إقتصادالاحدث

إلتقي الماما: ولائم من تحضير النساء المهاجرات في باريس | كتبت د. بولا الخوري

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

سواء في الأمسيات أو في الكوكتيلات التي تنظمها في باريس وضواحيها شركات كبرى مثل فيسبوك وغوغل ولوريال ونايك ولوي فيتون، أو في المطاعم الخاصة بالبنوك الكبرى، تقدم شركة Meet My Mama (إلتقي الماما) ولائم فاخرة تعدّها نساء مهاجرات ولاجئات من جميع أنحاء العالم، مما يؤمن لهن عملاً ودخلاً ومصدر إعتزاز بمهاراتهن.

على رأس هذه المبادرة الاجتماعية والتضامنية دنيا سعاد عمامرة، لبنى قصيبي ويوسف عثمان، الأصدقاء الثلاثة الذين أسسوا هذا المنشأة الرائدة، وهم أنفسهم أبناء من الجيل الثاني أو الثالث من المهاجرين. إلتقوا بعد تخرجهم على صفحات فايسبوك واكتشفوا أنهم يشتركون في مشروع واحد، ويتشاركون شغفًا مشتركًا للطعام أرادوا التعريف به لعشاق النكهات المميزة في فرنسا.

والمشروع هو الأول من نوعه كمنصة لتقديم أفضل الأطباق المحلية كما تحضّر في بلدانها الأصلية، وتقوم النساء اللواتي تطلق عليهن تسمية “ماماز” بتحضير هذه الأطباق في منازلهن أو في مطاعم الشركات أو في المطبخ الخاص بالمنصة ويسمى المحترف.

وما يميّز “التقي الماما” انها شركة متعهدة للولائم وجمعية في الوقت نفسه. فقد طوّر الأصدقاء الثلاثة من خلال شركتهم نموذجًا هجينًا لريادة الأعمال يجمع بين مؤسسة تبغي الربح (للعاملين بها وللنساء الطاهيات) من خلال خدمة تحضير الولائم، وفي الوقت نفسه يعمل على تكوين هاتي النساء مجاناً ليصبحن رائدات أعمال وفاعلات في المجتمع المُضيف.

كما يهدف المشروع للتصدي للوصف الشائع عن هذه النساء والذي يختصرهن بتعبير اللاجئات أو ربات البيوت. في فرنسا ما زال 46٪ من النساء من الضواحي الفقيرة وخاصة من العائلات ذات الأصول الأجنبية أو اللاجئات بسبب الحروب، مستبعدات من سوق العمل. وعادة ما يحدّ ضعف إتقانهن للغة البلد المضيف، والافتقار إلى الثقة بالنفس أو للإمكانات المادية من تغيير أوضاعهن بالاعتماد فقط على جهدهن الخاص.

يتضمن برنامج التكوين تزويد النساء بمجمل المهارات اللازمة لإطلاق منشآتهن الخاصة: تنظيم الوقت والإدارة، أعمال المحاسبة والترويج وامتلاك المعارف القانونية وتأمين شبكة علاقات وزبائن. كما يجري اعداد النساء للحصول على شهادة لممارسة المهنة من خلال مركز التدريب التابع للمنصة.

في حين يطالب بعض السياسيين الفرنسيين بانصهار المهاجرين أي تحللهن الكامل في ثقافة البلد المضيف والتخلي عن روابطهم الثقافية واللغوية ببلدان المنشأ، تدعو المنصة على العكس الى اندماج النساء في المجتمع من خلال التعرف على ثقافته والتماشي معها، لكن مع الحفاظ على فخرهن بثقافاتهن وأصولهن.

تبيّن الدراسات الراهنة إن المرأة المهاجرة تبادر لتطوير أوضاعها الشخصية والإفادة من المحيط الاجتماعي الأكثر انفتاحاً والفرص المتاحة لها في المجتمعات الغربية. فالنساء ينجحن أكثر من الرجال في الاندماج ودمج عائلاتهن في هذه المجتمعات، لأنهن أولاً لا يتعرضن كالرجال للعنصرية المباشرة التي تبقى بالأجمال موضوع تحد بين الذكور، ولأن النساء متحررات من عزة النفس المبالغ بها التي تعززها التربية الذكورية وتمنع الرجل من طلب المساعدة. فالنساء يسألن بسهولة عما يحتجن معرفته، ويلجأن الى المؤسسات الرسمية المحلية والجمعيات طلباً للمساعدة أو للتوجيه حول حقوقهن والخدمات المتاحة لهن. ومن هنا تظهر حيوية المشروع وأهميته للنساء.

وفّرت “التقي الماما” حتى اليوم ولائم لألفي شركة لجأت الى خدماتها، وأمّنت لكل امرأة طاهية أجراً بلغ 2000 يورو شهريًا على الأقل. علاوة على ذلك، تلتزم الشركة بمكافحة هدر الطعام والممارسات غير البيئية، وتستخدم العبوات من المواد المعاد تدويرها، وتحد من انبعاثات الكربون عبر تجميع خدمات التوصيل أو استخدام الدراجات. وتعمل من ناحية ثانية على الحصول على متبقيات المواد الغذائية التي تقترب من نهاية الصلاحية لاستخدامها سريعاً بدل رميها، والشراء من صغار المنتجين أو تفضيل المنتجات العضوية والموسمية. كل ذلك يساهم في زيادة الوعي بين النساء الطاهيات والزبائن حول الأهمية البيئية والغذائية للمشروع.

قامت المنصة منذ تأسيسها عام 2016 بتدريب مئتي طاهية من خلال سبعين دورة تدريبية ووضعت كتاباً عن تجربة النساء الطاهيات فضلاً عن انتاجها تطبيقاً للهاتف المحمول. كما نجحت بالوصول الى أكثر من مئتي ألف شخص من عشاق الطعام عبر تجربة مميزة تتيح للزيائن التعرف على ثقافات هذه البلدان في الوقت نفسه.

خلال فترة الحجر بسبب الكورونا، لم تتوقف الطاهيات عن العمل، فأطلقت المنصة مبادرة “البرادات التضامنية” التي أتاحت للأشخاص المحتاجين الوصول إلى التبرعات الغذائية المتروكة لهم في ثلاجات في مواقع مختلفة في الشوارع. وقد نظّمت لذلك حملة تبرعات، وساعدتها شركة توصيل الطعام الشهيرة “ديليفرو” في خدمة توصيل الأطباق مجاناً، كما قام عدد من التجار بتزويدها بالمنتجات غير المباعة لديهم. وهدفها من هذه المبادرات أيضاً التعريف بالشركة ودفع المواطنين والشركات للإنخراط في نشاطاتها.

فتحت المنصة مؤخراً رأسمالها للنساء الطاهيات والمواطنين الراغبين بالمساهمة في هذه التجربة من خلال إحدى منصّات التمويل التشاركي، ونجحت في جمع مليون وثماني مئة يورو لنشر نموذجها في فرنسا وعلى صعيد عالمي. والأهم انها تمكنت من اجتذاب توظيفات مالية من صناديق استثمار مسؤولة اجتماعية من خلال تخصصها بدعم مشاريع من هذا القبيل. وقد حرصت هذه الأخيرة على تقديم تمويل محدود للمنصة، حتى تبقى مساهمتها متواضعة في رأس المال حفاظاً على استقلالية المشروع.

ان مبادرة من هذا القبيل تساهم بلا شك في تغيير النظرة الى المهاجرين من أرقام يتقاذفها السياسيون فيما بينهم الى بشر حقيقيين يمتلكون صفات ومهارات. ذلك بوجه خاص في مرحلة السجالات الحامية اليوم في فرنسا قبيل الانتخابات الرئاسية في ربيع العام المقبل.

لزيارة الموقع: اضغط هنا

د. بولا الخوري باحثة وصحافية في علم الاجتماع

د. بولا الخوري، باحثة مشاركة في مركز التحليل والتدخل الاجتماعي CADIS في معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس EHESS - CNRS. لدى الخوري خبرة لأكثر من 20 عاماً كعالمة اجتماع وصحافية، حيث تساهم في تعميم نظريات العلوم الاجتماعية في الصحافة بغية جعلها بمتناول الجمهور غير الأكاديمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى