رسالة دكتوراة للباحثة ناهدة محمود حول تفكيك الهويات الطائفية في لبنان
نالت الباحثة ناهدة محمود شهادة دكتوراة في العلوم الاجتماعية من الجامعة اللبنانية، بتقدير جيد جداً. وتناول عنوان الأطروحة موضوع «تفكيك الهويات وإعادة بنائها حالة الطوائف في لبنان».
تًعالج هذه الأطروحة مسألة الهويات في ظل ما نشاهده اليوم من تفكك للهويات والمنظومات الثقافية والاجتماعية القديمة في العالم، وتأزم المنظومات القيمية والأخلاقية، والنزوع المتزايد نحو القيم المادية والاستهلاكية، والفراغ في منظومة الحداثة، بفعل العولمة التي عملت على تحريك الخصوصيات الثقافية، وإرساء اقتصاد عالمي جديد، مفككة للمنظومة القديمة منشئة على أنقاضها فاعلين جدد وسلوكيات جديدة.
تناقش الأطروحة إشكاليات سوسيولوجية الهوية والمقاربات المختلفة حولها في عصر العولمة. وحيث لم يعد بالإمكان دراسة تشكّل الهوية وحركتها وانبنائها من خلال مقاربة سكونية. بل إنّ الهوية الثقافية باعتبارها بنية عصية على التغيير، تشهد تفككاً ولم تعد ماهوية ثابتة. وتلك الهوية تتكون من عدة عناصر اللغة والجغرافيا التاريخ والدين. إلا أنّ العنصر الأخير وهو الدين ابتعد عن الثقافة بسبب تفككها وارتباطها بالعولمة، وما نشاهده اليوم هو تسييس الدين، أو ما يُسمى بالجهل المقدس. وكذلك لم تعد وحدات التحليل التقليدية (كالأسرة أو القبيلة أو الدولة أو الطبقة أو النخبة) مناسبة لتحليل وتفسير العلاقة، بين الثقافة والمجتمع، لآن الثقافة السائدة اليوم لم تعد تحتاج اليها، لا كمنتج لها ولا كمعبر عنها، لأنها ثقافة مرتبطة بمسارات العولمة.
والموضوع الرئيسي لهذه الأطروحة هو تأثير هذا التفكك على الهويات الطائفية في لبنان، وعدم تبلّور هوية وطنية جامعة حتى يومنا هذا. ولذلك عملت على عدة مسائل:
أولاً. دراسة التغيرات السوسيولوجية لنشأة الدولة اللبنانية، والمعطيات التاريخية، وإظهار الطبيعة الطائفية للدولة منذ نشأتها.
ثانياً. رصد الاختلافات الإيديولوجية (الكيانية، القومية، اليسارية والاسلامية)، حول مسألة الهوية من خلال المسار التاريخي، ورصد برامج بعض الأحزاب الطائفية التي تبنّت تلك الإيديولوجيات، وإظهار التنوع الفكري والايديولوجي والديني في المجتمع اللبناني المتعدد الطوائف والمذاهب.
ثالثاً . البحث عن تفكيك الهويات في الوقت الراهن من خلال دراسة خطاب القوى السياسية، المضمر والمعلن. وإظهار آلية تحالفها وانقساماتها، وإعادة إنتاجها شرعيتها تجاه جمهورها. وتتمثل المرحلة الزمنية لدراسة الخطاب السياسي للأحزاب السياسية بين عامي 2016- 2018 تحديدًا بعد انتخاب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، بسبب تعقيد المشهد السياسي، حيث عرفت تلك المرحلة تجاذبات حادة. بحيث ينبثق مفهوم الهوية والرؤى حول الدستور والميثاق والعقد الاجتماعي والدولة والنظام السياسي في نظر الفئة السياسية المعنية على نحو مميّز، وبالنسبة إلى مسائل أخرى يتناولها الخطاب نفسه. وقد أتت عينة الخطاب السياسي للأحزاب السياسية المختارة (حزب الله، حركة أمل، تيار المستقبل، حزب التقدمي الاشتراكي، تيار الوطني الحر، حزب القوات اللبنانية، الكتائب اللبنانية وتيار المردة).
رابعاً. دراسة تمثلات الهويات الوطنية لدى الطلاب الجامعي، وهم من الفاعلين الجدد، وباستطلاع آرائهم وتصوراتهم يمكن «قياس درجة المواطنية»، التي تشكِّل صمام أمان بين اللبنانيين. حيث تناولت الأطروحة تحليل خطاب الطلاب الجامعيين من طوائف مختلفة (سنّة، شيعة، مسيحية ودروز)، باستخدام تقنية المجموعات البؤرية focus group. ولقد تمّ اختيار عينات مجموعات التركيز من طلاب جامعيين تتراوح أعمارهم بين 18-23 سنة.
وأهم الاستنتاجات التي توصلت إليها هي أنّ تكوين الهوية الوطنية المرجوَّة لا يتوقَّف على إمكانية تطوير النظام السياسي وحسب، بل على التحوّل في الفكر الديني السياسيّ. وإنّ المشكلة تقع في الأحكام المسبقة، وعمليات التمييز السلبي بين المجموعات الطائفية. وإنّ حالة النزاعات السياسية في المنطقة كان لها تأثير على تعميق الهويات الطائفية في لبنان، وتزايد الخوف من تجريد الجماعات الطائفية، والأقليات الطائفية من حقوقها التي اكتسبتها في الدستور والأعراف. بل تذهب هذه الأطروحة إلى استنتاج هو أنّ العولمة ساهمت في تعميق الهويات الطائفية، وتجذُّر الانتماءات الأولية للفرد. وبالنسبة للطلاب الجامعيين فإنّ الهويات الأولية لا تزال مهيمنة على خياراتهم السياسية، رغم الوعي المدني لدى هؤلاء الطلاب، والتغيير الهوياتي شديد البطء، ولا يدّل على تغيير شامل في البنية الثقافة، بل أصبحت انتمائاتهم «رخوة» في غياب مبادئ ثابتة وواضحة، وانفتاح وتكريس «ثقافة اللامعنى»، أو ما يسمى بصراع الهويات وتعدد الانتماءات لدى الأفراد.
وعلى الرغم من ذلك أصبح بالإمكان البحث عن عقد اجتماعي جديد في لبنان لا يراعي الفروقات والخصوصيات الثقافية للطوائف، ويدحض قاعدة استحالة انفصال الهوية السياسية عن الهوية الطائفية في مجتمعاتنا. إلا أنّ المجتمعات تتغير ببطء شديد، وكذلك البنى الذهنية، انطلاقاً من أنّ الحداثة هي نتاج ثورة ثقافية ذهنية. واذا ما سلمنا جدلاً بوجود تفكك للمنظومة في لبنان، وفي قواعد عمل المنظومة وعناصرها وقواعد الحياة العامة. إلا أن حالة التفكك تدخل في وضعية من الانتظار كي يُعاد تشكيلها في منظومة جديدة. وترسيخ وضعية الانتظار جدلية الاختلال او الاستقرار أو جدلية النزاعات وإرساء التوازنات الجديدة. وحتى حصول هذا التغيير وإرساء موازين جديدة لا تجد الباحثة ضرورة للبحث عن صيغة جديدة في الوقت الحالي بدل اتفاق الطائف، بل من المهم تطويره لجهة تعديل ثغراته على سبيل المثال تطبيق اللامركزية الإدارية، وتحديد المهل الدستورية. وبالأخص أنّ الدولة اللبنانية في تعريفها السوسيولوجي دولة مدنية ذات طابع طائفي، فالدستور أعطى الحرية للطوائف في المادة 9و 10، فهو عقد اجتماعي يراعي الفروقات والخصوصيات الثقافية للطوائف. ولا يمكن تطبيق بنوده تحديداً المادة 95 بالغاء الطائفية السياسية ومراعاة إلا بعد الغاء الطائفية المجتمعية.