للفساد تاريخ طويل في لبنان وهو لم يبدأ مع اتفاق الطائف وتعديل النظام السياسي في لبنان بل بدأ مع الأنتداب الفرنسي والذي وضع يده على كل مقدرات وموارد لبنان ورمى الفتات منه للطبقة السياسية التي ساعدته على حكم لبنان في مرحلة الانتداب وسهلت له وضع اليد على هذه الموارد .
منذ 1926 زمن الانتداب الفرنسي طرحت مسألة الفساد في لبنان ، وحينها وضعت فرنسا يدها على المرفأ والمطار وسكة الحديد وحتى بعض معامل الكهرباء ، كما وضعت يدها على قصور وأراضي شاسعة منها قصر منصور ومبنى السفارة الفرنسية الحالية .
وبعد دستور 1943 في عهد بشارة الخوري ورياض الصلح سيطرت المصالح العائلية والطائفية بالتعاون مع السفارة الفرنسية ، والفساد اصبح في تزايد وعلى أثرها قدم الرئيس استقالته اثر الثورة البيضاء التي لم تؤد الى اصلاح جدي .
عام 1952 اتهم حكم كميل شمعون بالفساد السياسي والاقتصادي وقامت ثورة 1958 الى ان جاء فؤاد شهاب وحاول اصلاح الادارة واعتبرت هذه الفترة فترة بناء الدولة الحديثة لكن ما لبثت القوى الطائفية ان انقلبت على الحكم بالتعاون مع السفارة الاميركية واعتبرته حكم الاستخبارات وغير ممثل لها .
وفي فترة السبعينات مع حكم سليمان فرنجية قبل الحرب الاهلية قامت تظاهرات ضد الطائفية والمحسوبيات وضرورة الاصلاح عطلتها الحرب الاهلية التي انتهت بعد خمس عشرة عاما باتفاق الطائف وسيادة الانقسام والحروب الداخلية والخارجية والفساد السياسي والاقتصادي لا سيما مع اعتماد النيوليبرالية المتوحشة وسيطرة امراء الحرب على مجمل أركان الاقتصاد ، في هذه المرحلة والتي كانت المرحلة الاصعب أنقسمت الى قسمين القسم الاول هي الفترة الممتدة من البدء بتنفيذ اتفاق الطائف حتى استشهاد الرئيس رفيق الحريري ، والقسم الاخر هو الممتد من تاريخ الانفجار الكبير حتى تاريخ اليوم ، وكما جرت العادة في تاريخ الفساد اللبناني تم الاعتراض وقامت التظاهرات ضد الفساد المستشري .
الفساد ليس ظاهرة لبنانية فقط وأن كان يختلف حجمها نسبيًا من دولة الى أخرى لكن هو ظاهرة ترافقت مع استعمار وانتداب دول الشمال لدول الجنوب والسيطرة على مواردها وقرارها السياسي ، ومن مظاهر هذه الهيمنة :
– الهيمنة السياسية والتي نجدها ظاهرة بشكل واضح في معظم هذه الدول من خلال تدخل السفارات في رسم سياسة هذه الدول وأجبارها على ذلك .
– الهيمنة المالية من خلال السيطرة على مصادر تمويل هذه الدول وفرض شروط المؤسسات الدولية التي تقوم بأقراضها مما يجعلها تحت رحمة خدمة الدين العام ؟
– الهيمنة الاقتصادية من خلال الشركات المتعددة الجنسيات التي تضع يدها على موارد هذه الدول وخاصة مصادر المواد الخام التي يتم تصديرها لهذه الدول وأعادة بيعها لنا بأسعار مضاعفة .
أما اسباب هذه الهيمنة فعديدة تبدأ :
– باستعمار هذه الدول القوية للدول الفقيرة وبالتالي وضع اليد على أهم مراكزها الاقتصادية كما حصل مع لبنان .
– تراكم الرساميل والاموال داخل الدول الغنية الغربية نتيجة لسرقة موارد الدول الفقيرة مما يفرض عليها أعادة استعمال هذه الرساميل .
– أقراض الدول الفقيرة بفوائد مرتفعة مما جعلها رهينة هذه الدول ومنع عنها التنمية والاستثمار .
– محاولة الاستفادة من الاسواق الكبيرة الموجودة لدى هذه الدول الفقيرة لتصريف انتاجهم الصناعي الضخم .
بالعودة الى لبنان ، إنّ تفشّي الفساد في لبنان يعود إلى فقدان الثقة في النظام اللبناني وإلى عدم التمكّن من بسط سلطة القانون بفعل ضعف الدولة وعدم القدرة على اتخاذ القرار من الناحية السياسية ولا من الناحية المادية لتفعيل وتقوية القدرة العسكرية للاجهزة العسكرية بفعل الفيتو الغربي وبفعل ضعف أمكانات الدولة .
وإنّ تقاسم السلطات يروّج لفاعلية النخب السياسية الطائفية التي تعمل بحسب أجندة مصالحها الخاصة . كما أنّ تفشي ظاهرة الفساد أدّى إلى إضعاف الاستثمارات الأجنبية ، خصوصاً أنه لا توجد أيّة سياسات اقتصادية تعتمدها الحكومات لتخفيض الضرائب وتشجيع الاستثمارات .
ولا ننسى السياسات المتبعة في إعطاء العقود للشركات التي تدفع الرشى وليس للتي تقدّم العروض الأفضل . إنّ هذه الأسباب التي وردت آنفاً كانت الحافز لهجرة الأدمغة ، لأنّ العمالة ليست مبنيّة على أساس الكفاءة ، وإنما بحسب مفهوم المحاباة والزبائنية . ووفقاً لمؤشر مدركات الفساد الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية العام 2016 المعنية بمكافحة الفساد ، يأتي لبنان في المرتبة 136 على قائمة 175 دولة ، وفي المرتبة 13 من أصل 19 دولة في المنطقة العربية ، مما يدلّ على قوة الفساد فيه.
بالعودة الى مسألة عدم وجود مؤسسات مراقبة ومحاسبة فاعلة فما هي الاسباب الحقيقية لعدم وجود هذه المؤسسات وفي حال وجودها فمن يعطلها ويجعلها دون فاعلية ؟
على مستوى القضاء :
لن أدخل في تفاصيله لانه أصبح معلوم كيف يتم تشكيله وتعيينه وبالتالي كيف ينعكس ذلك على الممارسة العملية له والجميع متفق بأنه من دون منح الاستقلالية له لن يستطيع القيام بما هو موكل له دون تأثير الواقع السياسي عليه.
على مستوى مؤسسات الرقابة :
– تم تعطيل مجلس الخدمة المدنية من خلال تعطيل هذه المؤسسة وتعطيل قراراتها وحفظها في الجوارير وتوقيف التعيينات بحجة التوازن الطائفي والنظام الطائفي الذي لا زالت تحميه هذه السفارات .
– تم تعطيل ديوان المحاسبة بعدم العمل بالتقارير التي تصدر عنه لأنه ينال من شخصيات ملتزمة مع السفارات .
– تم تعطيل التفتيش المركزي بوضع خطوط حمر على الموظفين هم مقربين من السفارات .
– تم تعطيل الرقابة على مصرف لبنان من خلال وضع خط أحمر على ملاحقة الحاكم والموظفون فيه من قبل السفارات.
على مستوى الاستثمار :
– تم تعطيل عملية الاستثمار في لبنان من خلال منع دول كبرى الاستثمار في لبنان وعرقلة أطراف داخلية متحالفين معها لهذا الاستثمار ، ومثالها طلب الصين الاستثمار في المرافئ وسكك الحديد ، وطلب روسيا الاستثمار في مصافي النفط .
– تم تعطيل التنقيب عن النفط والغاز من خلال منع الشركات من أكمال عقودها وتهديدها بوضعها على لائحة العقوبات في حال اكمالها لعملية التنقيب .
– تم منع عودة النازحين السوريين بما يشكلون من ضغط كبير على الاقتصاد اللبناني والذي تتجاوز قيمته سنويا” حوالي ملياري دولار أميريكي .
– تم فرض عقوبات على القطاع المصرفي كانت نقطة بداية في الانهيار المصرفي في لبنان .
– تم منع القطاع المصرفي من قبول ودائع السوريين في لبنان مع العلم ان الامارات ومصر والاردن وتركيا وهم حلفاء لاميريكا فتحت ابوابها لهذه الودائع مما فوت على هذا القطاع عشرات مليارات الدولارات من الودائع وادى الى عجز في ميزان المدفوعات تراكم حتى وصلنا الى نقطة الانهيار .
– فرض عقوبات على سوريا من خلال قانون قيصر والذي أدى لعقوبات مؤذية للاقتصاد اللبناني وخاصة على صادرات لبنان عبر المعابر البرية والتي تصل قيمتها الى حوالي ملياري دولار أميريكي سنويا” .
كل هذه الممنوعات جرت بالتواطؤ بين أحزاب لبنانية فاسدة وسفارات تحالفت معها والهدف الوحيد لها كان أسقاط لبنان حتى يسهل اخضاعه وبالتالي سقوط كل المنطقة أمام التطبيع التي بدات تمارسه دول عربية كثيرة.