رُقعٌ على ثيابٍ بالية: هذا ما اوصَلَ لبنان الى هنا
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
لا تندر في هذه الأيام النقاشات والتحليلات التي تُقَيم وتَزِن وتُقَلِب أوجه الأزمة، أو بتعبير أكثر واقعية الكارثة اللبنانية. ولعل ما ينطبق من كل هذه المادة في الحقيقة هو مقولة “تعددت الأسباب والموت واحد”. لكن قبل أن تغرق السفينة ويختفي ظلها في أعماقٍ لم تُسبَر أغوارها بعد، لربما يجدربنا أن نتفوه بالحقيقة لمرةٍ أخيرة حتى لا يجدنا التاريخ فيما بعد ويهتك بنا لأننا لم نقل هذه الحقيقة اللعينة.
الإستدانة غير المحسوبة من قبل الدولة، عدم حل مشكلة الكهرباء، الهدر من خلال صناديق علي بابا، غياب الموازنة لعقد ونصف من الزمن، غياب خطة إقتصادية شاملة، طمع المصارف والتجار، الطموح السياسي، التناحر المذهبي والطائفي، ذهنية المحاصصة، غياب حس المواطنة، التبعية للخارج، التأثر بالتجاذبات الإقليمية والعالمية، عدم وجود جدية في التعامل مع الفساد، ولا ننسى الغائب الحاضر دائماً السيدة “نظرية المؤامرة على الشعوب الفقيرة والمستضعفة”، جميعها من الأسباب التي تنطق بها الألسن من سياسيي، وإقتصاديي، ومصرفيي، وإعلاميي، وخبراء، وناشطي، وتجار، و”دكانجيي”، و “خضرجيي” هذا البلد. وللوهلة الأولى لا تتوانى هذه القراءة حول أسباب الكارثة عن إقناعك إلى حد كبير بأنها الأسباب الحقيقية لما حل بهذا البلد الجميل بأرضه، وربما بعد اليوم… فقط بأرضه!
فنَعَم، إنَ كافة الأسباب المذكورة أعلاه لا بد أنها ساهمت من قريب أو من بعيد على نشوء ولاحقاً تطور هذا المرض السرطاني الذي فتك بلبنان. ولكن تماماً كما يحصل في مقاربة عملية علاج هذا المرض الخبيث لدى البشر، هكذا هو الأمر بالنسبة إلى مرض لبنان. فإن العلماء تمكنوا من تحديد مجموعة كبيرة من المشتبه بهم كأسباب لمرض السرطان مثل التدخين، والكحول، ونمط الحياة، والمأكولات المعدلة جينياً، والتلوث، والضغط النفسي وغيرها، لكنهم لم يستطيعوا أن يجزموا أو يحددوا المسبب الحقيقي لهذا المرض حتى الآن. والأمر ذاته ينطبق على لبنان. فإننا جميعاً تمكنا من تحديد مجموعة كبيرة من المشتبه بهم أعلاه، لكننا لم نقل الحقيقة بعد حول ما هو السبب الرئيسي لكارثة بَلَدِنا. وتماماً كذاك المرض القاتل، لن نتمكن من إيجاد العلاج، إلا إذا وجدنا السبب. فما هو هذا السبب؟
إن حصول مشكلة في أي كيان لا يمكن أن ينتج إلا عن سببين رئيسيين، مكملين أحدهما للآخر. السبب الأول يتعلق بالإرادة والسبب الثاني يتعلق بالقدرة أو الكفاءة. وبمعنى آخر، لا يمكن النجاح بأي عمل إلا إذا توفرت لدى من يقوم به – بغض النظر إذا كان فرداً أو كياناً – الإرادة للعمل والكفاءة للتنفيذ، وإن أي غياب أو ختلال في هذه المعادلة سيحتم الوقوع في مشاكل جمة. فإذا وُجِدَت الإرادة ولم توجد الكفاءة، فإن العمل سيُنَفَذ بطريقة خاطئة. أما إذا غابت الإرادة وتوفرت الكفاءة، فلن يقوم أحد بالتنفيذ، وفي حال غابت الإرادة والكفاءة معاً، فإنه يمكننا أن نستودع الله هذا الكيان.
وعلى سيرة الطب والأمراض، لنأخذ مثلاً عليها. فإذا كان الطبيب كفوء ولدى المريض الإرادة في اتباع تعليمات الطبيب، فإن هذا المريض سيشفى. أما إذا كان لطبيب غير كفوء أو المريض ليست لديه الإرادة (أو العكس!)، فإن الشفاء لن يحصل حتماً، بسبب اختلال معادلة الإرادة والكفاءة. وهكذا هو الحال في لبنان. فإن السبب الحقيقي لكل ما حصل تَجَسَدَ بشِبه الأسباب التي سردناها أعلاه، ولكن الواقع بالفعل هو غياب الإرادة والكفاءة. فإذا تريثنا بالحُكُم، ودققنا بالنظر، وتعمقنا في التقييم، سنجد أن سبب الكارثة في لبنان هو غياب الإرادة و/أو الكفاءة لدى السواد الأعظم ممن هم في موقع المسؤولية. ولا أعني هنا المسؤولية المحصورة بالسلطات الثلاثة فقط، وإنما المسؤولية الوطنية لهؤلاء وغيرهم ممن هم في موقع التأثير المباشر وغير المباشر على الوطن بشقه السياسي، والاقتصادي، والمالي، والاجتماعي، والإعلامي. فالوطن ليس حكراً على السياسيين وعلى الإدارة العامة كما أُوهِمنا أن نراه في لبنان، وإنما هو من مسؤولية كل مواطن، خاصة من هم في مراكز القرار داخل مجتمعاتهم والكيانات التي يعملون فيها ومعها.
وهكذا فإن سبب السرطان في لبنان هو غياب إرادة و/أو كفاءة الفئة الأكبر من السياسيين، والوزراء، وموظفي الإدارة العامة، والإقتصاديين، والمصرفيين، والجمعيات النقابية، وجميع من له طول الباع في اتخاذ القرار أو التأثير به. وأضع خطين تحت جملة “و/أو” وجملة “الفئة الأكبر” لأنني أقول هذا بكل مسؤولية وبعيداً عن التعميم. فهذا الوطن أيضاً لم يكن ليبقى صامداً إلا بسبب مجموعة حاضرة من الأخيار أصحاب الإرادة والكفاءة في السياسة، والمال، والاقتصاد، والادارة العامة والاجتماع، وغيرها من القطاعات، وكل من الفئتين يعرف نفسه، اللهم إذا كان لدى الفئة الضالة من وعي ذاتي! فهل من عاقل يُصدق أنه بعد ثلاثة عقود من انتهاء الحرب، مازالت الكهرباء “مقطوعة”؟ وهل من عاقل يُصدق أن 80 ملياراً من الدولارات الأميركية، لم تكن كافية لبنية تحتية وفوقية وشمالية وجنوبية وبقاعية وبيروتية في بلدٍ مساحته 10,452كلم2 فقط؟ وهل من عاقل يُصدق أن من لم يعتمدوا موازنة للدولة منذ العام 2005 وتركوا البلد يسير في هاوية الصرف غير المحسوب والهدر الأقرب إلى العهر هم ليسوا شركاء ومتواطئون مع بعضهم البعض؟ وهل من عاقل يُصدق أن كل هذا الضجيج حول الفساد والهدر والأموال المنهوبة على فترة 30 عاماً ولم نتمكن من القبض ولو على صعلوك واحد ممن سرقوا مقومات البلد؟ وهل من عاقل يُصدق أن المصارف التي كانت تتغنى بإدارتها لمليارات الدولارات من الأصول والأرباح في تقاريرها السنوية لم ترى أن هذه الكارثة قادمة ولم تفعل شيئاً حيالها؟ لا بل أسواء من ذلك، فإنها حَملَت تبعات فشلها لمودعيها؟ “عن جد”، هل من عاقل يصدق أن كل هؤلاء ممن يتبجحون بأنهم من جهابذة السياسة والاقتصاد والمال والادارة العامة والاجتماع – وهم بالمئات في مراكز القرار داخل الدولة وخارجها – لم يقدروا أن يحلو مشاكل هذا البلد على مدى ثلاثة عقود؟ إذا كان هذا الأمر صحيحاً، فإنه إما ليس لدى هؤلاء الإرادة للإصلاح، أو أنه ليس لديهم الكفاءة للإصلاح، أو الإثنين معاً؛ أو أنهم يفعلونها عن سابق تصور وتصميم، وفي هذا جرم يعاقب عليه القانون، إذا سُمِحَ له بذلك!
وبالحقيقة، فإنه هذا هو ما دفع بجزء كبير من المواطنين إلى الإنتفاض والتظاهر ليس فقط للتعبير عن الغضب حول ما أوصلنا إليه هؤلاء أصحاب اللا إرادة واللا كفاءة، وإنما لسبب أعمق من هذا ألا وهو الشعور المتعاظم بأننا شعبٌ مُستَغبى. الحقيقة موجعة جداً. فالشعب اللبناني كله يعلم أنه مستغبى، منذ عقود وربما منذ قرون، ولكن القسم الأكبر من هذا الشعب – ومنهم من يقف في التظاهرات اليوم – قد قبض ثمن قبوله بالاستغباء مقابل الولاء المطلق للزعيم والطائفة وبحجة أن الوطن لايحميك، وأَمَلَكَ الوحيد في بلد الأقليات هو الزعيم والطائفة.
السبب الحقيقي للأزمة أيها الأصدقاء هو عدم وجود لا الإرادة ولا الكفاءة لدى من يجب أن تكون له هاتين الصفتين، وفاقد الشيء لا يعطيه. فكيف يمكن أن تتوقع من سياسي، أو وزير، أو إقتصادي، أو مصرفي، أو موظف في الإدارة العامة أن يتكلم اللغة الصينية وهو لا يعرفها، وليس له الإرادة أن يتعلمها أصلاً؛ والأسواء هو أنه حتى إذا كان يعرفها، فإنه يأبى أن ينطق بها. وما يزيد على الجرح مذلة، هو أن هذه الطامَة من اللا إرادة واللا كفاءة تترافق مع إنحلال مخيف في الأخلاق لدى مسببي الكارثة ومن لَفَ لَفَهُم، حتى أَصبَحتَ تستعيذُ بالله عز وجل لينقذنا من براثن هؤلاء الجهلة الذين ابتُلينا بهم.
الحل هو بتوفر الإرادة والكفاءة والأخلاق لدى الفريق المسؤول داخل الدولة من سياسيين ووزراء، وفي الإدارة العامة، وفي الاقتصاد، ولدى المصرفيين، والجمعيات، وكل ما دون هذا من حلول، لا تتعدى كونها رُقع على ثيابٍ بالية.
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
اقرأ ايضاً للكاتب
http://box5852.temp.domains/~iepcalmy/strategicfile/علم-اجتماع/المال-وعودة-سوبرمان-لعبتنا-المفضلة/