في كل عام، تُخَرِّجُ مصر وتُدَرِّب حوالي 7000 طبيب. إذا مارَسَ هؤلاء المهنة في بلدهم، فمن المُتوقَّع أن يتقاضوا راتبًا شهريًا، في المتوسط، 200 دولار. في ألمانيا، يتقاضى الأخصائي في المجال الطبي للفترة نفسها أكثر من 6,000 دولار. في الولايات المتحدة، يمكن أن يكسب جرّاحو التجميل ما يقرب من 50,000 دولار شهريًا. التناقض والفرق بين العمل في الوطن والخارج قَصَّةٌ مُماثِلة تتردّد في العديد من التخصّصات الأخرى، لا سيما التخصّصات التقنية.
في مُواجَهةِ مثل هذه التناقضات والفروقات، هناك أدلّة مُتزايدة على أن بلدانًا عدّة في الشرق الأوسط تقوم بتخريج وتدريب الكثيرين من المهنيين الشباب وتؤهّلهم تأهيلًا عاليًا، حيث لا يلبث العديد منهم أن يغادر البلاد للعمل في الخارج. في بعض الأماكن، تكون المشكلة حرجة. وفقًا للبيانات التي جمعها الباروميتر العربي، بين العامين 2020 و2021، أفاد ما يقرب من نصف المواطنين اللبنانيين أنهم يرغبون في الهجرة بحثًا عن آفاقٍ أفضل في الخارج. بين سن 18 و29، ارتفع المعدل إلى 63 في المئة.
هناك تحدّيات أخرى تُضيفُ إلى الأزمة وتُفاقِمها. رُغمَ أن الافتقارَ إلى الوظائف يُمثّل مُشكِلة كبيرة فهو ليس المُشكِلة الوحيدة، إذ أن الجامعات نفسها هي التي تُثني الشباب الأكثر ذكاءً وكفاءةً عن البقاء في المنطقة. فقد وجدت دراسة جديدة أجرتها مجموعة ماجد الفطيم للأعمال وشركة ماكينزي الاستشارية أن 8 في المئة من طلاب الجامعات في العالم يأتون من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وباكستان. ومع ذلك، يوجد 1.5 في المئة فقط من الجامعات الجيّدة في المنطقة. ويقول التقرير إن هذا الوضع قد أدّى إلى “مغادرة الكثيرين للدراسة في الخارج، وفي كثيرٍ من الحالات، عدم العودة إلى الوطن”.
وهذه المشكلة لا تقتصر على المجالات التقنية والتكنولوجية فقط. فقد انقسم المُشَجّعون المصريون للعبة الاسكواش، وهي رياضة تتفوّق فيها مصر على الساحة العالمية، في الأسبوع الفائت، بعد أنباءٍ عن قيامِ أحد أبطال بلادهم، محمد الشوربجي، بتحويل ولائه للعب مع منتخب إنكلترا. قال الشوربجي (31 سنة) في مقابلة: “أنا مُتَحَمّسٌ حقًا لتمثيل إنكلترا. لقد عشتُ فيها أكثر من نصف حياتي وتدرّبتُ تحت إشراف مُدَرّبين بريطانيين منذ سن ال15”. وأضاف أن القرار الصعب استغرق شهورًا من التفكير، لكنه اتخذه في النهاية على أساس الدعم الذي قدمته له إنكلترا على مدى سنوات. إنه ممتنٌّ بشكلٍ خاص لمنحتَين بريطانيتين دراسيتين رئيسيتين، إحداهما لمدرسة رياضية خاصة رائدة، والثانية لجامعة مُتَخَصّصة.
وشهد الأسبوع الفائت أيضًا المزيد من البيانات المُقلقة التي تضيف زاوية جديدة تمامًا لقضية التعليم العالي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وهجرة الأدمغة. أصدرت وكالة الاستشارات “برايس ووترهاوس كوبرز” (PwC) تقريرًا يقول إن زيادة عدد النساء في القوى العاملة في الشرق الأوسط يمكن أن يرفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 57 في المئة. ولكن إذا أصبح التعليم العالي غير الملائم عائقًا آخر أمام الكثيرات من نساء المنطقة الطموحات، فإن التكلفة الاقتصادية ستكون ضخمة.
الشرق الأوسط أكثر من قادرٍ على تحسين مؤسساته إذا أراد المسؤولون فيه وعملوا على ذلك. في بعض المناطق، وبخاصة الخليج، هناك تقدّمٌ ملحوظ. في التصنيفات الجامعية العالمية ل”كيو أس” 2022 التي تضمّ 1300 جامعة حول العالم، تم تصنيف جامعة الملك عبد العزيز السعودية الأولى عربيًا (106 عالميًا) وجامعة الملك فهد الثانية عربيًا (160 عالميًا)، وجامعة خليفة للعلوم والتكنولوجيا في أبو ظبي الثالثة عربيًا (181 دوليًا)، وجامعة قطر الرابعة عربيًا (208 عالميًا). ولوحظ أن القائمة وضعت الجامعة الأميركية في بيروت في المرتبة السادسة عربيًا (252 عالميًا)، وجامعة القديس يوسف (اليسوعية) في المرتبة ال13 عربيًا (535 عالميًا) وجامعة البلمند في المرتبة 14 عربيًا (537 عالميًا).
سواء في العصور القديمة أو النهضة العربية التي شوهدت بين القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، هناك دليلٌ على أنه يمكن رعاية الفكر والعلم والثقافة في المنطقة. في العديد من النقاط في التاريخ، توافد الناس من الخارج إلى الشرق الأوسط للتعلّم في العديد من مراكزه الأكاديمية، وخصوصًا في لبنان الذي كان منارةَ المنطقة الثقافية والتعليمية. بدون اتخاذ إجراءات، فإن عددًا كبيرًا بشكلٍ متزايد من الشباب من البلدان نفسها سيفعلون العكس، وربما لن يعودوا أبدًا.