الاحدثقراءات معمقة

العملات المشفرة والاستِثمارُ الاجتماعي: إتّجاهاتٌ لا يُمكِنُ تجاهُلها | بقلم البروفِسور بيار الخوري

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

تَكتَسِبُ العملات المشفرة (cryptocurrency) تَنامٍ مُضطَرِدٍ في الاهتمام والشعبية عبر العالم وبين المُستثمرين. وقد بدا ذلك الاهتمام منذ ولادة “بيتكوين” رائدة العملات المشفرة في العام 2009، إذ وفقًا لموقع “ستاتيستا”، فإن تلك العملات التي كان عددها 66 في العام 2013 قد نمت بشكل لوغاريتمي حتى بلغت أكثر من 7,500 عملة في أواخر العام 2021.

حصل ذلك رُغمَ الانتكاسة الكبيرة التي شهدتها العُملات المُشَفَّرة في العام 2017، والتقلّبات الحادّة اعتبارًا من العام 2020، إذ لم تمنع تلك الانتكاسة هذه العملات من الإستمرار في زيادة عددها كما في حجم رسملتها عبر العالم. إن التطوّرَ غير المسبوق في سوق العملات المُشَفّرة، إن كان من حيث عدد العملات المُستَخدَمة أو من حيث حجم الرساميل التي اندرجت في هذا النوع من الاستثمار، قد استند الى التكنولوجيا الاساسية الداعمة للعملات المُشفّرة والمعروفة بتقنية سلسلة الكتل “بلوك تشين” (Blockchain). تتنامى شعبية العملات المُشفّرة لكونها عملات غير مُدارة مركزيًا ولا تتطلّب تدخّل البنوك المركزية في عملياتِ تبادلِ المدفوعات الافتراضية ثمنًا للسلع والخدمات كما كأداةٍ لتعظيم الثروة. وهذا ما حوّلها الى شكلٍ من أشكال الإعتراض الاجتماعي على النقود التي تُصدِرُها الدول، والتي هي عرضةٌ لمخاطرِ السياسات النقدية التي تملك سلطةً مُطلقة في زيادة الكتلة النقدية عبر خلق النقد بما يؤثّر في مستوى الأسعار وإعادة توزيع الثروات عبر التضخّم.

لا يُمكن من خلال العقد الذكي الذي تحميه تقنية ك”بلوك تشين”، أن تقومَ أيّ جهة بإصدارِ كمية من العملة المُشَفَّرة ووضعها في الأسواق بشكلٍ اعتباطي، أو وفقًا لمصالح سياسية أو لمصالح مجموعاتٍ خاصة ضمن الدولة أو المجموعات الحاكمة. بيتكوين، على سبيل المثال، تَعِدُ باصدار 21 مليون قطعة مُشَفَّرة لا يمكن بعدها إصدار أي قطعة أخرى، ونحن على مسافةٍ زمنية طويلة من انتهاء هذا الإصدار، لأننا كلّما تقدّمنا في الزمن صعبت عملية تعدين قطعة مُشَفّرة واحدة، يُناسب ذلك مروحة واسعة من المُعترضين على النظام المالي الدولي.

لا يخفى على احد انه حتى المنظمات الارهابية تستخدم هذا النوع من العملات، ولكن لا يجوز وصم استخدام هذه العملات بصفة الإرهاب، رُغم أن المنظمات المالية والهيئات الرقابية الدوليتين تحاول دائمًا ان تربط بين استخدام العملات المشفّرة والعمليات غير المشروعة من تبييض الأموال إلى تمويل الإرهاب.

الناس في مختلف البلدان والذين يتمتّعون بمُثُلٍ وقِيَمٍ ليبرالية ينجذبون نحو هذه السمة المتمرّدة للعملات المُشفّرة، وهي القائمة على تلك الطبيعه اللامركزية والتي لا تستند إلى حفنة صغيرة من صانعي القرار.

ليس من المصادفة أن أكبر استثمارَين نموًّا في العالم اليوم هما تقنية بلوك تشين والكربتو ورسملة الشركات التي تُنفق بشكلٍ جلي لا لبس فيه على أنشطة المسؤولية الاجتماعية والبيئة وحماية الكوكب. هذا الواقع يرشدنا بشكلٍ قوي الى أن هناك جمهورًا كبيرًا، لا فقط من غير المُستفيدين من النظام الراسمالي، بل من عصب االمُستثمرين في النظام الرأسمالي وأصحاب الثروات الكبرى الذين باتوا يعترضون بخيارات توظيف أموالهم على هذا النظام الذي لا قلب له ولا رحمة. هناك مجتمع متوسّعٌ باضطراد من المستثمرين الذين ينظرون إليه بعين الريبة خصوصًا بعد أزمة العام 2008 التي حوّلت الثروات لمصلحة تعويم النخب المالية على حساب تعب عشرات السنين للمستثمرين وأصحاب الثروات. (يمكن مراجعة بحث سين ستانلي من جامعة والدن حول العلاقة الارتباطية بين المسؤولية الاجتماعية وأداء الشركات العامة المالي).

رُغم الدوافع المختلفة، وربما المتناقضة، للاستثمار في العملات المُشفّرة والاستثمار في الأدوات المالية للشركات التي تُراعي المسؤولية الاجتماعيه والبيئية في مقابل تلك التي تسعى إلى تعظيم ثروة الشركاء (وفقًا لنظرية ميلتون فريدمان)، حيث تقوم الثانية على دراسةٍ مُتأنّية لعناصر الصورة الكبرى في الاقتصاد والمال والسياسة، فإن الاستثمار في العملات المشفّرة لديه القليل من المستند المعرفي في الاقتصاد الكلي لتفسير تحرّكات أسعار هذه العملات. بمعنى آخر يبدو الاستثمار بهذه العملات أكثر عشوائية من ناحية قوانين الاستثمار المالي، وأيضًا يُعتبَر حجم العملات المتورّطة في هذه السوق كبيرة ولكنه عرضة في كل يوم لفقدان القيمة والتحوّل الى الوضع الصفري.

ان دلّ ذلك على شيء فعلى طريقة نموّ أيّ مولودٍ جديد التي تتسم بالعشوائية وبخلق أشكال مسخ منها حتى يتم اصطفاءالأفضل مع الوقت. لكن الثابت المُشترَك بين المُشفَّرات والاستثمار ذات الطابع الاجتماعي هو الاعتراض العميق على النظام النقدي الدولي. يجب أن نراقب نمو هذين الاتجاهين فى الاستثمار ونراقب أيضًا تقنية “بلوك تشين” وما يمكن ان تنتجه من أدواتٍ أُخرى تُتيح تجاوز السلطة المتحكّمة بالنظام المالي الدولي نحو قِيَمٍ أكثر إنسانية في التعامل مع المال، لكن ذلك قد يحتاج إلى عشرات السنين إلى الأمام.

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى