إنخفاض سعر الصرف إنعكاس للسياسات التضخمية | كتب د. منير راشد
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
بلغ معدل التضخم خلال الفترة من منتصف 2019 لغاية منتصف 2022 ألف بالمائة (1000%) إذ ارتفع مؤشر الاسعار خلالها من 109 في نهاية حزيران 2019 الى 1286 في نهاية حزيران 2022. وحصل هذا الارتفاع نتيجة للسياسات المالية والنقدية الخاطئة، والتي نتج منها ضخ سيولة كبيرة في الاقتصاد.
لقد ارتفع مستوى النقد من 5.9 تريليون ليرة إلى 39.9 تريليون ليرة، اي 7 أضعاف خلال الفترة نفسها، نتيجة الدعم المالي والتوسع النقدي. وهذا هو العامل الأساس للتضخم الذي ادّى إلى انخفاض سعر العملة في السوق الموازي. اذاً، التضخّم المرتفع يؤدي إلى انهيار العملة.
انّ الشائعات التي تُبث بأنّ تحرير (وتوحيد) سعر الصرف وتطبيقه على جميع المعاملات النقدية والمالية والحقيقية، سيكون لها أثر تضخمي وما ترافقه من أضرار اقتصادية هي مضلّلة للمواطن. انّ السياسات الحالية والسابقة هي المصدر الرئيسي للتضخم، وليس انخفاض سعر الصرف، بل هو نتيجة لهذه السياسات.
في الواقع، انّ سعر الصرف الحرّ يُطبّق حاليًا على معظم السلع والمعاملات التجارية في الأسواق، وتحريره سيكون له أثر محدود. انّ سعر الصرف الحر هو من أهم أدوات الإصلاح الذاتية لإعادة التوازن إلى الاقتصاد، وهو مرآة للسياسات التي يتبعها البلد. فالسياسات الخاطئة تنعكس بانخفاضه. اما تثبيته فلا يحلّ الأزمة انما يؤجّلها. ولتفادي الاستمرار في انخفاض سعر العملة الوطنية، كما يجري الآن، يتوجب تحقيق توازن مالي بالدرجة الاولى، والتوقف عن ضخ النقد في السوق المحلي من خلال العمليات الشبه مالية لمصرف لبنان.
وتحاول السلطة والمصارف ان توهم المواطن انّ تحرير سعر الصرف لن يكون لمصلحته، بسبب الافتراض الزائف بأنّه سيؤدي إلى التضخم وسيقلّص قدرته الشرائية. إنّ أسعار الصرف المتعددة الحالية وضخ السيولة، هي التي أضرّت بالاقتصاد، وتبدو في المدى القصير وكأنّها تخدم مصالح المصارف. و لكن في النهاية ستقع الأضرار الفادحة على المصارف والدولة، وكذلك المواطن. فالمصارف ترى في السياسة الحالية وسيلة للتخلّص من الودائع، ولكن هذا بحدّ ذاته سيُقوّض القطاع المصرفي وسينتج منه المزيد من التراجع الاقتصادي.
انّ تحرير سعر الصرف مع التأكيد على حقوق المواطن الكاملة لمدخراته النقدية والمالية سيعيدان الثقة إلى القطاع المصرفي والعملة الوطنية والقيمة الفعلية للدولار المصرفي (لولار)، وسيوازي خلال فترة وجيزة الدولار النقدي، وسينهي الحافز للمواطن بسحب امواله من المصارف وإنفاقها فورًا، بل انّ العكس سيحدث، سيصبح المواطن أكثر اطمئنانًا على امواله بعد استعادة قيمتها. فيحق له الآن سحب ما يحتاجه من امواله لتلبية حاجته من السيولة. كما انّه سيصبح أيضًا ميالًا لاستعمال المعاملات المصرفية، فيستطيع استعمال الصكوك وبطاقات الائتمان بدلًا من العملة الورقية. إنّ فكرة انّ الودائع يجب ان تكون متوفرة للجميع في آن واحد هي خاطئة كليًا. فالمصارف في جميع أقطاب العالم تعمل على أساس توفير السيولة. انّ تقديم الحكومة العذر من عدم القدرة لتحصيل الودائع بالكامل يُخوّلها شطبها هو طرح جنوني، ويشير إلى عدم إدراكها لعمل الأسواق النقدية والمالية التي تستند إلى توفير السيولة.
تحرير سعر الصرف يجب ان يكون الخطوة الأولى لتحقيق التوازن واستعادة القيمة المالية والحقيقية. فيتوقف سداد الديون على أساس 1500 ليرة للدولار كما يحدث الآن، وتتوقف ممارسة اسعار صرف مبتكرة على أسس وهمية. انّ تحرير سعر الصرف يلغي ضرورة تطبيق هاجس صندوق النقد، الداعي إلى إلغاء الودائع. انّ تحرير سعر الصرف والاعتراف بكامل حقوق المواطن سينهيان الحافز لسحب الودائع من قِبل المواطن. من الضروري فقط تأمين السيولة الذي يحققه تحرير الليرة بحدّ ذاته. وقد يساهم مصرف لبنان بتوفير المزيد من السيولة بتقليص نسبة الاحتياطي الالزامي. فمن غير الضروري الاحتفاظ بهذا القدر من الاحتياطي (15%) مع تحرير العملة الوطنية.
ولكي يعود عمل الاسواق المالية إلى مجراه الطبيعي فلا بدّ من إعادة جدولة الودائع والقروض مع تحرير سعر الصرف، لتوخي الضغوط الاستثنائية التي قد يمرّ فيها القطاع المصرفي، مع إزالة القيود جمعاء على المعاملات المصرفية. أما محاولة وضع قانون لـ»الكابيتال كونترول»، فلن يكون له وقع ايجابي بل العكس. فتحرير السوق المالي بالكامل يعيد الثقة، وليس الإجراءات الاستنسابية. على الحكومة ان تكف عن إعطاء المؤشرات السلبية للاقتصاد. فجلّ ما تعرضه السلطة حاليًا هو مغاير لاكتساب الثقة. فتكرّر الحكومة وكذلك صندوق النقد، انّ الحل الوحيد هو بشطب الودائع وبتخويف المواطن إذا عارض هذا الخيار. انّ الاسلوب المتبع بعيد كل البعد من الشفافية المذكورة كأحد مبادئ خطة الحكومة، والتي يتغنى بها صندوق النقد، بل يغلب عليه التمويه. فتطرح الخطة انّ تحمّل الخسارة من قِبل الحكومة سيكون ضئيلًا جدًا دون ان تكون صريحة، وتعلن جليًا انّ معظم التكلفة المقدّرة بـ 73 مليار دولار ستقع على كاهل المواطن من خلال شطب ودائعه، ليعوّض عن شطب ودائع المصارف لدى مصرف لبنان، وإلغاء رأسمال المصارف. اما الأسوأ في تحليل الصندوق والحكومة، هو الارتباك في التمييز بين الالتزامات والخسارات. فقد اعتبر انّ معظم الالتزامات كالسندات وودائع المصارف لدى مصرف لبنان خسارات، وهذا خطأ لا يُغتفر له. كما انّ طرح الحماية الموحّدة هو وهم، في ظل الحل المطروح للحكومة وصندوق النقد.
يجب ان يرتكز الحل على توفير السيولة وليس شطب السيولة كما تنوي الحكومة والصندوق فعله.
واخيرًا، انّ الجهد الموجّه نحو حلول غير قابلة للتطبيق سيكون فقط اضاعة للوقت الثمين. فقد أضاعت الحكومات ثلاث سنوات من دون اتخاذ اي إصلاح، وبانتظار الضوء الاخضر من صندوق النقد، مما ادّى الى الانتقال من بوادر أزمة إلى أزمة حقيقية، بالاستمرار في اختراع حلول غير مجدية.