده المالي أو كبُرت عشيرته، فبمثل تلك القيم والقوانين سيقضي على تجبرهم وتكبّرهم وفوقيّتهم في التعاطي مع غيرهم.

أمام هذا الواقع – ظهور مصلح إجتماعيّ الذي إلتفّت الناس حوله وكبر جمهوره ومؤيّدوه –إجتمعت صناديد قريش من الكفار والفجار والمفسدين في الأرض – كما يجتمع اليوم وفي كلّ زمان يتحكم فيه أمثالهم برقاب الناس – إجتمعت في دار الندوة وهو لمن لا يعرف ما هي دار الندوة، هي تتمثل بمبنى مجلس النواب أو مبنى مجلس الوزراء أو مبنى مجلس الأمن الدولي في زماننا هذا، اجتمعوا لمناقشة كيفية مواجهة دعوة الإصلاح التي لن تبقي لهم من جبروتهم وكفرهم وفسادهم شيئاً، تماماً كما يجري اليوم.

قدّم أحدهم إقتراحاً (يسمّى في زماننا: اقتراح مشروع قانون) بحبسه في بيته، ووضع الحديد في يديه ورجليه حتى لا يستطيع الخروج (يسمّى في زماننا: الإقامة الجبرية)، فتم رفض الإقتراح أو مشروع القانون بحجة أن الحبس لا يمنع من أن يُحدّث النّاس من خلف الابواب فيستمر الانتشار لفكره ويكثر جمهوره ومؤيديه.

وقدّم آخر إقتراحاً يقضي بإخراجه من بين أظهرهم، ونفيه من مكّة المكرمّة، فإذا رحل لن يبالوا أين يذهب طالما الهدف التخلص منه، ومن بعدها يصلحون أمرهم ويعيدون حالهم الى ما كانت عليه قبل ظهوره فيهم، (ويسمّى في زماننا: النفي خارج البلاد)، تم إسقاط الإقتراح الثاني بدعوى أنه في المنفى سيقوم بنشر فكره وسيجتمع حوله الكثير من الرجال فيعود بهم حتى يطأ رؤوسهم.

حتى جاء الإقتراح الثالث والذي تمت الموافقة عليه بالإجماع، كما يحصل في زماننا هذا، والبعض بدّل العبارة من الإجماع الى التوافق والمقصود واحد، فكان القرار بقتله.

وبغرض ضمان التفلت من العقاب كما يفكر المفسدون في كل زمان قرروا أن يجمعوا من كل قبيلة (من كل جمهور زعيم في زماننا) رجلاً شديد القوة، فيجتمعون على ضرب النبيّ صلّ الله عليه وسلّم ضربة رجل واحد، فلا تقوى بنو هاشم عشيرة النبيّ صل الله عليه وسلّم أن تحارب كل قبائل مكّة، وتطالب بحقها منهم كلّهم فتتنازل حينها عن المعاقبة الشاملة (فيسقط شعار: “كلّن يعني كلّن”).

عجباً أثبت الواقع ومن دون أدنى شك أن الفجار والمفسدون في الأرض ما إن يتسلّموا الحكم حتى يتطابق كلامهم مع بعضه البعض مهما اختلف الزمان، فالفرق الوحيد بينهم وبين أقرانهم بإختلاف الأزمنة هو أسماؤهم لا غير، من فرعون ووزرائه الى صناديد قريش وأعوانهم إلى رؤساء جمهوريات ومستشاريهم أو رؤساء حكومات ووزرائهم أو رؤساء نواب وزملائهم، فالإصلاح عندهم هو أدامة الحكم لهم وتمكنّهم من التشدد على رقاب النّاس.

علم النبيّ صل الله عليه وسلّم ما يُخفي له كفار قريش وزعماؤهم، فلم يخف، ولم يقررالتراجع عن نشر الخير بين النّاس وإصلاحهم، بل على العكس من ذلك قام بالتخطيط والتحضير لهجرته، فاتخذ من الصدّيق رضي الله عنه رفيقاً فيها، ثم جهزا الراحلة (الجمال التي ستحملهم الى المدينة المنورة) وقرر أن يموّه على قريش حتى لا تقبض عليه في الطريق فكان الذهاب أولاً الى غار ثور والمكوث فيه ثلاثة أيام وهو يقع في عكس اتجاه طريق المدينة، واتفق مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بأن تأتيهما بالطعام كل ليلة مع أخيها عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما الذي كانت مهمته أن يأتيهما بما يتناوله النّاس بألسنتهم في مكّة عنهم، واتفق مع عامر بن فهيرة بأن يطمس آثار أقدام أسماء وأخيها رضي الله عنهم عن الطريق بغنمه في الصباح الباكر، واتفق النبيّ مع الدلّال عبد الله بن أريقط الليثيّ ليخرج معه من مكّة ليدلّه على طريق المدينة المنورة.

بعد كلّ هذا التخطيط الدقيق خرج النبيّ صل الله عليه وسلّم من بيته من أمام أعين الرجال المتربصين لقتله بسيوفهم المليئة بالحقد والكراهية، فكان النجاح والفوز من نصيبه وخسأ الظالمون بما ظلموا، وتمّت الهجرة النبوية كأحد أعظم الأحداث في التاريخ، هجرةُ غيّرت المفاهيم السائدة في المجتمعات البالية والمتخلّفة وأسقطت بعدها عروشاً كافرة ظالمة حاقدة، عروش حكامٍ لم يسمعوا بالإنسانية ولا بالعدالة الاجتماعية، حكام ظنّوا أن النّاس خدّاما لهم أوعبيداً لديهم، حكام ظنوا أن ما للناس لهم وللناس، وما لهم لهم وحدهم لا شريك لأحد فيه، حكام لا أخلاق لهم همّهم زعامتهم والتحكم برؤوس العباد وأرزاقهم.

كل ذلك انقضى واندثر بالهجرة الشريفة، كما سينقضي ويندثر حكم كل من يطغى ويتجبّر على عباد الله القهار الجبّار، فيا أهل العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وليبيا الكرام، لا تيأسوا فإن النصر على الأعداء آت لا محالة، نسأل الله أن يجعله في سنتنا الهجرية الجديدة هذه، وكل عام وأنتم بخير.

المحامي عمر زين، الامين العام السابق لاتحاد المحامين العرب

المحامي عمر زين الامين العام السابق لاتحاد المحامين العرب عضو في مجلس نقابة المحامين في بيروت بين عامي 1988 – 1996. المنسق العام لشبكة الامان للسلم الاهلي، رئيس المنظمة العربية لحماية ومساندة الصحفيين وسجناء الرأي، المنسق العام للجنة الدفاع عن الاسرى والمعتقلين في السجون الصهيونية، عضو لجنة الحكماء في اتحاد المحامين العرب، عضو المكتب الدائم في اتحاد الحقوقيين العرب، عضو اتحاد الكتاب اللبنانيين وعضو المؤتمر القومي العربي. المنسق العام للبرنامج التدريبي للمحامين اللبنانيين بيروت، وعضو في اللجنة العلمية للبرنامج.. مؤسس مكتب المحاماة ( عمر زين القانونية) المتعلق بالقضايا التجارية والمدنية والجزائية والادارية وادارة العقارات والتحكيم وادارة تحصيل الديون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى