اجتماعالاحدث

منابر النفاق | كتب شارل صليبا

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

 

بالله عليكم، فليقل لنا أحد متى أصبح الكذب مسموحاً لا بل ممدوحاً، ومتى أصبح النفاق مفخرةً والحقيقة مزبلةً؟ متى أصبح المِنبَر مَعبَر والناس مَنظَر، والشهادةُ زوراً والعقول شكلاً من أشكال الكرويات الفارغة يُلعَب بها على ملعب أخضر، لا بل أحمر!

أستمحيكم عذراً، فقراءة الأخبار في الليل والنهار لم تخبرني حقيقةً ولا أسرار، بل ملأتني بالحزن والكرب، والحنق والحقد، والاضطراب والغضب، وسببت ليَ الصداع الذي لا دواء له لأن التاجر خبأه، والمسؤول سامحه، والشعب كافأه.

أصبحنا مُنَفصِمين، مُنقَسِمين، منتَهَكين، لا نعلم إذا بعَرضِنا أم بعقلنا، ولكننا منتَهَكين. يُكذَب علينا ولا ننتفض، نُقتَل ولا نثور، نُغتَصَب ونؤثِر الصمت خوفاً من التشهير، وأي تشهير؟ فقد بعنا أصواتنا منذ زمن وبرهنا أننا قابلون للبيع والشراء؛ فقط الثمن يختلف في سوق البشر.

أقوى ما فينا هي عقولنا، وأخف ما فينا هي أيضاً عقولنا. إن الله منحناها لنستخدمها، لا لنملأها بنفايات المنابر وتفاهات الإعلام الرخيص. إن صفة العقول البشرية هي التفكير؛ التفكير لنتقدم، لننمو، لنصبح أرواحاً أفضل تستحق الآخرة الصالحة، وليس التفكير لنسيطر، ونَستَعبِد، ونقتل، وننحر، ونكذب، ونخدع، ونَكسَب الحرام، ونَستَغبي، ونحرِّض، ونشعل النيران بين أبناء الإنسان. إن صفة العقول هي التفكير الصحيح الذي جعل من الإنسان إنسان، ومن الإنسانية مرتَبَة. ولكن يبدو أن ليس كل إنسان إنسان، وأن القليل من البشر يسعون لإكتساب مرتبة الإنسانية.

لقد سيطر الخوف على البشر، والخوف مثل النار، يجعل شوائبنا تطفو على السطح. الخوف هو سلاح الشيطان، به يستثير فينا غريزة البقاء، تلك البقايا الحيوانية التي تهُبُّ مثل النار في الهشيم إذا ما هُدِّدنا. لذلك فإن كل من يستخدم الخوف، هو من الشيطان أتى، لأنه يعلم أنه باستخدام الخوف يمكنه السيطرة على العقول، خاصة الضعيفة منها؛ ومن يعلم أن الخوف يُخَدِّر العقول إلا الشيطان وأبناءه؟! لذلك أعطانا الله العقل لنستخدمه كسلاح ضد الخوف، نستخدمه لنعرف الله ليس فقط بألبابنا، وإنما بعقولنا، حتى لا نسمح للخوف بأن يسيطر علينا، وللشيطان أن يستبيحنا.

هذا ليس درس في الدين، وإنما عِلمٌ برهنه العلماء، وأكده الواقع. الخوف هو ما استخدمته الأمم منذ القِدَم لتستبيح، وتهاجم، وتعلن الحرب، وتسيطر. اسأل العلماء والمؤرخين (الموضوعيين منهم).

وللخوف أخ لا يفارقه وهو الكذب. فحتى تخيف الناس، يجب أن تكذِب، يجب أن تصنع وحشاً قاذفاً للهب، آكلاً للأطفال، شكله مخيف، صوته عنيف، ويحب اللون الأحمر. وللأسف، دائماً ما تنطلي هذه الخدعة على الجميع؛ أتذكرون “أبو كيس” عندما كُنا أطفال؟ الخدعة ذاتها، ولكن الوحش مختلف. الكذب هو غذاء الخوف، وهو يحتاج الى منبر للوصول الى العقول. فبدون صوت الكذب، لا تخاف العقول، وبدون منبر، لا يمكن للصوت أن يُسمَع.

ما أكثر منابر النفاق اليوم. وهي لا تُستخدم فقط من قبل السياسيين، بل من قبل الجميع. فقد وفَّرَت التكنولوجيا منبراً للجميع، ولكنها لم توفر ضميراً للجميع، فآثَرَ الكل أن ينشر حقيقته (أو كذبته) حتى يحصل على غايتِهِ. بهذا ضاعت الحقيقة الحقيقية، وبهذا أصبح الكذب مقبولاً اجتماعياً، وبهذا لم يعد السياسيون هم ملوك الكذب فقط، بل أصبح لكل عقل ضعيف إمكانية أن يكذب من خلال منبره الاجتماعي. هكذا تُسبى العقول، وتُهدم الحضارات!

الحقيقة هي التالي: عندما يستفحل الشيطان، يكثُرُ الخَوف، وعندما يكثر الخوف تتضاعف منابر النفاق لأن الكَذِب يحتاج الى صوت. هذا هو واقع العالم اليوم. الكل خائف من بعضه البعض، والكل يكذِب على بعضه البعض، ومنابر النفاق مستعرةً مزدهرة مبتهجةً بأن العقول فارغة، والقلوب خائفة، والشيطان يجري في ملعبه مسروراً، لكنه في عمق أعماق نفسه الشريرة يعرف حتماً أن الله أكبر.

شارل صليبا، كاتب وخبير متخصص في الموارد البشرية والحوكمة

شارل صليبا، مؤسس والمدير العام لشركة "أتش آر وركس" HR Works وهي شركة متخصصة في مجال الاستشارات التنظيمية والموارد البشرية. هو عضو مؤسس ورئيس جمعية الاستشاريين اللبنانيين، خبير تنفيذي، ريادي أعمال، كاتب، ومستشار في مجال القيادة وتطوير الأداء. لديه ٢٥ عاماً من الخبرة في إدارة الموارد البشرية وتهيئة المواهب. يتقن بناء القدرة عند الأفراد من خلال خبرة عميقة في تنمية القيادة. ومنذ العام ٢٠٠٩، قام بتدريب، وابداء النصح والاستشارة وتطوير أكثر من٢٠٠٠ مدير تنفيذي ورئيس شركة في البلدان العربية، الأمر الذي جعل منه أحد أبرز الخبراء في هذا الحقل في المنطقة. يتمتع بفهم عميق لاتجاهات السوق، وديناميكيات الأعمال ومعوقاتها، وتأثير تكنولوجيا الترقيم على تغير النماذج التشغيلية للأعمال، مما يضعه في طليعة المستشارين وخبراء الادارة التي تسعى اليهم المؤسسات والشركات الرئيسية لكفاءته في الجمع بين الشق التطويري والإداري والقيادي لعالم الاعمال. قام بين عامي 2010 و 2013 بإصدار ونشر مجلة The HR Review التي كانت المجلة الوحيدة في مجال الموارد البشرية التي تصدر من العالم العربي وللعالم العربي. وهو أيضاً كاتب ناشط في شؤون الحوكمة، والقيادة، والإدارة والتظيم، والموارد البشرية، وشؤون التنمية الاقتصادية والإقتصاد السياسي. الموقع الإلكتروني: www.charlessaliba.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى