ازمة لبنانالاحدث

لبنان بين ذاكرة الحرب وواقع الانهيار: خمسون عامًا من الأسئلة المؤجلة  

في الثالث عشر من نيسان/أبريل 2025، يمر خمسون عامًا على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975–1990)، التي شكلت محطة مفصلية في تاريخ لبنان الحديث. تُحيي هذه الذكرى أسئلة مُلحة حول الذاكرة الجماعية، وتداعيات الحرب التي لا تزال تلقي بظلالها على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي . رغم مرور ثلاثة عقود على توقيع “اتفاق الطائف” (1989)، الذي أنهى الحرب رسميًا، إلا أن لبنان يعاني من نظام سياسي هشّ، واقتصاد منهار، وانقسامات طائفية عميقة . تُعيد هذه الذكرى طرح السؤال: هل تعلّم لبنان من دروس الحرب؟

لماذا لا تزال الحرب حاضرة؟
لا تزال الحرب حاضرة في الوعي اللبناني بسبب استمرار النظام الطائفي الذي أنتج أزمات متجددة، وغياب العدالة الانتقالية، وتشابك الأزمات الاقتصادية مع الإرث الحربي. ففي ذكرى الحرب عام 2023، كرر نشطاء عبارة “لما تنعاد” (كي لا تُعاد)، في إشارة إلى مخاطر تكرار الانفجار الاجتماعي . كما أن الأزمة المالية التي بدأت عام 2019 كشفت هشاشة النظام الاقتصادي القائم على الزبائنية والريع، مما عزز الشعور بأن الحرب لم تنتهِ سياسيًا .

بين الذاكرة والنسيان: سؤال الذكرى بعد خمسين عامًا

تحفل الذكرى الخمسين بفعاليات ثقافية وأكاديمية تُسائل الذاكرة الرسمية للحرب. ففي نيسان 2025، دعت وزارة الثقافة اللبنانية إلى نشاط في المكتبة الوطنية لمناقشة شهادات معاصري الحرب ومحلليها . كما أطلقت الجامعة الأمريكية في بيروت سلسلة فعاليات تحت عنوان “خمسون عامًا من التناسي”، تُركّز على إعادة قراءة التاريخ بعيدًا عن السرديات الطائفية . لكن هذه المحاولات تواجه تحديات، إذ يُتهم النظام السياسي بـ”التناسي” الممنهج لمعاناة الضحايا والمفقودين .

أولا: جذور الحرب وسياقها
يرتبط اندلاع الحرب بجذور طائفية عميقة، حيث تشكل النظام اللبناني الحديث على أساس “العيش المشترك” الهشّ منذ عهد المتصرفية العثمانية، وتعززت الانقسامات خلال الانتداب الفرنسي عبر سياسة “فرق تسد” . في العقود السابقة للحرب، شهد لبنان نموًا اقتصاديًا غير مسبوق في الستينيات، لكنه تركز في بيروت، بينما عانت المناطق الريفية من التهميش، مما وسع الهوة الطبقية والطائفية . على الصعيد الإقليمي، تحول لبنان إلى ساحة صراع بين حول ااقضية الفلسطينية والوجود المسلح، مع تدخلات سورية واقليمية ودولية، مما حوّل الحرب إلى “صراع بالوكالة” . تُعتبر أحداث “بوسطة عين الرمانة” (1975) الشرارة الرسمية للحرب، لكن الذاكرة الجماعية تختزلها في لحظات عنف رمزية، مثل تهجير الأحياء وقصف المدنيين .

ثانيا: الحرب في تفاصيلها
قسّمت الحرب لبنان إلى كانتونات طائفية، حيث سيطرت المليشيات على مناطق نفوذها، وأعادت تشكيل الهوية اللبنانية على أسس طائفية. ففي بيروت، انقسمت المدينة إلى “شرقية” تحت سيطرة اليمين المسيحي و”غربية” خاضعة للقوى اليسارية والاسلامية والفلسطينية . أدت الحرب إلى انهيار الليرة اللبنانية، وظهور اقتصاد حرب يعتمد على التهريب والدعم الخارجي، مما مهد للفساد المالي في مرحلة ما بعد الطائف . تسببت الحرب بتهجير مئات الآلاف، ومقتل أكثر من 150 ألف شخص، وما زال مصير آلاف المفقودين مجهولًا، مما يُعتبر جرحًا نازفًا في الذاكرة الوطنية . على الصعيد الثقافي، عكست الروايات والأفلام اللبنانية، تجربة العنف والانقسام .

ثالثا: ما بعد الطائف – السلام الهش
حوّل “اتفاق الطائف” لبنان إلى “جمهورية طائفية” عبر تقاسم السلطة بين الرئاسات، لكنه فشل في بناء دولة مدنية، مما حوّل السلام إلى “هدنة” غير مستقرة . مشروع “سوليدير” لإعادة إعمار وسط بيروت كان جزءا رئيسياً من رؤيا الاعمار التي مثلت رمزًا للإعمار النيوليبرالي، حيث استبعد الطبقات الفقيرة، وعزز الفساد عبر تحالف السلطة والمال . اقتصرت المصالحات على توزيع الحقائب الوزارية، دون محاكمة المسؤولين عن الجرائم، مما أدى إلى “مصالحة من فوق” لا تلامس الضحايا . فرضت الوصاية السورية (1990–2005) هيمنة أمنية، وحوّلت لبنان إلى دولة تابعة ومنقسمة، مما عمق الأزمة الهوية .

رابعا: حضور الحرب بعد 35 عامًا
تُهمش المناهج التعليمية تاريخ الحرب، بينما تلعب الروايات والأفلام دورًا في تذكير الأجيال الجديدة بآثارها، مثل شهادات دلال البزري في كتاب “دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية” . يُعيد النظام السياسي إنتاج الانقسامات عبر خطاب طائفي، مما يُفشل أي محاولة لإصلاح دستوري . بلغ الدين العام اللبناني 100 مليار دولار عام 2025، بسبب الفساد واقتصاد الريع، مما جعل الأزمة الحالية امتدادًا لانهيار ما بعد الحرب . يرى الشباب أن الحرب ليست تاريخًا بل واقعًا معيشًا، عبر أزمات البطالة والهجرة، ويُطالبون بدولة مدنية كما في انتفاضة 17 تشرين 2019 . لا تزال عائلات الضحايا تطالب بكشف مصير المفقودين، بينما تُعرقل السلطة إقرار قانون عدالة انتقالية .

خامسا: المستقبل ومقاربات جديدة
يمكن الاستفادة من نماذج مثل جنوب أفريقيا (لجنة الحقيقة والمصالحة) أو رواندا (محاكم الجاكا) لبناء سلام مستدام . أعادت انتفاضة 2019 طرح شعارات “كلن يعني كلن” و”دولة مدنية”، لكن غياب البديل السياسي حال دون تحقيق أهدافها . يتطلب الخروج من دوامة العنف تفكيك النظام الطائفي، وبناء مؤسسات دولة عادلة، واعتماد مقاربات اقتصادية تركز على النمو المستدام .

الخاتمة
خمسون عامًا على الحرب، لا يزال لبنان يقف على حافة الهاوية: فشل النظام السياسي، وانهيار الاقتصاد، واستمرار الانقسامات الطائفية، تجعل السؤال عن المستقبل مفتوحًا بين سلام ناقص أو دورة عنف جديدة. إن بناء لبنان جديد يتطلب مواجهة الحقيقة، وتحقيق العدالة، وإعادة تعريف الهوية الوطنية بعيدًا عن منطق الحرب .

المراجع

الحركات الطائفية في العام العربي دراسة حالة لبنان. مكي وبايزيد
دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية – المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
الطائفية في لبنان: التفكير مع بورديو لنقد ماركس (2021).
الطائفية السياسية وأثرها علی الاستقرار السياسي (دراسة حالة لبنان). م. خالد
دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية‎: دلال البزري

مركز السياسات والاستشراف المعرفي (مسام)

مركز السياسات والاستشراف المعرفي (مسام) هو وحدة بحثية تابعة لموقع "الملف الاستراتيجي"، تُعنى برصد وتحليل السياسات العامة، وتحولات الشركات الكبرى، والديناميات الجيوسياسية التي تسهم في إعادة تشكيل العلاقات الدولية والبُنى المؤسسية والاجتماعية على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية. ينطلق المركز من منظور استشرافي علمي يهدف إلى تجاوز التحليلات الظرفية، من خلال تتبّع الأنماط الكبرى في السياسات والتحولات المعرفية، وفهم التفاعلات المعقدة بين الدول، والشركات العابرة للحدود، والمجتمع المدني، والمنصات الرقمية. يركز المركز بشكل خاص على دراسة السياسات الوطنية في دول الشرق الأوسط، وتحليل استراتيجياتها في مجالات الحوكمة، وإعادة التموضع الإقليمي، والتفاعل مع التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية العالمية. كما يعالج المركز القضايا المتصلة بمستقبل السيادة الرقمية والمعرفة، ودور الفاعلين غير التقليديين في التأثير على صنع القرار وتشكيل الفضاء العام. يعتمد المركز في إنتاجه المعرفي على مقاربة تحليلية حيادية تلتزم بالصرامة المنهجية والموضوعية، بعيدًا عن التحيزات السياسية أو الإيديولوجية، ويسعى إلى تقديم فهم مركب ومسؤول للتحولات الراهنة، بما يخدم الباحثين وصنّاع السياسات والمشتغلين في حقل التفكير الاستراتيجي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى