أمنقراءات معمقة

العملات المشفرة.. السلاح الرقمي الجديد

لا تقتصر الأنشطة الإرهابية على أعمال العنف وحدها، فالتواجد الفعلي للكيانات المتطرفة عبر الفضاء السيبراني وبخاصة مواقع التواصل الاجتماعي يشكل تهديدا صريحا للمجتمعات كافة فيما يعرف بالجريمة الرقمية.

التنظيمات الإرهابية والعملات الرقمية

لقد أصبحت العملات الرقمية المشفرة بمثابة سلاح سري جديد بحوزة التنظيمات الإرهابية في محاولة منها للتحايل على الجهود الرسمية المبذولة من قبل الحكومات والأجهزة الأمنية لتعقب مصادر تمويل تلك الجماعات بهدف العمل على وقف أنشطتها الدموية.

 الأمر الذي أثار العديد من المخاوف بشأن اتجاه تلك التنظيمات نحو استخدام العملات الرقمية في كافة معاملاتها المالية حيث يصعب تعقب أصحابات الحسابات البنكية الرقمية والتعرف إلى هوياتهم. مما يسهل على التنظيمات المتطرفة تمويل أنشطتهم دون الوقوع تحت طائلة القانون.

ويعتبر إخفاء الهوية هو حجز الزاوية عند الحديث عن تبني العملات المشفرة كآلية جديدة لتمويل الأنشطة الإرهابية، فالتنظيمات المتطرفة تبذل ما بوسعها دائما لضمان سرية بيانات الحسابات التي يتم من خلالها تداول الأموال.

العملات الافتراضية .. والجريمة الرقمية

لا تقتصر الأنشطة الإرهابية على أعمال العنف وحدها، فالتواجد الفعلي للكيانات المتطرفة عبر الفضاء السيبراني وبخاصة مواقع التواصل الاجتماعي يشكل تهديدا صريحا للمجتمعات كافة فيما يعرف بالجريمة الرقمية. يكفي أن تقع عينك على منشور أو تشاهد مقطع مصور يحمل من الأفكار التي تحض على العنف ما يجعلك تستشعر الخطر، أو قد يحيد فكرك عن الطريق المستقيم لتتساءل هل أولئك القوم على صواب! وهذا ما يريده الإرهابيون حقا؛ اللعب على وتيرة المشاعر ليدفعوا البعض نحو الإيمان بهم. ولأنهم آثروا الانترنت كمساحة لنشر أفكارهم، فالاعتماد على العملات الرقمية قد بات السبيل الأكثر أمنا لهم لتحويل أفكارهم ومخططاتهم إلى حقيقة مفزعة على أرض الواقع. وبالتالي فإنه وجود العملات المشفرة يضمن للمتطرفين استمرار كل من أنشطتهم الدعائية والإرهابية، الأمر الذي دفع عدد من الأجهزة الأمنية عبر العالم نحو دق ناقوس الخطر تجاه تلك العملات الرقمية.

آليات استخدام التنظيمات الإرهابية للعملات الافتراضية

لابد من دراسة آليات استخدام التنظيمات الإرهابية للعملات الرقمية في ضوء طبيعة الأنشطة التي تمارسها، ومدى توافر بنية تحتية ملائمة من التكنولوجيا الحديثة التي تخول لها إتمام العمليات المالية باستخدام تلك العملات والتي تتمثل في استقبال الأموال من الجهات المانحة، وتحديد أوجه الإنفاق. كما أن طبيعة احتياجات تلك المنظمات من العملات هي التي تحدد بالأساس درجة اعتمادها عليها.

ورغم اختلاف الأهداف والتوجهات بين التنظيمات الإرهابية ذائعة الصيت عالميا مثل القاعدة، وداعش و..غيرها، إلا أن جميعها يسعى للتمتع بالمزايا التي من المفترض أن توفرها العملات المشفرة وبخاصة الأمان الرقمي، وسرعة وسهولة تداول الأموال.

كما أن مدى اعتماد التنظيمات الإرهابية على العملات المشفرة يتحدد في ضوء مدى قدرة تلك العملات على الاستمرارية والصمود في وجه القوى المعادية لها كقوات إنفاذ القانون، كما أن الاقتتال الداخلي في سوق العملات المشفرة أيضا قد يهدد بقاء الكثير منها.

هل تثق الجماعات الإرهابية في Bitcoin؟

لعل من أبرز التحديات المرتبطة بالعملة المشفرة الأكثر شهرة عالميا  Bitcoin هي مدى قدرتها على توفير خاصية “إخفاء الهوية “. وتعتبر العملات المشفرة مصدر جذب للخارجين عن القانون، نظراً لأنها تتيح لهم الاحتفاظ بالمال وتحويله دون سلطة مركزية، ويمكن لأي شخص في العالم إنشاء عنوان «بيتكوين»، والبدء في تلقي الرموز الرقمية دون حتى تقديم اسم أو عنوان.

وحقيقة الأمر، فإن المستخدم لا يمتلك البيتكوين إنما له الحق في صرف العديد منها التي ترتبط بعناوين مختلفة يتمكن من الوصول إليها. ووفقا لذلك فإن محفظة من البيتكوين هي مجموعة المعلومات المطلوبة التي تثبت ملكية عنوان متعلق بالبيتكوين والذي يسمح بدوره للمستخدم بصرف العملات المرتبطة بذلك العنوان.

ولعل ما جعل التنظيمات الإرهابية تحد من نطاق استخدامها للبيتكوين مؤخرا هو “إعادة استخدام الشفرة” حيث بإمكان المستخدم الاعتماد على الشفرة نفسها لإتمام معاملات عدة مما يجعل تعقبه والكشف عن هويته أمرا يسيرا. هذا فضلا عن إمكانية تتبع المعاملات من خلال قيام السلطات بالكشف عن تزامن إرسال واستقبال البيانات عبر حسابات المستخدمين، والبيانات الخاصة بـ بروتوكول الانترنت (IP Adress) أيضا.

كيف تستغل العملات الرقمية في الأنشطة الإجرامية؟

هناك عدد من الأنشطة الإجرامية التي يمكن تنفيذها باستخدام العملات المشفرة كغسيل الأموال، والإتجار بالمواد المخدرة، وشراء الأسلحة. وتعتبر عملية غسيل الأموال باستخدام البيتكوين هي الأكثر شهرة بين الخارجين على القانون، كما أنها تسهل عليهم ممارسة كافة نشاطاتهم الأخرى. حيث يتم إخفاء أصول الأموال القذرة من خلال تحويلها إلى بيتكوين داخل محفظة مشفرة نظيفة، وذلك تمهيدا لتوظيف تلك الأموال وإجراء التحويلات المصرفية اللازمة التي تستهدف تمويل العمليات الإرهابية والأنشطة الإجرامية. فهذه العملة لا تخضع لأي جهة رقابية ولا تصدر عن أي بنك مركزي، ولا تتحكم فيها أي سلطة، ولا يوجد قانون متحكمً بها.

الإرهاب الجديد .. واللامركزية

يتمثل مصطلح الإرهاب الجديد في الاتجاهات الحديثة للتنظيمات الإرهابية والتي تعتمد في الأساس على الانتشار واللامركزية. ولعل ذلك ما يجعل تداول الأموال المشفرة بمنأى عن أعين السلطات أمرا يسيرا. ويمكن حصر أنماط الإرهاب الجديد في الآتي:

الذئاب المنفردة: وهم الأشخاص الذين يرتكبون أعمال عنف بشكل منفرد وليس تحت مظلة تنظيمية دفاعا عن فكر أو أويدولوجية معينة.

الخلايا الصغرى: حيث تقوم التنظيمات الكبرى بإنشاء فروع لها أصغر حجما في مناطق متفرقة حول العالم وذلك عبر تجنيد وكلاء تابعين لها لتحقيق المزيد من الانتشار.

فرض السيادة التامة: وذلك من خلال احتلال رقعة جغرافية واسعة وإخضاعها لقوانين التنظيم، والمثال الأبرز هو داعش.

ومن ثم فإن لا مركزية الإرهاب الجديد تجعل تتبع مصادر التمويل أو رصد أنشطة الجماعات المتطرفة أمرا بالغ التعقيد. )[6](

التبرعات الافتراضية بـ “البيتكوين” لتمويل الأنشطة الإرهابية

من الحيل الذكية التي لجأت إليها بعض التنظيمات الجهادية من أجل الحصول على المزيد من البيتكوين هي شن حملات دعائية موسعة عبر حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي لحث مؤيديهم على “التبرع من أجل الجهاد” على حد زعمهم. ولعل السابقة الأولى في ذلك ترجع إلى جماعة “مجلس شورى المجاهدين” التي تأسست في قطاع غزة عام 2012. فضلا عن الظهور المكثف لـ “كتائب القسام” الجناح العسكري لحركة حماس عبر منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الرسمية الخاصة بالتنظيم بهدف الدعوة إلى التبرع أيضا من خلال البيتكوين من أجل دعم ما يعرف في عقيدتهم بـ “المجاهدين “.

وتمكن التنظيم من الحصول على مبالغ طائلة من البيتكوين من خلال التبرعات، ما جعل حربا ضارية تُشن ضد منصاته الإعلامية إلى أن تم فعليا إغلاق حساباته الرئيسية عبر كل من فيسبوك وتويتر. كما أن ثمة محاولات أخرى للتحايل على السلطات الأمنية من خلال إطلاق مواقع تسوق وهمية على الانترنت كوسيلة لجمع التبرعات والحصول على التحويلات المالية، بحيث أصبحت الأنشطة التسويقية ستارا يخفي وراءه دعما صريحا للعمليات الإرهابية.

المنظمات الإرهابية.. والتيليجرام Telegram

لقد دفع تضييق الخناق الأمني على منصات التواصل الاجتماعي معظم التنظيمات الإرهابية إلى التوجه نحو تطبيق تيليجرام نظرا لما يمتلكه من معدلات حماية هائلة قد لا تتوافر في تطبيقات أخرى. ولعل الإعلان عن نية تيليجرام لإصدار محفظته المشفرة “Gram” قد أثار المزيد من المخاوف الأمنية بخصوص اتساع نطاق العمليات الإرهابية.

فالسيناريو المتوقع هنا هو أن الأمن المعلوماتي الذي تتيحه منصة تيليجرام بالاستناد إلى خاصية تشفير الرسائل (end-to-end encrypted messaging apps)، مصحوبا بإطلاق نوع جديد من العملات الرقمية والتي ربما يجد فيها الإرهابيون ضالتهم من حيث ميزة إخفاء هوية المستخدم وضمان سرية الحسابات، سيوفر لتلك المنظمات مظلة آمنة تساعدهم على ممارسة المزيد من أنشطتهم السرية التي تهدد البشرية. وبخاصة أن عدد من الخبراء قد أكدوا بأن خدمات مثل Grams لديها القدرة على تزويد الإرهابيين والجهات الإجرامية بطريقة للتحايل على نظام التنظيم المالي الدولي.

هل أثرت أزمة “كورونا” على مصادر تمويل الإرهاب؟

لا شك أن الأزمة الصحية العالمية قد أثرت بالسلب على اقتصاديات التنظيمات الإرهابية أيضا من حيث تقلص مصادر التمويل، وهذا ما أشارت إليه بعض التصريحات الرسمية إبان الأزمة لافتة إلى تلك المنظمات لن تجد المال الذى كان يصل لها من “الدول الراعية للإرهاب” .

ولعل هذا ما دفع العديد من الجماعات المتطرفة نحو استخدام العملات المشفرة كوسيلة للحصول على التحويلات المالية وشراء المتطلبات اللازمة لتنفيذ الهجمات الإرهابية. الأمر الذي أثار مخاوف عدد من الأجهزة الأمنية حول العالم من حيث احتمال تزايد نفوذ تلك الجماعات في زمن الكورونا. وبخاصة أن محاولات تضييق الخناق عليهم تمنحهم في العادة فرصة جديدة لمزيد من التحايل على السلطات، وذلك من خلال التوصل إلى حيل مبتكرة أو التنقل خلسة بين منصة وأخرى في محاولة منهم لإخفاء هوياتهم عبر الفضاء السيبراني.

هل وفرت العملات المشفرة الأمان التام للتنظيمات الإرهابية؟

رغم تزايد المخاوف خلال السنوات القليلة الماضية من احتمال تضخم مصادر التمويل الخاصة بالجماعات الإرهابية والمعتمدة في الأساس على العملات الافتراضية، إلا أن ثمة بعض القيود قد حالت دون الانتشار واسع المدى لهذه العملات. فهي في الحقيقة ليست حلا مناسبا لجميع الجهات الممولة للإرهاب، كما أن معظم الأنواع لا توفر ضمانا أكيدا بإخفاء الهوية، هذا فضلا عن أن بعض المناطق حول العالم تبدي قبولا محدودا للمعاملات النقدية الافتراضية.

 مما يمكن معه القول بأن تلك العملات حتى هذه اللحظة ليست الخيار الأمثل للتنظيمات الإرهابية. ولكن لا يمكن التسليم بهذا الأمر كقاعدة مطلقة، فالتكنولوجيا المستخدمة في التشفير قد يسهل تطويرها بين عشية وضحاها، كما أن داعمي الإرهاب لا يسأمون التحايل والالتفاف من أجل إيجاد السبل التي تيسر لهم أعمالهم في الفضاء الالكتروني.

البروفسور بيار بولس الخوري ناشر الموقع

البروفسور بيار بولس الخوري اكاديمي وباحث، خبير في الاقتصاد والاقتصاد السياسي، يعمل حاليا مستشار ومرشد تربوي ومستشار اعمال. عمل خبيراً اقتصادياً في مجموعة من البنوك المركزية العربية وتخصص في صناعة سياسات الاقتصاد الكلي لدى معهد صندوق النقد الدولي في واشنطن العاصمة. له اكثر من اربعين بحث علمي منشور في دوريات محكّمة دولياً واربع كتب نشرت في الولايات المتحدة والمانيا ولبنان تختص بإقتصاد وادارة التعليم العالي، ناشر موقع الملف الاستراتيجي وموقع بيروت يا بيروت المختص بالادب. منشأ بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة بوديو. كاتب مشارك في سلسلتي "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط" و" ١٧ تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان" المتوفرتان عبر امازون كيندل. في جعبته مئات المقابلات التلفزيونية والاذاعية والصحفية في لبنان والعالم العربي والعالم ومثلها مقالات في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية الرائدة. يشغل حالياً مركز نائب رئيس الجمعية العربية-الصينية للتعاون والتنمية وأمين سرّ الجمعية الاقتصادية اللبنانية وعميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى