شارل صليبا/ رئيس جمعية الاستشاريين اللبنانيين
من المؤكد أن جائحة كورونا التي غيرت وجه العالم مؤخرا سوف تحمل مستقبلاً جديدًا بملامح غير مسبوقة. وعلى الرغم من أن العالم قبل تلك الأزمة كان يعاني من مشكلات عديدة، إلا أن الجميع الآن مشتاقون إلى حياتهم السابقة وروتينهم المعتاد. ولا يمكن أن ننكر أن وتيرة الحياة البشرية في الفترة الأخيرة قد أصبحت أكثر تسارعا وبخاصة في المناطق المتحضرة، ما أثار مخاوف كبيرة تتعلق بالعلاقات الإنسانية والأخلاق والدين والحوكمة والبيئة والمنافسة والمساواة والحرية والمسؤولية الاجتماعية وغيرها. ولعل السبب الأساسي وراء هذا التغيير الجوهري هو الاعتماد المفرط على تكنولوجيا الاتصالات والويب على نحو بات يهدد العلاقات الإنسانية الطبيعية التي أصبحت طي النسيان وتم استبدالها بديناميكية ثورية في عالم الاتصالات وخوازميات البيانات واقتصاديات الأسواق الحرة.
لقد تمثلت التحديات الكبرى في العالم قبل انتشار جائحة الكورونا في أن القفزات والتطورات كانت تحدث على نحو ثوري، مما أحدث نوع من الارتباك السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وبالتالي لم يكن العالم مستعدا بأي شكل من الأشكال لاستقبال الوباء الجديد. فالعقلية السائدة هي عقلية الندرة وليست الوفرة، والتي تتعامل من منطلق أن المتوفر حاليا لا يكفي الجميع، ولذلك يجب ان يتنافس الناس ويتقاتلون من أجل ضمان استمراريتهم على وجه الأرض. فيما يعتقد أصحاب منطق الوفر أن هناك وفرة بالفعل على وجه الأرض ويجب على العالم أن يتكاتف من أجل حياة أفضل. والآن يتعين علينا تحديد الاتجاهات السائدة بعد جائحة كورونا في ضوء العقليات المتعارف عليها والسيناريوهات المتوقعة خلال المرحلة المقبلة.
1- منهج الندرة أم الوفر
لا يمكن أن نسلم حاليا بالمنهج الذي سيتبعه العالم بعد انتهاء وباء كورونا، فقد اندلعت تلك الأزمة في الوقت الذي يتبنى فيه العالم سيناريو الندرة، والذي تمثل في العديد من الصراعات والحروب سياسيا واقتصاديا مما أدى إلى تمزق دول العالم منذ نهاية الحرب الباردة في عام 1991 . والسؤال الآن هل سيصر العالم على تبني المبدأ نفسه بعد انتهاء جائحة الكورونا أم سيتوجه صوب عقلية الوفر. والحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال تعتمد في الأساس على الآلية التي تعاملت بها كل دولة مع الأزمة، فالمنهج أو العقلية المتبعة يتم تحديدها عادة في ضوء التجربة التي تم معايشتها بالفعل.
وإذا اختارت معظم الدول مبدأ الندرة، فسوف نرى المزيد من تطبيقات الحمائية الاقتصادية، والقومية المتطرفة، والاشتباكات والمنافسات الشرسة بين الدول، وربما قد يقودنا ذلك نحو حرب عالمية جديدة من نوعها. أما إذا اختار العالم عقلية الوفر، فسوف يشهد نوعا من التقارب العالمي والتركيز على بناء عالم أكثر انسجاما وتوازنا من قبل القوى العالمية الكبرى.
2- حقيقة الأنظمة الحاكمة
لا يمكن أن ننكر أن أزمة وباء الكورونا قد ساهمت على نحو كبير في الكشف عن الوجه الحقيقي للأنظمة الحاكمة، فقد أوضحت مدى قوتها أو ضعفها ومدى قدرتها على مواجهة الأزمات. فقد كانت بعض الأنظمة الحاكمة بطيئة في التعامل مع الأزمة، وبالرغم من زعمهم بأن عدم امتثال المواطنين لتعليمات حظر التجوال هي السبب في انتشار الفيروس إلا أن مسؤولية الحفاظ على القانون والنظام تقع في الأساس على عاتق الدولة. ويٌتوقع أن تشهد بعض الدول التي لم تتعامل على النحو المرجو مع الأزمة الراهنة نوعا من الاضطرابات السياسية قد تصل إلى حد ظهور حركات عنيفة قد تؤدي إلى الإطاحة بالنظام. وعلى الجانب الآخر، ستشهد الدول التي استجابت على نحو جيد للأزمة تطوير شامل للنماذج الاجتماعية والاقتصادية والرعاية الصحية والتعليمية.
3- سرعة الاستجابة والسلامة وكفاءة الخدمة الطبية المقدمة
لقد كان نظام الرعاية الصحية في العالم أجمع بما يضمه من أطباء وتمريض هو البطل الحقيقي في المعركة ضدCOVID 19 . حيث أن أداء الطواقم الطبية قد حملنا جميعا على إعادة التفكير بشأن الوضع العام للمنظومة الصحية قبل أزمة كورونا، وذلك نظرا لسيطرة الطابع المادي على القطاع الصحي واعتباره مجالا لتحقيق الأرباح وكسب الأموال. وعلى مدار العقود الماضية، كان هناك بعض القصور في عدد من التخصصات الطبية وعلاج الأمراض المزمنة، وكان التركيز الأكبر على توظيف التكنولوجيا في الطب والممارسات الوقائية والطب التجميلي، وذلك مقارنة بالطب العلاجي. ومن ثم فقد أصبحت الدروس المستفادة من أزمة الكورونا بمثابة بداية لعهد جديد قد يحمل بعض الاتجاهات الفكرية التالية:
– العمل على بناء واستدامة نظام صحي متماسك قادر على الاستجابة السريعة في حال وقوع الأزمات
حيث كان التحدي الأكبر بالنسبة لمواجهة أزمة COVID 19 هو سرعة الاستجابة ومحاولة السيطرة على أعداد الحالات المصابة، حيث واجهت النظم الصحية في معظم دول العالم مجموعة من المشكلات يتمثل في توفير عدد مناسب من الأسرة لاستيعاب المرضى، وأجهزة التنفس الصناعي، إلى جانب توفير الواقيات الشخصية للطاقم الطبي. ولعل الاتجاه الفكري الذي سوف تتبناه دول العالم بعد انتهاء الأزمة الوبائية العالمية هو التشديد على مدى جاهزية القطاع الصحي دائما واستعداده لمواجهة أزمات مشابهة في المستقبل.
– الحرص على سلامة الفرق الطبية
من المؤكد أن الحفاظ على أمن وسلامة الطواقم الطبية سيحتل الصدارة في قائمة أولويات الدول بعد انتهاء تلك الأزمة. فقد أصيب عدد ليس بالقليل من الأفراد العاملين في القطاع الصحي منذ بداية تفشي العدوى الوبائية القاتلة، ومن ثم فسوف تتوجه الجهود الرسمية والاستثمارات في المستقبل نحو دعم البنية التحتية الطبية وتوفير كافة سبل الحماية للطواقم الطبية، لأن العالم لن يحتمل المزيد من الخسائر في صفوف الدفاع الأمامية.
– التركيز على الطب العلاجي
من المتوقع أن تسعى دول العالم إلى تطوير مجال الأبحاث العلمية في سبيل التوصل إلى علاجات ناجعة لعلاج الأوبئة التي يتكرر ظهوروها كل بضعة أعوام مثل الايبولا وسارس وCOVID 19 وبخاصة ان عالم الطب كان عادة ما يتفاجئ بتفشي تلك الأوبئة مما يتسبب في حدوث نوع من الارتباك في المنظومة الصحية بالكامل. ولذلك فسوف تخصص الحكومات جزءا كبيرا من ميزانياتها الخاصة لعلاج الفيروسات والأوبئة التي تقضي على عدد كبير من الناس.
– إعادة التفكير في أخلاقيات الرعاية الصحية
لقد طرحت معركة COVID 19 مسألة وجودية هامة تتمثل في حق كل فرد في الحصول على الرعاية الصحية المناسبة. لا يمكن إنكار أن العديد من الأنظمة الصحية في كل من الدول المتقدمة والنامية والفقيرة كانت عاجزة عن استيعاب الأعداد الكبيرة من المصابين . وقد أدى ذلك إلى الإضرار بصحة الآلاف حول العالم والذين كان من الممكن إنقاذهم في حال كانت أنظمة الرعاية الصحية جاهزة للتعامل مع أزمة COVID 19 ولذلك سوف يتوجب على الدول إعادة التفكير في المستقبل، مسألة تقييم المرضى وتحديد أولويات الحالات، وذلك كي يكون النظام الصحي على استعداد كامل في حال حدوث أزمة وبائية جديدة -لاقدر الله- للمفاضلة بين المرضى وتحديد أولويات الحضور وتلقي العلاج، بضمير مرتاح.
4- إعادة هيكلة الوسائل التعليمية
لقد أثارت جائحة كورونا قضية هامة، تتمثل في ضرورة الاعتماد على العلم والعلماء لمجابهة المخاطر والأزمات، ويمكن النظر إلى ذلك الوباء باعتباره فرصة ذهبية لدفع العالم في اتجاه تطوير الوسائل التعليمية. ورغم الإنجازات التي حققتها العديد من بلدان العالم خلال السنوات الماضية في ذلك المجال من حيث إدخال التقنيات الحديثة في التعليم، إلا أنه لم يتم اختبار مدى صلابتها وقدرتها على احتواء الأزمات، كالحال الذي يعايشه العالم حاليا. ويمكن أن نطرح هذا التحدي الكبير من خلال خمسة أبعاد هامة:
– قدرة المؤسسات التعليمية والمعلمين على التواصل من خلال المنصات الالكترونية عبر الانترنت.
– قدرة المعلمين على إعداد الفصول الافتراضية ومتابعة وتقييم الطلاب عن بعد.
– ضمان وصول الطلاب –من مختلف الشرائح الاجتماعية- إلى المنصات الالكترونية والحصول على المواد الدراسية المقدمة عبر الانترنت.
– قدرة المؤسسات التعليمية على متابعة حضور الطلاب وضمان إصدار الشهادات –قدر المستطاع- للطلاب المؤهلين لذلك.
– قدرة البنية التحتية للاتصالات على استيعاب العدد الكبير من الطلاب الذين يتواصلون عبر الانترنت في نفس الوقت للحصول على دروسهم.
وعليه، فإنه يمكن القول بأن عالم التعليم بعد جائحة كورونا سوف يشهد عدد من الاتجاهات الفكرية الجديدة وهي:
– تعزيز التعليم المختلط بين الفصول الدراسية، ونظيرتها الافتراضية
لقد أثبتت الأزمة الراهنة على قدرة المؤسسات التعليمية إلى حد كبير على تقديم المواد الدراسية عبر الانترنت مما يجعلها تتبنى ذلك الاتجاه الجديد في المستقبل والعمل جاهدة على تطوير أدوات التعليم عن بعد ومن ثم تقلل اعتمادها على حضور الطلاب في الفصول الدراسية. بالإضافة إلى المرونة ، سيضمن هذا النهج مقاربات لا حدود لها ويسمح بعولمة نظام التعليم، حيث سيسمح لمزيد من الطلاب (في المدارس والجامعات) بالتحول نحو التعلم عبر الإنترنت في أي مؤسسة يختارونها ، مما يجعلهم طلاب عالميين.
– توجه عالم التعليم نحو الرقمنة
من المؤكد أن تشهد الساحة التعليمة العالمية المزيد من الاستثمار في مجال إجراء البحوث العلمية التي تستهدف رقمنة الوسائل التعليمية، والانتقال من عوالم المحاكاة العسكرية والهندسية نحو المزيد من التركيزوالاهتمام البحثية والأكاديمية.
– عولمة المناهج الدراسية
لا شك أن الابتعاد عن مبادئ الحمائية الاقتصادية والمبالغة في الشعور بالقومية، سيدفع العالم في اتجاه عولمة المناهج الدراسية مع الحفاظ على الشعور بالانتماء إلى نفس الكوكب. وسوف يضمن هذا الاتجاه عددا غير محدود من المعلمين، وضمان وصول كافة الطلاب المحرومين من التعليم إلى المواد الدراسية، ولعل ذلك يعد فرصة جيدة لمتابعة ما يتم غرسه في نفوس الأطفال. هذا إلى جانب ضرورة وضع الإطار التشغيلي والقانوني المناسب للنظام الجديد، وتفعيل نظم الرصد والمراقبة لمنع حدوث الاختراقات والانتهاكات عبر الانترنت.
5- إعادة التخطيط لآليات إدارة الأزمات
لقد شرعت معظم حكومات العالم منذ سنوات طويلة في صياغة بعض القواعد والآليات المناسبة لمواجهة الأزمات المحتملة، والتي تركز معظمها حول آثار الحروب والأزمة التقنية الشهيرة المعروفة بـ Y2K عام 2000 وبالتالي فقد كانت كافة سيناريوهات مواجهة الأزمات تستند إلى تلك الأسباب المألوفة لوقوع الأزمات كالكوراث الطبيعية وانقطاع الانترنت واندلاع الحروب.
ولكن لم يضع أحد أبدا في الحسبان أن الأزمة الأخطر على الإطلاق ستكون ناشئة عن تفشي وباء على نطاق عالمي مثلما حدث مع جائحة الكورونا، والتي كشفت عن مدى الفشل التنظيمي على الصعيدين المحلي والدولي. فقد أخفقت معظم دول العالم في التعامل مع الأزمات الداخلية. فمنذ اضطرار الحكومات إلى فرض حظر التجوال، ظهرت أعباء توفير احتياجات السكان في المنازل وتنسيق شئون التعليم عن بعد وتأمين المعدات الطبية . وفي المقابل أظهرت المنظمات الدولية فعالية ضعيفة وأقل تأثيرا مما كان متوقعا.
ومن المرجح أن يؤدي ذلك الوضع التنظيمي المتواضع إلى ثلاث اتجاهات رئيسية:
– إيلاء المزيد من الاهتمام للتدابير التنظيمية المختصة بمواجهة الأزمات الناجمة عن الأوبئة
من المتوقع أن تبالغ الحكومات في التركيز على اتخاذ المزيد من الإجراءات والتدابير التنظيمية لاحتواء الأزمات الناجمة عن انتشار الأوبئة، إلى جانب دراسة كيفية إلزام المواطنين بقانون حظر التجوال وتوفير المعدات الطبية بالمسشتفيات. وقد يكون هناك معيار مهني جديد مثل ISO متعلق بالوباء وذلك لتقييم مدى جاهزية وكفاءة المنشآت الطبية في التعامل مع الأوبئة المحتملة.
– إقرار اللوائح المنظمة للأعمال بعد انقضاء الجائحة
ستعمد الحكومات إلى وضع بعض التدابير المنظمة لعدد من الملفات الشائكة بعد انقضاء الجائحة كالبطالة و تقديم الدعم للشركات التي اعلنت إفلاسها وكيفية إدارة الدين الخارجي والداخلي وأيضا تحديد الخطوات اللازمة لدعم الاقتصاد بوجه عام. بالإضافة إلى ذلك سيتم تطوير المزيد من اللوائح بشأن العمل من المنزل ، وتعويض الموظفين خلال أوقات الأزمات ، والنوافذ القانونية والتعاقدية، والإجراءات القانونية المتعلقة بالمحاكمات خلال فترات الأزمات.
– الانسحاب من المنظمات الدولية السابقة
بالنظر إلى الطريقة التي تعاملت بها معظم الهيئات والمنظمات الدولية مع أعضائها خلال أزمة الكورونا، فمن المتوقع أن تعمد بعض الدول إلى مراجعة مسألة جدوى واستمرار عضويتها في تلك الهيئات، بالإضافة إلى صياغة اللوائح المناسبة للخروج المنصف من تلك الكيانات الدولية.
– إقرار بعض القوانين الصارمة إزاء مشاركة المحتوى ونشر الأخبار عبر وسائل التواصل الاجتماعي
لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورا هاما في نقل وتداول المعلومات بين المواطنين خلال الأزمة، ولكن هذه الميزة قد تم استغلالها على نحو خطير من قبل بعض العابثين الذين استغلوا حالة الاضطراب التي يمر بها العالم وقاموا بنشر بعض الأخبار الزائفة والبيانات المضللة التي تؤدي إلى إثارة الذعر بين المواطنين وعرقلة جهود الدولة وبخاصة قطاعي الأمن والصحة. وبناءً على ذلك ، من المحتمل أن نرى ميلًا لدى المشرعين لتطوير لوائح خاصة لتحميل الأشخاص الذين يقومون بمشاركة المحتوى عبر منصات التواصل الاجتماعي مسؤولية ما يفعلونه. ويشمل ذلك آليات التحقق من مصداقية المعلومات ، وبيان ما إذا كان المحتوى معتمدًا من قبل المؤلف أم لا.
6- إعادة التنظيم المؤسسي وإدارة الموارد البشرية
لقد تعطلت كافة الآليات الخاصة بكل من الاقتصاد الكلي والجزئي تماما بسبب جائحة الكورونا، مما يفرض على نظم الإنتاج وسلاسل التوريد التفكير والتخطيط والعمل وفقا لقواعد الأسواق الجديدة والغير متوقعة على الإطلاق، ويشمل الأمر أيضا قطاع الخدمات، حيث يتعين على الشركات إعادة التفكير في أنظمتها وممارساتها الحالية بهدف استيعاب الظروف الجديدة للأسواق في المستقبل، وهذا يشمل إعادة هندسة نماذج وإجراءات التشغيل والسياسات الخاصة بالتعامل مع الافراد العاملين. ويبدو أن الوقت قد حان للتخطيط للمرحلة الجديدة والتي ستبدو جديدة بصورة تامة ولكن المهمة لن تكون سهلة على الإطلاق. وعندما ينتهي الوباء لن يكون هناك أية فرصة سوى للعمل فقط. وبناء على ذلك سيكون هناك ميلا نحو الاتجاهات التالية:
– استيعاب المواهب العديدة
يجب أن نفكر في عالم ما بعد كورونا على نحو أكثر جدية فيما يتعلق بانتشار البطالة حيث ينبغي أن تتبنى الدول اتجاها إيجابيا إزاء من فقدوا وظائفهم، ويجب النظر إليهم باعتبارهم طاقة إيجابية ومخزون هائل من الكفاءات ومن ثم يمكن استثماراهم لاحقا في وظائف جديدة أو الاستفادة من قدراتهم في إعادة إحياء الوظائف القديمة.
– تنامي الاتجاه نحو الدمج وظهور الشركات ونماذج الأعمال العائلية الصغيرة
في ظل الأزمة الراهنة وإفلاس العديد من الشركات، فمن المتوقع أن يتزايد الاتجاه نحو تحقيق الدمج بين الشركات و إنشاء المشروعات الصغيرة، فسوف يصبح من الممكن أن تحقق شركتان مثلا نوعا من الاتحاد بينهما للاستفادة من خبراتهما المشتركة. كما أن بقاء أصحاب الخبرات كالفنيين والمهندسين بالمنازل يتيح فرصة أمام العائلة للاستفادة من طاقاتهم وكفاءتهم في إقامة المشروعات العائلية الصغيرة والتي ستحل محل الشركات الكبرى وتسهم في التغلب على مشكلة الإفلاس.
– وضع نظام محكم لإدارة الفرق التي تعمل عن بعد
تعمد الحكومات والشركات حاليا إلى إعداد فرق متكاملة من الموظفين الذين يعملون عن بعد، وهذا يتطلب بالطبع تعاونا وثيقا بين كل من خبراء الموارد البشرية والمهندسين المسؤولين عن تقديم الدعم الفني والمشرعين.بالإضافة إلى ذلك، سيتم وضع خطة لبحث سبل تقديم التعويضات للموظفين الذين يعملون عن بعد.
– استعادة التوازن بين الحياة العملية والسلامة النفسية
كشفت أزمة الكورونا عن ضجيج معظم أنماط الحياة الحديثة التي اعتنقها الناس في جميع أنحاء العالم. ومن ثم فقد كان إغلاق المدن وبقاء الأفراد في المنزل بمثابة فرصة لاستعادة التواصل مع الأسرة والتقرب إلى الأولاد، والتواصل مرة أخرى مع الأهل والأقارب والأصدقاء الذين تم استبعادهم بسبب أولويات نمط الحياة. كما تعتبر تلك الأزمة فرصة كبرى لإعادة اكتشاف وتقييم الذات وإعادة التواصل مع الله، ولعل ذلك من أهم المكتسبات التي عادت علينا جراء انتشار ذلك الوباء. وعلى هذا النحو، سيكون هناك اتجاه نحو إعادة التوازن بين الحياة العملية والحياة الأسرية، وبالتالي فمن المتوقع أن نشهد خلال المرحلة القادمة جداول عمل أقصر وتركيز من قبل العديد من الأفراد على ممارسة دور الأبوة والأمومة وكيفية حرص الأسرة على قضاء المزيد من الوقت سويا.
– نموذج الأسواق الجديدة المستوحاة من فيروس كورونا
لقد تزايد الاتجاه على مدار الأعوام الماضية نحو خيارات وتطبيقات التسوق الالكتروني، حيث أصبح المستهلك قادرا على الحصول على كل ما يريد بضغطة زر واحدة. ولكن بعد أزمة كورونا، تم منع التعاملات التجارية بين البشر تماما واتجه الجميع نحو الفضاء الالكتروني للحصول على السلع الاستهلاكية والاحتياجات اليومية. وهنا أدركت الشركات الكبرى مدى خطورة انقطاع الانترنت. وبالتالي سوف يشهد العالم بعد انتهاء تلك الجائحة تطورا هائلا في إنتاج البرمجيات والتطبيقات الخاصة بالتسوق، كما ستصبح الخدمات اللوجستية أكثر مرونة وبأسعار معقولة وفعالة يمكن أن تصل إلى أي مكان في العالم في غضون بضع ساعات فقط.
كما أن ارتفاع التكاليف في الأسواق التقليدية ستجعل التسوق الالكتروني هو الوجهة المفضلة لكثير من العملاء، كما أن القوة الشرائية الضعيفة في النمط الجديد من التسوق ستدفع المستهلكين نحو الاستغناء عن السلع الغير ضرورية، الأمر الذي سيؤدي في الأخير إلى تزايد الاتجاه نحو مبدأ DIY (Do It Yourself) أو اصنع حاجاتك بنفسك في المنزل.
8- نظام عالمي جديد في القطاعين المالي والمصرفي
الركود الذي سيحدث بعد الوباء ، إلى جانب استنزاف القدرة المالية للشركات والمواطنين بسبب أشهر من الإنفاق أثناء وجودهم في المنزل ، ومستويات عالية من عدم الثقة في الحكومات والبنوك ، سيلعب الدور الرئيسي في تشكيل البنوك والساحة المالية في المستقبل. ببساطة ، بعض الاتجاهات المحتملة كالآتي:
– تزايد الاندماج بين البنوك: سيتعين على العديد من البنوك مواجهة خيارين ؛ إما الدخول في عملية اندماج أو مواجهة الإفلاس.
– الحكومات كمساهمين في البنوك: سوف تتجه الحكومات إلى شراء الأسهم لدى البنوك من خلال صناديق الاستثمار الوطنية تجنبا لانهيار النظام المصرفي في البلاد.
– الاتجاه نحو المعاملات المالية الغير نقدية: سيكون هناك اتجاه متزايد للحكومات والبنوك للانتقال إلى مجتمع غير نقدي. فقد تبين أن تداول الأوراق النقدية الورقية أمرخطير خلال الوباء. ويشمل ذلك مخاطر التلوث وصعوبة الانتقال وعدم إمكانية الوصول بسبب إغلاق البنوك. علاوة على ذلك ، ما سيعزز هذا الاتجاه هو صعوبة التعامل مع أكوام من الأوراق النقدية الورقية بسبب انخفاض قيمة الأموال في العديد من البلدان في أعقاب الوباء.
9- الاتجاه نحو مجتمع أكثر عقلانية
لقد تغيرت الحياة بالفعل قبل اندلاع ازمة الكورونا، فعلى الرغم من ابتكار العديد من أدوات الاتصال، إلا أن المجتمع أصبح أقل تواصلا. فمن المفترض أن الهدف الأساسي من إنشاء الشبكات الاجتماعية هو تحقيق التواصل الفعلي بين الأهل والأصدقاء، إلا البديل قد تمثل في مزيد من التواصل عبر المقاطع الفيديو والتغريدات والمنشورات، أي أن التواصل انتقل من مرحلة التفاعل المباشر على ارض الواقع إلى الاتصال بين البشر في الفضاء الالكتروني فقط. ولعل ذلك ما جعل الناس يتقوقعون داخل أنفسهم ويعيشون نمط حياة آلية تسيره العلامات التجارية. في الواقع لقد كان سكان العالم يمارسون التباعد الاجتماعي ويطبقونه منذ سنوات طويلة قبل الكورونا.
وفي الوقت نفسه، فقد فقدت العديد من القوى العظمى في العالم بريقها وتحولت إلى مجرد مستوطنات بشرية حائرة بين إرث الماضي وغموض المستقبل. فقد ظلت أوروبا تتقدم في السن لدرجة جعلتها عاجزة عن قيادة الحضارة الرصينة. أصبح الأمر أكثر إثارة للجدل حول كل شيء بما في ذلك التاريخ والدين والتقاليد والاتحاد والسلوك الاجتماعي العاقل. تحولت الولايات المتحدة من كونها الداعم الأكبر للحرية في العالم والمنادي بعقلية الوفر، إلى تقلد منصب المدعي العام العالمي. كانت الصين والهند تعيدان اكتشاف القوة الخام للأرقام وتأثيرهما على احتكار الاقتصاد العالمي، كما كانت روسيا تتعافى من تاريخ أجدادها الحديث ، ساعية نحو استقطاب أكبر عدد ممكن من الحلفاء. ومع ذلك ، فإن العديد من الدول في بقية العالم ، كانت تواجه الكثير من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والعنف والاضطراب الذي عززته نظرية الفوضى الإبداعية. ولكن في أعقاب هذا المرض المتوطن ، من المحتمل أن نشهد الاتجاهات التالية:
– الاستشفاء الاجتماعي
لقد أثرت هذه الأزمة الوبائية بصورة فجة على حياة شعوب الدول التي حلت بها. فقد عانى الجميع ما بين الكبار والصغار. وبالنسبة لفئة الأطفال والشباب، تعد تلك المرة الأولى التي يشهدون فيها مدى صعوبة الحياة وهشاشة العالم، وذلك كله بفعل كائن مجهري دقيق لا يرى بالعين المجردة، يالها من تجربة قاسية حقا. لاشك أن التباعد الاجتماعي سيلقي بظلاله سلبا على العلاقات الإنسانية، وسيحتاج الأشخاص الذين شاهدوا الموتى يتساقطون أمام أعينهم لفترة أطول للتعافي من تلك التجربة القاسية. وعلى هذا النحو سيحتاج جميع سكان العالم تقريبا إلى نوع من الاستشفاء كي يتمكنوا من مواصلة حياتهم الاجتماعية والعاطفية مجددا.
– التراخي والتباطؤ
لن يكوت التراخي وإبطاء إيقاع الحياة خيارا بعد الآن، فالركود الذي سيصيب العالم بعد جائحة كورونا سيجعل الجميع يتنازلون عن الكثير من مطالبهم وطموحاتهم التي كانوا يركضون خلفها بإصرار تام. سننظر إلى الكثير من الممتلكات التي كنا نتطلع إليها يوما ما على أنها أعباء صعبة المنال، ومن ثم ستتجه الحياة تلقائيا نحو التباطؤ.
– اكتشاف الذات
من المرجح أن تشهد الفترات التالية لتلك الجائحة عمليات تقييم للذات وللعالم أجمع من قبل البشر الذين يتصفون بطابع الفضول، حيث يدفعهم شغفهم وفضولهم التلقائي إلى طرح العديد من التساؤلات والسعي نحو الحصول فورا على الإجابات. سيتساءلون عن أسباب تلك الأزمة، وماذا كان من الممكن فعله لتفاديها، وهل قامت الحكومة بواجبها على أكمل وجه، وهل يمكن أن تحدث مرة أخرى. كما سيطرحون بعض الأسئلة أيضا لتقييم أنفسهم، فكل منا يريد أن يعرف ما الذي تغير فيه خلال تلك الأزمة، وما هي أكثر الأشياء أهمية بالنسبة له حاليا، ومن هم الأشخاص الأكثر أهمية أيضا في حياته. ولعل تلك التساؤلات تفسح المجال أمام الجميع للتواصل مجددا مع الله، وليس بالضرورة أن يصبح الجميع على قدر عال من التدين ولكن على الأقل سيعيدون ترتيب أوراقهم وحساباتهم من منظور نفسي. وهنا تتجلى سمات المؤمنين باعتبارهم أكثر قدرة على مواجهة الصعاب والأزمات مقارنة بغيرهم.
وتتوالى التساؤلات الفردية التي تتدفق إلى أذهان البشر، فيسألون عن مصريهم ومصير أعمالهم ووظائفهم ومستقبل أبنائهم، الجميع يعيشون في حالة ترقب وخوف مما هو آت ويسألون بعضهم البعض، متى ينتهي هذا الكابوس!
أما عن التساؤلات العامة أو الكونية، فالجميع يتساءلون عن مصير العالم، فهل سيكون هناك نظام عالمي جديد بعد انتهاء الجائحة؟ هل سيتنامى دور الصين كقوة عظمى؟ هل سيستمر الاتحاد الأوروبي ككيان قائم بذاته أم سيتوالى انسحاب بعض البلدان من تحت مظلته وعلى رأسهم إيطاليا وأسبانيا ودول اوروبا الشرقية والتي لم تجني طائلا من انضمامها لذلك الكيان الكبير؟ هل سيستمر وجود الأمم المتحدة والتي وقفت عاجزة خلال الأزمة الراهنة؟ هل سنرى تغييراً في الأنظمة والأحزاب الحاكمة خاصة أولئك الذين ثبت فشلهم التام في التعامل مع الوباء؟ هل سنرى العنف داخل الدول وفيما بينها من أجل الموارد المتضائلة باستمرار ؟
ويمكن تلخيص الأسئلة السابقة جميعها في سؤال جوهري وجودي محتمل. ما هي العقلية التي سيتبناها العالم بعد انتهاء جائحة كورونا؟ إذا تبنى العالم عقلية الندرة ، والتي تسلم بأنه لا يوجد ما يكفي للجميع ، فسوف نشهد اتجاهًا متزايدًا نحو المنافسة الشرسة ، وإقصاء الأمم ، والحمائية ، والقومية المتطرفة ، والتي قد تؤدي جميعها في نهاية المطاف إلى حرب عالمية. وهنا قد تلجأ العديد من الأمم إلى التصعيد المستمر لحماية أنفسهم من الفشل اعتقادا منهم بأن هذا قد يساعدهم على امتصاص غضب شعوبهم . ويعتقد بعض المنظرين السياسيين من أصحاب الرؤى المتطرفة أن الحروب تقتل الكثيرين ولعل ذلك ما يسهم في إعادة التوازن إلى الاقتصاد ويعمل على استقرار الأنظمة السياسية.
وفي المقابل، إذا تبنى العالم عقلية الوفرة، بما يعني أن هناك الكثير للجميع، فسوف يشهد العالم ازدهار الحضارة الإنسانية، وتقارب الشعوب وتكاتفها جنبا إلى جنب في محاولة للتداوي سويا من الجروح الناجمة عن الأزمة الوبائية العالمية. سوف نشهد خطة ونهجا شاملا لمحاولة إحياء الاقتصاد العالمي. سنرى التعاون في كافة الأنشطة الإنسانية بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم والرفاهية والنواحي المالية وربما السياسية. سنرى المزيد من الانسجام بين الأديان التي تمتلك الترياق لشفاء قلوب وعقول السكان الذين يشعرون أنهم تم خداعهم من قبل السياسين. سوف نشهد حركة إنسانية غير مسبوقة من دول أقل إصابة لتضميد جرح المصابين.
إذا كنا جميعا على استعداد تام لتبني عقلية الوفرة، فيجب علينا أن نبدأ الآن، يجب على المفكرين والمهنيين والاقتصاديين والممولين والمعلمين والاستشاريين والموظفين والعمال وأصحاب الأعمال التجارية ، تبني عقلية الوفرة اعتبارًا من اليوم. كل ما نحتاجه للبدء هو ثلاثة إجراءات بسيطة يمكن لأي شخص القيام بها بدءا من اليوم:
1- قم بتدريب عقلك على تبني مبدأ الوفرة
كن على قناعة تامة دائما بأن هناك الكثير والوفير للجميع. إذا كنت متدينًا ، تذكر أنه لا يوجد دين في هذا العالم ينذر بالندرة أو الخوف أو تباعد البشر. فجميع الأديان هي ديانات الوفرة والحب والتقارب. حتى لو لم تكن متدينًا ، درب عقلك على الإيجابية وفن العطاء. اسأل عما يمكنك تقديمه للآخرين بدلاً من انتظار ما تتوقعه منهم. الإيجابية هي القدرة العلاجية الأكثر فعالية التي يمتلكها كل إنسان بفطرته الخالصة.
2- اعتزل الأفكار السلبية تماما
يجب أن تتجنب كل ما يقودك نحو الأفكار السلبية، ولعل أهمها الأخبار التي تنذر بالتشاؤم. وخلال الأزمة الراهنة، لدينا ثلاث مصادر للأخبار السلبية والحقيقية والإيجابية. والنوع الأول هو الأخطر بينهم. لذا يتوجب عليك أن تنأى بنفسك تماماعن تلك الفئة من الناس ممن يتعمدون بث الخوف والفزع بين الناس من أجل فقط البرهنة أنهم على حق.
3- ابدأ بنفسك، وقم بالترويج لعقلية الوفرة
يمكنك أن تكتب وتتواصل مع الآخرين وتستمر في إقناعهم بالإيمان بمبدأ الوفرة. نعم قد تبدو تلك المهمة صعبة في ظل تلك الظروف الحالكة التي يعيشها العالم. إلا أنه لا شئ مستحيل أبدا. فالغمامة التي تحجب الشمس لابد لها أو تزول لتشرق الأشعة الذهبية بالخير على الأرض من جديد. قم بالتطوع والتدوين والمشاركة في كل ما هو إيجابي ويسهم في الترويج لعقلية الوفرة. وعندئذ يمكنك أن تنقذ العالم. والجدير بالذكر أن ما سبق ذكره ليس مشهد من فيلم سينيمائي يصور الجنة، ولكنها الحقيقة وما يجب أن تقوم به البشرية فعلا بعد انتهاء تلك الأزمة وزوال الوباء.
للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا