اجتماعالاحدث

كتاب موحَّد للتاريخ؟ هذا هو | بقلم هـنـري زغـيـب

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

لا أَعرف إِن كان على وجه الأَرض بلدٌ لا يَدرس تاريخَه أَبناؤُه ولا يعرفونه. وفيما تلامذتُنا في المدارس (وحتى طلَّابنا في الجامعات) يعرفون غَيبًا تاريخ فرنسا والكثير من تاريخ بلدان أُخرى، ما زالوا محرومين من كتاب موحَّد لتاريخ لبنان.

حين أَنشأَ الدكتور وديع ضاهر حداد “المركز التربوي للبحوث والإِنماء” (بالمرسوم 2356 – 10 كانون الأَول 1971) وباشر عمله مع فجر 1972، شاءَه مؤَسِسُه منبعًا أَوَّلَ للمناهج التعليمية الموحَّدة والبرامج التربوية الشاملة في دور المعلمين والمعلمات ومنها إِلى صفوف المدارس، عبْر كتاب مدرسي واحد لجميع قطاعات التربية المدرسية.

ويكون أَن الدكتور حداد غادر لبنان بعد نحو 4 سنوات من تأْسيسه “المركز”، ولم يتسنَّ له أَن يُكمل تلك الوَرشة المباركة التي ابتدأَ بها، فغار “المركز” غالبًا في فترات عُقم. وعند كتاب التاريخ اصطدم بحائل صارم حادّ قاطِع دون إِمكان العمل على تأْليف كتاب موحَّد لتاريخ لبنان. وعلمتُ بأَن لجانًا أُخرى (في موادَّ أُخرى) توقَّفت عن العمل للسبب الحائل ذاته، وأَدركتُ أَن الطائفية بين أَعضاء اللجان باقيةٌ دينُوصورًا رهيبًا دون التوصُّل إِلى قاعدة مشتركة لكتابة مشتركة في كتاب مشترك. فالبطل “هنا” خائن “هناك” أَو عميل، والمعترَف به “هنا” مرفوض “هناك”، والمصطلحات المنتقاة للـ”هُنا” غيرُ تلك المنتقاة للـ”هناك”. ويوجعُني أَن أَقصد بالــ”هنا” والــ”هناك” مناطق من لبنان الذي جميعُ مناطقه تبقى أَصغر من بلدية في الصين أَو البرازيل أَو أَيِّ دولة كبرى في العالم.

بقيتُ على هذه المعلومة حتى قرأْتُ أَخيرًا للدكتور مسعود ضاهر رأْيًا شاملًا مركَّزًا عالج فيه هذه المعضلة في دراسته “مأْزق التاريخ المدرسي في لبنان: كتاب موحَّد أَم منهج موحَّد؟” حبَّذا لو يتاح لي في مساحة هذه الــ”أَزرار” أَن أَغرف الكثير من نقاطها.

بين ما تطرَّق إِليه مسعود ضاهر أَنَّ الكتاب المدرسي في مادة التاريخ، إِبان الحرب في لبنان (1975-1990) “تَفَلَّتَ من الضوابط التربوية والوطنية مُهدِّدًا مستقبل أَجيال جديدة من اللبنانيين في نظرتهم إِلى التاريخ المشترَك وبناء الوطن الموحَّد”. وإِذ تنبَّه “اتفاق الطائف” إِلى ذلك، فرَضَ “إِعادةَ النظر في المناهج، وضرورةَ تطويرها بما يعزِّز الانتماء الوطني والانفتاح الروحي والثقافي، وتوحيدَ الكتاب في مادَّتَي التاريخ والتربية الوطنية”، فتشكَّلت فترتئذٍ لجان تربوية لتوحيد كتاب التاريخ والارتقاء بالانتماء الطائفي إِلى انتماء وطني شامل. وما إِن صدرَت سنة 2001 عن “المركز التربوي للبحوث والإِنماء” أَجزاء من ذلك الكتاب الموحَّد حتى اندلع سجال سياسي حادٌّ حول ما جاء فيها من مادة تاريخية، فأَوقف وزير التربية توزيعَه ومنَعَ تدريس مادة التاريخ في جميع المدارس اللبنانية. ولاحقًا تشكَّلت لجنة جديدة عملت في “المركز” 3 سنوات على وضع كتاب للتاريخ موحَّد، لكنَّ الكتاب لم يصدر بعدُ للأَسباب ذاتها، فيما المدارس، رسميَّتُها والخاصة، تعتمد سلاسلَ متفرقةً من كتُب التاريخ تتلاطمُ فيها فوضى المعلومات والمفردات والمصطلحات والتوجيهات والتوجُّهات والمواقف بين منطقة من لبنان وأُخرى (يا عيب الشُوم).

بعد تحليل ممتاز للعلَّة وسُبُل الشفاء منها، يَخْلُص مسعود ضاهر إِلى أَنَّ “فَرْضَ كتاب مدرسي موحَّد للتاريخ، قسْريًّا، يخالف الدستور اللبناني، يتناقض مع خطة النهوض التربوي، ولا يمكن إِرغامُ المعلِّمين على تدريسه وهُم غائصون في المواقف السياسية والطائفية”. المطلوب إِذًا: “سياسة توحيدية للدولة اللبنانية المركزية، يَضمنُ فيها النظامُ التعليميُّ تجديدَ النظام السياسي المأْزوم. ولا يمكن أَن تستمرَّ الدولة اللبنانية باعتماد سياسة توفيقية تلفيقية تحت ستار خادع من وطنية مشْبَعة بالطائفية والمذهبية”. وهنا: “على قوى التغيير الديمقراطي تطويرُ نضالهم السياسي والثقافي والتربوي لتنمية ولاء وطني جامع وكتابة تاريخ لبنان خارج القيد الطائفي”.

رئيس الجمهورية الآتي قريبًا: فَلْيُبَادِر، إِن كان فعلًا جديرًا بالإِنقاذ، متحرِّرًا ممن أَسقطوا اسمَه في صندوقة ساحة النجمة.

نشر هذا المقال بالتزامن مع “النهار”

هنري زغيب، كاتب وشاعر لبناني

شاعر وكاتب لبنانـيّ، له عدد كبير من المؤَلفات شِعرًا ونثرًا وسِيَرًا أَدبية وثقافية، وعدد آخر من المترجَـمات عن الفرنسية والإِنكليزية، وناشط ضالع في الحياة الثقافية اللبنانية والعربية منذ 1972. مؤَسس "مركز التراث اللبناني" لدى الجامعة اللبنانية الأَميركية، ورئيس تحرير مـجلة "مرايا التراث" الصادرة فيها. درّس في عدة جامعات في الولايات المتحدة منها جامعة جورج واشنطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى