قراءة في كتاب الديمقراطية والتحول الديمقراطي – غيورغ سورنسن | بقلم صلاح الدين ياسين
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
يعد هذا الكتاب لمؤلفه “غيورغ سورنسن” البروفيسور في السياسات الدولية وعلم الاقتصاد في جامعة أرهوس في الدانمارك كتابا مهما ولا غنى عنه لأي باحث أو مهتم بحقل التحول الديمقراطي، إذ يناقش أهم القضايا والإشكالات المعرفية التي تحيق بهذا الحقل ويعرض لنا أهم المفاهيم والأدبيات المرتبطة به.
يناقش الفصل الأول من الكتاب السجال المقترن بماهية الديمقراطية ومداها ونطاقها، حيث يشير إلى أن ثمة تعريفان للديمقراطية، التعريف الأول ينطوي على منظور ضيق إذ يحصر الديمقراطية في بعدها السياسي استنادا إلى ثلاثة محددات أساسية وهي المشاركة والمنافسة والحقوق المدنية والسياسية، وتعود جذوره إلى تنظيرات وكتابات المفكرين الليبراليين الأوائل الذين نحتوا مفهوم الديمقراطية الحمائية في إشارة إلى أنه من شأن التمادي في توسيع الحقوق الاجتماعية والاقتصادية أن يفرغ القيم الليبرالية التي نادوا بها من محتواها (المبادرة الفردية، المنافسة الحرة…).
أما التعريف الثاني لـ الديمقراطية فهو أكثر شمولا واتساعا من سابقه، فقد حاجج بعض المفكرين وفي طليعتهم جان جاك روسو وجون ستيوارت مل أنه من شأن إفراغ العملية الديمقراطية من الجانب التكافلي الاجتماعي أن يجعلها مبتورة وعاجزة عن التمثيل المتوازن للمصالح الاجتماعية المختلفة مما قد يفضي إلى حرمان فئات واسعة من المجتمع من حقهم في المشاركة السياسية، ومن ثم فقد دعوا إلى تطعيم وتمتين الديمقراطية بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية .
ويعتبر الفصل الثاني أهم فصل في هذا الكتاب، حيث تناول فيه غيورغ سوزنسن الشروط المسبقة للتحول الديمقراطي، فقام بالمزج والتوليف بين دور العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وخيارات الأطراف السياسية الفاعلة بمعنى دور نخب الحكم في قيادة تحول ديمقراطي تنازلي (من أعلى إلى أسفل بخلاف الانتقال التصاعدي الذي تقوده الجماهير) وهو ما يأتي غالبا حسب الكاتب نتيجة إما للهزيمة في حرب أو حصول تصدع في البنية الحاكمة بفعل أزمات اجتماعية أو اقتصادية أو بحكم تأثير العوامل الخارجية الضاغطة.
كما يقارب سوزنسن التحول الديمقراطي بوصفه سيرورة تتخللها عدة مراحل أولاها المرحلة التحضيرية التي تحيل إلى سقوط النظام التسلطي الحاكم، مرورا بمرحلة اتخاذ القرار التي يمكن اعتبارها أهم مرحلة في التحولات الديمقراطية وتعني الشروع في مأسسة النظام الديمقراطي وإرساء قواعد جديدة للعبة السياسية، وصولا إلى مرحلة الترسيخ الديمقراطي حين تصبح احتمالية النكوص والارتداد إلى الحكم التسلطي ضئيلة وشبه منعدمة وذلك حين تنظر الأطراف السياسية والاجتماعية الفاعلة إلى الديمقراطية بوصفها الخيار الوحيد المتاح .
أما الفصل الثالث فقد توسل فيه الكاتب بمنهج وصفي وتجريبي بحيث انكب على استقراء مخرجات السيرورات الراهنة للتحول الديمقراطي أو ما اصطلح على وصفها صموئيل هنتغتون بالموجة الثالثة من التحول الديمقراطي التي انطلقت من جنوب أوروبا ثم أمريكا اللاتينية و آسيا وصولا إلى أوروبا الشرقية في مطلع التسعينيات، إذ بدا الكاتب أكثر حذرا وتشاؤما بعدما خلص إلى أن معظم هذه التجارب قد آلت إلى الجمود وعجزت عن الوصول إلى ديمقراطيات راسخة مما جعل منها أنظمة هجينة تجمع بين أساليب تسلطية وشكليات ديمقراطية، بحيث تبقى خاضعة لتأثير النخب المهيمنة مما يعوقها عن القيام بإصلاحات جذرية تدفع باتجاه تعميق الديمقراطية.
و يعد الفصل الرابع من أبرز فصول الكتاب ، إذ يناقش فيه غيورغ سوزنسن جدلية الديمقراطية والتنمية الاقتصادية وما إذا كان النظام الديمقراطي المدخل الأفضل لخلق التنمية الاقتصادية أم إن النظام التسلطي هو الخيار الأفضل في هذه الحالة.
وفي هذا الإطار، يميل الكاتب إلى رفض المقايضة التي يقترحها أنصار الاتجاه الداعم للحكم التسلطي بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية لعدم وجود حجج عملية دامغة في هذا الصدد، وإن كان يقر بأن بعض أشكال الحكم الديمقراطي كالديمقراطيات الاجتماعية التي تسود خصوصا في البلدان الاسكندنافية أفضل للتنمية الاقتصادية من الديمقراطيات المقيدة التي تهيمن فيها النخب لصعوبة مباشرة إصلاحات اقتصادية بنيوية.
أما في الفصل الأخير يتساءل الكاتب ما إذا كان تزايد عدد الدول المنضوية تحت نادي الديمقراطيات يعني بالضرورة انبثاق عالم أكثر سلاما وعلاقات دولية قائمة على أسس التعاون السلمي والتفاهم المتبادل، بحيث يستند إلى مفهوم الإتحاد السلمي الذي نحته كانط ويحيل إلى العلاقات السلمية التي تنسجها الديمقراطيات فيما بينها بناء على أواصر أخلاقية وثقافية واقتصادية مشتركة، فغالبا ما لا تخوض الديمقراطيات حروبا ضد بعضها البعض، وإن كان غيورغ سوزنسن يقر في نفس الوقت بأن الإتحاد السلمي مشروع طويل الأمد ويحتاج إلى ديمقراطيات أكثر رسوخا والتزاما بالمثل الديمقراطية.