الاحدثالملف العربي الصيني

خمسون لبنان والصين (الجزء السادس والعشرون): العلاقات اللبنانية الصينية وتحديات التوجه شرقًا | كتب د.طلال عتريسي

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

بعد نحو عشر سنوات على إعلان استقلال لبنان تم توقيع أول إتفاق تجاري عام 1956 بين لبنان والصين. ما يعني أن أكثر من ستة عقود انقضت على هذا الإتفاق بين البلدين . لكن خلال هذه السنوات الطويلة شهدت كل من الصين ولبنان تغيرات كبيرة وعميقة في مجالات عدة سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية. لم تكن الصين في منتصف القرن الماضي عندما وقّعت أول اتفاقية تعاون مع لبنان بمثل تلك القوة التي هي عليها اليوم. فقد كانت قد خرجت للتو من مخاض تحولات داخلية وبدأت تتلمس طريقها نحو نهضة شاملة ستجعلها في مطلع هذه الألفية الثالثة في مصاف الدول الكبرى التي يحسب لها الجميع ألف حساب في المجالات العلمية والتقنية والاقتصادية، والتي جعلت معظم دول العالم تتوق للتعاون معها وقد تحولت الصين من بلد مغلق إلى بلد منفتح متقدم،ومن بلد فقير ضعيف إلى بلد مزدهر قوي، وأصبحت من أقوى اقتصادات العالم.

أما الولايات المتحدة من جهتها، وفي إطار نزعتها للتفرد العالمي، وبعد تورطها في حروب عدة في الشرق الأوسط، فقد اعتبرت الصعود الصيني المتنامي مثابة “تهديد استراتيجي” مستقبلي ينبغي التصدي له ومواجهته. وقد شنت واشنطن طيلة العقود الماضية، ولا تزال إلى اليوم حملات تحريض سياسية وإعلامية وضغوط اقتصادية لاعتقادها أن مثل هذه الضغوط يمكن أن تمنع أو تؤخر صعود الصين إلى مكانتها الدولية المتوقعة.

لبنان بدوره شهد خلال تلك السنوات منذ منتصف القرن الماضي تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية أدت الى حالات مختلفة ومتفاوتة من التقدم والتراجع. كما ساهمت الحروب الداخلية والإعتداءات الاسرائيلية في عدم استقرار أوضاعه السياسية والإجتماعية والإقتصادية. وكان لبنان بسبب موقعه الجغرافي عرضة للتنافس الإقليمي والدولي الذي ساهم خلال السنوات الماضية في تثبيت الإستقرار حينًا ، وفي تأجيج الصراعات وفي تعقيد الحلول السياسية والإقتصادية حينًا آخر.

يشهد لبنان اليوم، كما بات معلومًا أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية غير مسبوقة منذ عقود طويلة. ويدور النقاش في الداخل اللبناني بين الأطراف السياسية حول السبل المناسبة لوضع خارطة طريق لحل هذه المشكلات والخروج من هذه الأزمات، بعد الإنهيار الكبير في الأوضاع المالية والاقتصادية. وقد انقسم اللبنانيون حول هذه الخارطة بين من يدعو الى ما أطلق عليه “التوجه شرقا”، وبين من يرفض هذا التوجه لاعتبارات ثقافية واقتصادية وسياسية يرى من خلالها لبنان أقرب الى التوجه غربًا. إن خيار “التوجه شرقًا” يعني الصين بالدرجة الأولى التي ترى في لبنان الذي انضم الى مبادرة “الحزام والطريق” في 2017 “مركزًا للتجارة العربية ولعبور الصين من خلاله الى الشرق الأوسط”. وتنص المذكرة التي تم التوقيع عليها بين حكومة جمهورية الصين الشعبية وحكومة الجمهورية اللبنانية على “الترويج المشترك للتعاون في إطار الحزام الاقتصادي لطريق الحرير ومبادرة طريق الحريرالبحرية للقرن الواحد والعشرين”، وعلى تعاون الجانبين في مجالات ذات اهتمام مشترك منها النقل واللوجستيات والبنى التحتية، والاستثمار والتجارة، والطاقة والطاقة المتجدّدة والتبادل الثقافي والتبادل بين الشعوب والصحة والرياضة. كما انضم لبنان إلى البنك الآسيوي للاستثمار في العام 2018. لكن هذه المذكرة والإتفاقات لم يتم تفعيلها بالطرق المناسبة لغاية اليوم بعد سنوات على توقيعها.

ولا يخفى أن الولايات المتحدة، تفرض عقوبات وحصاراقتصادي ومالي على لبنان لتغيير سياسته الخارجية ، ولفرض توازنات داخلية جديدة فيه لمصلحة “التوجه غربًا”. وفي إطار استراتيجيتها التي أشرنا إليها في مواجهة الصين، ومن خلال سفارتها في لبنان، تعارض الولايات المتحدة علنًا الدعوات الى التوجه شرقًا. علمًا بأن الصين أبدت استعدادها، كما صرّح السفير الصيني في لبنان تشيان مينجيان للمساهمة في إعادة إعمار مرفأ بيروت بعد التدمير الذي تعرض له إثر تفجير 4 آب/أغسطس 2020 ، وأن الشركات الصينية مستعدة لدرس مشاريع توسعة وتطوير المرافئ اللبنانية.وهي مستعدة أيضًا لتنفيذ مشاريع أخرى في مجالات الطاقة والنقل وسماها.

وعلى الرغم من التعاون الثقافي المهم بين لبنان والصين وتبادل الوفود العلمية والأكاديمية في السنوات الماضية وتأثيراته الإيجابية، وعلى الرغم من الإستعداد الصيني لمزيد من التعاون في هذه المجالات وما تمتلكه الصين من ثروات عميقة ثقافية وفنية وعلمية ،إلا أن جزءًا من اللبنانيين يرون أنفسهم أقرب الى الثقافة الغربية المهيمنة والى التعليم الغربي. وهذا يعود من جهة الى الاحتلال الفرنسي للبنان من جهة، ومن جهة ثانية الى التوجه غربًا لدى كثير من النخب اللبنانية ، التي تأثرت بالأدوار التي لعبتها الجامعتين الأميركية واليسوعية في تعزيز هذا التوجه الغربي.

إن الشركات الصينية ، وبحسب السفير الصيني السابق في لبنان ونغ كجيان، كانت تحاول منذ عقد تقريبًا، عرض وإطلاق مشاريع كبيرة في لبنان، وقد قدّمت هذه الشركات، عروضًا للسلطات اللبنانية المعنية، وأبدت تلك الشركات استعدادها بشكل خاص، للاستثمار في البنُى التحتية وفي قطاعات الكهرباء والماء والاتصالات والخدمات والانشاءات، لكن ذلك كله قوبل بالتريث من قبل الجانب اللبناني!

إن إعلان الصين استعدادها الدائم للتعاون مع لبنان في مناسبات مختلفة وفي المجالات التي يحتاجها كافة لا يكفي بتقديرنا لتطوير العلاقات بين البلدين. وإذا كانت الصين تدرك تمامًا كما يقول سفيرها في لبنان “أهمية صيغة التنوع والتعدد التي يمتازبها لبنان” فإنها تدرك ايضًا أن لبنان في الوقت نفسه عرضة للتدخل الأميركي وللضغوط الأميركية الإقتصادية والسياسية، وأن الولايات المتحد لن تتسامح بتطوير العلاقات والشراكات بين الصين ولبنان، خاصة وأن بكين “تعتبر لبنان محطة محورية هامة تاريخيًا وحلقة حيوية في مبادرة الحزام والطريق في المرحلة المعاصرة”.

إن حضور الصين وصداقة الصين تتطلع اليه شعوب العالم التي سئمت الهيمنة الغربية والتدخل الأميركي خاصة في بلدان الشرق الأوسط ومنها لبنان. ولا شك أن الإدارة الأميركية التي جعلت الصين “تهديدًا استراتيجيًا” تعمل ليل نهار لتطويقه ، وهي تعمل لمنع نجاح مبادرة الطريق والحزام، لن تسمح ببساطة بفتح الأبواب والجسور أمام الشركات الصينية بالقدوم الى لبنان، على الرغم من حاجة هذا الأخير إلى مثل هذا التعاون في مجالات الطاقة والمرافئ والمواصلات والبنى التحتية. ما يعني أن حضور الصين سواء في إطار تقديم المساعدة للبنان او نسج العلاقات الثنائية، أو تنفيذ التزامات وعقود لبناء محطات كهربائية أو سكك حديد أوغيرها مما يحتاجه لبنان لا يمكن أن يتحقق بالنوايا الطيبة فقط أو بالإستعداد للتعاون كما يردد ذلك قادة الصين وديبلوماسيوها في مناسبات مختلفة.

إن حضور الصين في لبنان ذي الموقع الإستراتيجي ستعتبره الولايات المتحدة جزءًا من الصراع معها على التنافس الدولي، خاصة بعد التراجع الكبير في النفوذ الأميركي في العالم. ولذا تحتاج الصين مع استعدادها الإقتصادي والإستثماري إلى طلب تفعيل اتفاقياتها مع لبنان، وإلى “جرعة” سياسية تجعل الصين في الجبهة المقابلة للجبهة التي تقف فيها الولايات المتحدة، وبحيث تكون هذه “الجرعة” في مصلحة من يدعو الى التوجه شرقًا ، وفي مصلحة المواجهة مع الهيمنة الغربية ومع نزعة التفرد الأميركي في العالم.

لمتابعة أجزاء السلسلة: اضغط هنا

د.طلال عتريسي، أكاديمي وباحث في الشؤون الإستراتيجية

د. طلال عتريسي استاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية، وباحث في قضايا الشرق الأوسط. أستاذ محاضر في كلية القيادة والأركان في الجيش اللبناني، مستشار وعضو في هيئات ومؤسسات أكاديمية وعلمية. نشر دراسات وأبحاث، وشارك في مؤتمرات إقليمية ودولية حول قضايا الشرق الأوسط الثقافية والسياسية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى